المؤرخ نيال فيرجسون يراهن:

أمريكا ستنتصر في الحرب الباردة الثانية ضد الصين

أمريكا ستنتصر في الحرب الباردة الثانية ضد الصين

    عواقب فيروس كوفيد -19، أيديولوجيا اليقظة، معاداة السامية، وعودة الإمبراطوريات ... يقدم المؤرخ النجم رؤيته، بالضرورة، متمردة وصارمة، للقضايا الرئيسية الحالية.
   إنه أحد أشهر المؤرخين على هذا الكوكب، ويمكن القول إنه الأكثر استفزازًا. يستمتع نيل فيرجسون، الباحث في معهد هوفر بجامعة ستانفورد، باتخاذ مواقف متعارضة، بقدر ما يستمتع بان تتناول كتبه مواضيع واسعة ومتعددة التخصصات.
   في كتابه الممتع والمثير، “نهاية العالم، من العصور القديمة إلى يومنا هذا” (إصدارات سان سيمون)، يعود الأسكتلندي إلى تاريخ الكوارث، والإدارة السياسية لهذه الكوارث. في القائمة، الأوبئة بالطبع، ولكن أيضًا الزلازل أو أمواج تسونامي أو الحروب أو المجاعات.
   في مقابلة مطولة مع لاكسبريس الفرنسية، يضع نيل فيرجسون كوفيد-19 في منظور تاريخي، ويقدم تحليلاً متفردا لحركة الاستيقاظ، والتي يربطها برد فعل ديني مكفّر عن خطيئة. أخيرًا، يشرح المؤرخ لماذا، من وجهة نظره، دخلنا في حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وصين أضعف بكثير مما يُعتقد غالبًا...!
   * لا يهتم كتابك بالأوبئة فحسب، بل يهتم بجميع أنواع الكوارث، وتناول الردود السياسية على هذه الكوارث، لماذا هذا الاختيار؟
    - منذ بداية كوفيد -19، فكرت أن القيام بتاريخ شامل للكوارث، تحدّ مثير للاهتمام. نميل كثيرًا إلى فصل الكوارث إلى فئات مختلفة. وهناك كتب عن الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية ... وأعتقد أيضًا أن التمييز التقليدي بين الكوارث الطبيعية وتلك التي يسببها الإنسان مبالغ فيه بعض الشيء، لأن هناك تفاعلًا مستمرًا بين المجتمعات البشرية والطبيعة. خذ المجاعات، إنها ليست طبيعية، ولكنها غالبًا ما تكون ذات أصول بشرية.
    لكن هذا ينطبق على جميع الكوارث. حتى الضرر الناجم عن الزلزال، يعتمد على قرب ثغرة من مناطق حضرية ذات كثافة سكانية. وأكد وباء كوفيد-19، أن تأثير الفيروس يختلف اختلافًا كبيرًا حسب البلد. لقد عانت الولايات المتحدة، وهي قوة من المفترض أن تكون مستعدة تمامًا لهذا النوع من الأحداث، في إدارتها للأزمة الصحية، بينما سجلت تايوان، عام 2020، 7 أو 8 وفيات فقط. وبغض النظر عن أصل هذا الوباء -مرض حيواني المنشأ أو تسرب مختبري -فإن العواقب هي قبل كل شيء، سياسية واجتماعية.
   *كانت هناك العديد من المقارنات بين كوفيد-19 والإنفلونزا الإسبانية. لكن في رأيك، التشابه مع الأنفلونزا الآسيوية 1957-1958 أكثر صلة. ما يقرب من 5 ملايين حالة وفاة في العالم، والتي بلا شك تم التقليل من شأنها إلى حد كبير، ألا تجعلك تغيّر رأيك؟
   - بالنسبة لي، إن كوفيد-19 أقرب إلى الأنفلونزا الآسيوية، رغم ارتفاع معدل الوفيات بشكل ملحوظ منذ أن انتهيت من كتابة الكتاب. لا ننسى أن الإنفلونزا الإسبانية لا تزال تقتل أكثر من 2 بالمائة من سكان العالم. وتقدم الإنفلونزا الآسيوية بعض أوجه التشابه المثيرة للاهتمام، مع فيروس بدأ في الصين، قبل أن ينتشر بسرعة في جميع أنحاء العالم. ونظرًا لأن كبار السن فقط كانوا محصنين في ذلك الوقت، كانت هذه الأنفلونزا أكثر خطورة إلى حد ما، بما انها تقتل الشباب أيضًا.
   المفارقة، هي أن دولة مثل الولايات المتحدة، تمكنت بلا شك من إدارة الوباء في الفترة 1957-1958 أفضل مما كانت عليه مع كوفيد اليوم. في ذلك الوقت، تم تطوير لقاح بسرعة، دون وجود معارضة ضد اللقاح كما يجري في الوقت الحالي. اختلاف آخر: لم يكن الحجر الصحي ممكنًا بأي حال من الأحوال، لأنه لم تكن هناك موارد حديثة لتكنولوجيا المعلومات لتكون قادرًا على مواصلة العمل عن بعد. لذلك لم يكن هناك بديل: كان علينا انتظار وصول اللقاح، وقبول عدد الوفيات في الأثناء. ما أدهشني هو مدى انخفاض الأثر الاقتصادي لهذه الأنفلونزا الآسيوية. في حين مثل كوفيد-19 صدمة اقتصادية ضخمة، يمكن مقارنتها بحرب عالمية.
    بالنسبة لـ كوفيد-19، يبدو لي أن هناك خيارين رئيسيين قابلين للتطبيق. الأول، تايوان أو كوريا الجنوبية، كان الاختبار والتعقب بسرعة، في محاولة لاحتواء الوباء من البداية. لم تتمكن أي دولة غربية من تحقيق ذلك. الخيار الآخر الذي ثبت أنه حجر خفيف، أقل صرامة من ذاك الذي اعتمدته العديد من البلدان خلال الموجة الأولى، الا انه ثبتت استحالة الإبقاء عليه على المدى الطويل. وإذا استمعنا إلى نيل فيرجسون الآخر (عالم الأوبئة البريطاني الشهير، والذي يُنطق اسمه الأول بنفس طريقة نطق “نيل” المحرر)، لكنّا انتهينا مثل كوريا الشمالية (يضحك). لقد تعلمنا جميعًا من هذه التجربة الأولى للحجر، من أجل اتخاذ تدابير صحية أكثر دقة، وأقل اضطرابًا من وجهة نظر اقتصادية.
   *تمت الإشارة كثيرًا إلى إدارة القادة الشعبويين، مثل ترامب أو بولسونارو أو حتى بوريس جونسون. غالبًا ما كانت نتائج بلدانهم كارثية في مواجهة الوباء. ومع ذلك، فأنت تقول إنه لا ينبغي تقديم فيروس كورونا هذا على أنه “عدو الشعبويين»...
   - إنه الجانب المزعج بداخلي هو الذي يجعلني أقول ذلك (يضحك). هناك طريقة مبسطة لوصف ما حدث في هذه البلدان، بالقول “كل هذا خطأ ترامب”، أو “خطأ جونسون بالكامل”. هؤلاء القادة ارتكبوا أخطاء متعددة. حاولت في الكتاب أن أسرد القرارات السيئة التي اتخذها ترامب. كانت مهمة مستحيلة، كان هنالك الكثير. وقد ازداد الامر سوء بمرور الوقت، عندما كان في وضع يائس بشكل متزايد من وجهة نظر انتخابية.    لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا، هو مدى ارتباط هذه القرارات السياسية بشكل مباشر بمعدلات الوفيات. لا ننسى المسؤوليات الهامة للنظام. في البداية، لم تكن الولايات المتحدة قادرة على إجراء الاختبارات أو إجراء التعقب. وهذا مسؤولية مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها. علاوة على ذلك، فإن الحجر الصحي لم يكن ملزمًا بأي حال من الأحوال. وهذه الأخطاء ليست مرتبطة بشكل مباشر بالخيارات الرئاسية. إذا كان كل هذا خطأ ترامب، لكان الوباء قد توقف في الولايات المتحدة بعد أن غادر البيت الأبيض في يناير. ومن الواضح أن الأمر لم يكن كذلك. كما فشلت دول ديمقراطية أخرى، دون أن تنتخب زعيمًا شعبويًا. ليس الأمر كما لو أن بلجيكا، على سبيل المثال، في قبضة شعبوي. دائمًا ما يكون السياق السياسي أكثر تعقيدًا بقليل من الرغبة في وضع جميع المسؤوليات على عاتق شخص واحد، مهما كان قوياً.    عندما تريد أن تشرح عواقب كارثة ما، عليك أن تتدرّج في سلسلة القيادة. في بعض الأحيان تُنسب المسؤولية مباشرة إلى القائد. وهكذا، فإن ستالين هو سبب المجاعة الرهيبة في أوكرانيا، وماو مسؤول عن إخفاق القفزة العظيمة للأمام، لكن في حالة كوفيد-19، أعتقد أنه أيضًا فشل بيروقراطية الصحة العامة. في الولايات المتحدة أو بريطانيا العظمى، كان أي زعيم سيفشل في مواجهة هذا الوباء. يكفي أن نتساءل ما الذي كان سيفعله باراك أوباما في مواجهة فيروس قاتل، كما حدث عام 2009 على سبيل المثال. اعترف جو بايدن أنه إذا كانت أنفلونزا الخنازير H1N1 أكثر خطورة، لكانت كارثة. وكان الديمقراطيون آنذاك محظوظين لأن هذا الفيروس لم يكن أشدّ فتكًا.
   وبالتالي، فإن القادة الشعبويين جعلوا الأمور أسوأ في التعامل مع كوفيد-19، لكن لا نبالغ في أهمية ترامب أو جونسون. بنفس الطريقة التي لم تكن فيها تشيرنوبيل خطأ غورباتشوف. في الواقع، فشلت جميع الديمقراطيات الغربية في الاهتمام بتحذيرات السارس أو متلازمة الشرق الأوسط التنفسية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولم يكن لدى أحد خطة جائحة جيدة... كل الدول كانت تأمل ألا يحدث هذا.
   *بالنسبة للعديد من المراقبين، وخاصة الخضر، سيكون لـ كوفيد-19 تأثير على المدن الكبرى من خلال التسبب في نزوح جماعي من الريف. أنت لا تصدق ذلك على الإطلاق...
   - لقد عادت نيويورك، وارتفعت الإيجارات مرة أخرى! ولندن في وضع خاص بسبب البريكسيت، لكن الأمر يتطلب أكثر من هذا لقتل مدينة. هل لديك أطفال؟ بمجرد أن يصبحوا مراهقين، يكرهون الريف، ويحلمون فقط بالمدن الكبرى. وهذا عقلاني للغاية. لأنه إذا كنت شابًا، فيجب عليك تحقيق أقصى قدر من حياتك الاجتماعية، سواء من أجل لقاءاتك الرومانسية أو من أجل صداقاتك أو في حياتك المهنية. يمكن لأشخاص مثلي ممن هم في الخمسين من العمر، أن يتقاعدوا إلى المنطقة الخضراء، فقد صنعنا جميع أصدقائنا ومعظم وظائفنا. لكن الحقيقة هي أن المدن أماكن رائعة، خاصة للشباب.
  *يذكرنا بحثكم أنه في التاريخ، تصاحب الكوارث نظريات المؤامرة بشكل منتظم. وغالبا ما يستهدفون اليهود ...
   - كمؤرخ، إنه لأمر مدهش ان نرى إلى أي مدى يمكن لنظريات المؤامرة أن تستمر بمرور الزمن. في التسعينات، كتبت ملحمة روتشيلد، التي ارتبطت بظهور نظريات المؤامرة الحديثة في أوائل القرن التاسع عشر. لكن معاداة السامية أقدم بالطبع من ذلك. أثناء الطاعون الأسود، تم ذبح الجاليات اليهودية، كما حدث في فرانكفورت عام 1349. وفي نفس العام في ستراسبورغ، تم حرق اليهود أحياء. لذلك ليس من المستغرب أنه مع كل كارثة يجد بعض الناس طريقة لربط هذا باليهود. في بعض الأحيان، عليك أن تذهب بعيدًا جدًا لإقامة هذا الارتباط. في حالة كوفيد-19، بيل جيتس ليس يهوديًا، وجورج سوروس لم يطور لقاحًا. لكن في كل الاحوال، فإن نظريات المؤامرة ليست ملزمة بمسائل عقلانية... التفكير السحري ليس له حدود.
   في المقابل، اللافت للنظر هو أن نظريات المؤامرة هذه أقوى اليوم مما كانت عليه في الخمسينات من القرن الماضي. لم يكن أحد في ذلك الوقت يقول “امتنعوا عن لقاح الأنفلونزا الآسيوية لأن اللقاح سيسيطر على عقلك” أو “ لا تقم بتطعيم أطفالك ضد شلل الأطفال”. لقد أنشأ الإنترنت بعض الأدوات القوية لنشر هذه الأفكار المجنونة.
   وكما أوضحت في كتابي السابق “الساحة والبرج”، فإن الشبكات الاجتماعية ليست شيئًا جديدًا. لكن لدينا اليوم مشكلة حقيقية. مات ما لا يقل عن 100 ألف أمريكي، وربما أكثر، لأنهم صدقوا نظريات المؤامرة حول كوفيد-19. واختار الأشخاص الذين كان من الممكن تطعيمهم طواعية عدم القيام بذلك.
   وحسب استطلاع أجرته يوغوف والايكونيميست في يوليو الماضي، اعتقد نصف الأمريكيين غير المطعمين أن رقائق دقيقة موجودة في لقاحات ضد كوفيد-19. وبالطبع، فإن كل الذين يموتون اليوم من هذا الفيروس تقريبًا من الذين لم يتم تطعيمهم. إنه أمر خطير للغاية، وما زلنا لم نتوصل إلى كيفية إصلاحه.
   *أنت تؤكد أيضًا أن الكوارث غالبًا ما تكون مصحوبة بحركات الألفية والتديّن، مثل حركة الجلادين الذين يضربون أنفسهم بالسياط في الأماكن العامة. اليوم، حسب رأيكم، حركة اليقظة هي جزء من نفس منطق التكفير عن الذات ولماذا؟
   - علينا أن نعترف بأن شيئًا غريبًا جدًا حدث الصيف الماضي، بعد وفاة جورج فلويد. كنا في خضم وباء شديد العدوى، وفجأة اندلعت احتجاجات حاشدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة حول عنف الشرطة وقضية العرق. لقد شاهدت العديد من مقاطع الفيديو لهذه الاحتجاجات، ومن الواضح أنها لم تكن مجرد حركة سياسية، بل كان لها بعد ديني للغاية.    في ولاية كارولينا الشمالية، قامت الشرطة البيضاء بغسل أقدام القساوسة الأمريكيين من أصل أفريقي. وطالب شاب بلكنة إنجليزية يتحدث في مكبر صوت، بالتوبة نيابة عن “العرق الأبيض كله”. وفي واشنطن، ركع المتظاهرون على ركبتيهم، مرددين تخليهم عن امتياز البيض. حتى أن المتظاهرين البيض رسموا آثار السوط على ظهورهم. وأدركت أننا نتعامل مع حركة تكفير عن ذنب هائلة، واعترافات بالخطيئة. في لحظة سريالية، لا نزال في واشنطن، حاول أحد المتظاهرين أن يشرح لمجموعة مختلطة من ضباط الشرطة ما هي العنصرية المنهجية. أجاب شرطي أسود أن “أمريكا لديها مشكلة خطيئة”، وأمره بقراءة الكتاب المقدس، لا يمكن رؤية هذا الا في الولايات المتحدة فقط (يضحك).
   أعتقد أن العديد من المراقبين الغربيين لم يفهموا كيف أن البعد الديني هو المفتاح في هذا “الاستيقاظ العظيم” (“الصحوة الكبرى”، التي تحدد فترات التجديد الديني البروتستانتي، ملاحظة المحرر). في التاريخ، لوحظ دائمًا أن الأوبئة، وهي فترات من القلق الاجتماعي الشديد والخوف من الموت، تصاحبها ثورات دينية، ففي القرن الثالث عشر، شهدنا ظهور الجلادين خلال الطاعون الدبلي. لذلك عندما لاحظت حركة اليقظة، بدت مألوفة بالنسبة لي. لكنني لست الوحيد الذي أبدى هذه الملاحظة، فقد كتب أندرو سوليفان عن أهمية البعد الديني في حركة اليقظة هذه.
   *حتى أن هذا التدين كان مصحوبًا بموجة من تحطيم الأيقونات، مع التخريب وتدمير التماثيل ...
   - مثل البروتستانت في القرن السادس عشر، أو مثل البلاشفة والماويين في القرن العشرين، هاجم المتظاهرون التماثيل. غالبًا ما كانوا من جنرالات الكونفدرالية أو مالكي العبيد. لكن تم استهداف كريستوفر كولومبوس وجورج واشنطن وأوليسيس جرانت أيضًا.
   نحن لسنا حداثيين كما نعتقد، لقد حققنا إنجازات علمية وتكنولوجية عظيمة خلال القرنين أو الثلاثة قرون الماضية. لكننا ما زلنا أسرى أشكال الفكر السحري والديني، ولا شيء أفضل من وباء لتعزيز ذلك.
    لقد تمكنت البشرية بسرعة من تحديد تسلسل جينوم كورونا فيروس هذا. ومع ذلك، وبشكل جماعي، نواصل التصرف بشكل غير عقلاني. لقد كان “الدين وانحسار السحر” للمؤرخ كيث توماس، أحد الكلاسيكيات عندما كنت طالبًا في أكسفورد. وجهة نظره جذابة للغاية: بمرور الوقت، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ابتعدنا عن الساحرات والسحر لاحتضان العلم. لكن من الواضح اليوم أن التفكير السحري قد عاد (يضحك). حتى الأشخاص الذين يدّعون التفكير العقلاني غالبًا ما يستدعون “العلم” كما لو كان نوعًا من الألوهية. بينما في الواقع، رأينا خلال هذا الوباء أن العلماء استمروا في تغيير رأيهم.
    *تعود أيضًا في هذا الكتاب إلى أحد موضوعاتك المفضلة: الإمبراطوريات. بينما يبدو أن عالم اليوم يتكون من دول قومية، فإن الإمبراطوريات من وجهة نظرك موجودة في كل مكان إذا تأملنا عن كثب. شي جين بينغ يضاعف الإشارات إلى الماضي الإمبراطوري، ويرى بوتين نفسه قيصرًا، وأردوغان يريد إحياء الخلافة العثمانية ...
   - في الأوساط الأكاديمية، هناك عقلية مناهضة للإمبراطورية، حيث يمثل فيها الاستعمار شرًا مطلقًا. وهكذا يصر المؤرخون كثيرًا على قسوة الماضي الإمبراطوري. ولكن بفعل ذلك، فإن هؤلاء الأكاديميين أنفسهم يتجاهلون حقيقة أن الإمبراطوريات لا تزال موجودة، أو أن العبودية لا تزال موجودة حتى اليوم. أعرف زملاء منزعجين من أهوال الماضي أكثر من أهوال الحاضر (يضحك). لكن لا يمكننا تغيير الماضي. لقد تحدثت إلى أستاذة مشهورة من جامعة ييل الأسبوع الماضي، وأخبرتني أنها شعرت لدى طلابها بإيمان قوي بفكرة أنه يمكن تغيير الماضي، وأنه من الممكن “إلغاء” أهواله.
   اليوم، يتم التعامل مع التاريخ بأحكام قيمية من الحاضر رغم أن مجموعة كاملة من قيمنا الحالية حديثة جدًا، من وجهة نظر تاريخية، مثل الزواج من الجنس نفسه أو الزيجات العرقية. وبالتالي، من غير المجدي تمامًا أخذ نظام قيمنا للقرن الحادي والعشرين، والرغبة في تطبيقه على فترات تاريخية مختلفة. كمؤرخ، أعتقد أنه من المثير للاهتمام أكثر بكثير أن ننظر إلى الماضي من خلال محاولة فهم ما كانت عليه عقليات تلك الحقبة، مما يسمح لنا بإلقاء الضوء على أنفسنا.
   للرجوع إلى سؤالك، نعم، لم تختف الإمبراطوريات. توجد اليوم إمبراطوريتان كبيرتان متنافستان، الولايات المتحدة والصين. هناك إمبراطورية أقل قوة بكثير، روسيا. ثم هناك هذا الشيء الغريب الذي هو أوروبا، تقريبا “مناهضة للإمبراطورية”، هذه القارة كبيرة جدا من وجهة نظر جغرافية، لكنها ضعيفة سياسيا. لا تفعل أوروبا شيئًا مما هو متوقع من إمبراطورية، بدءً من وجود جيش قوي. أعلم أن وجهة نظري لا تحظى بشعبية في الأوساط الأكاديمية، مما يجعلني لا أحظى بشعبية كبيرة بين زملائي (يضحك).
   *أنت تطلق على التوترات المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة “حرب باردة جديدة”. هل أعاد كوفيد-19 إحياءها مرة أخرى؟
  - لقد تحدثت عن “الحرب الباردة” منذ عام 2019، لكنها لا تزال موضع جدل. ما بدأ عام 2018 كحرب تجارية تحول إلى مواجهة تكنولوجية حول الجيل الخامس، ولكن أيضًا مواجهة أيديولوجية. كان هنري كيسنجر نفسه، مصمم “التعايش السلمي”، قد اعترف، عندما سألته، أننا كنا في “سفوح حرب باردة».
   اليوم، يقول العديد من الخبراء أنه يجب تفادي هذه الحرب الباردة بأي ثمن، لكن ذلك شكل من أشكال الإنكار. ومن الواضح جدًا، أن وباء كوفيد-19 قد كثّفها أكثر، وكشف عن “الحرب الباردة الثانية” هذه.
   يدرك الكثيرون أن الصين تشكل تهديدًا حقيقيًا. وباستثناء إيطاليا أو المجر في عهد أوربان، شدّدت الدول الأوروبية موقفها فيما يتعلق بالصين. لقد أضعف الوباء حقًا جماعات الضغط المؤيدة للصين في الديمقراطيات الغربية، والحقيقة الرئيسية لـ كوفيد-19 هي أن كورونا فيروس هذا ظهر في الصين، وأن الحزب الشيوعي أخفاه لعدة أسابيع، مما سمح بانتشاره في جميع أنحاء العالم... إنها نقطة تحول جيوسياسية.
 لم تتسبب تشيرنوبيل في أي وفيات خارج الاتحاد السوفياتي، وكان هناك عدة ملايين. حاولت الصين أيضًا إحداث نتائج عكسية خرقاء للغاية، بإطلاق إشاعات بأن الفيروس تم استيراده من الخارج عن طريق المنتجات الاستهلاكية أو من قبل الجيش الأمريكي. وأصبح شي جين بينغ محمومًا أكثر فأكثر، حيث بدأ الاقتصاد الصيني يفقد قوته. ويحاول تعويض ذلك من خلال تعبئة المشاعر القومية، واتباع سياسة خارجية أكثر عدوانية، لذلك فإن هذه الحرب الباردة تتسارع فقط.
*أنت تشير بانتظام إلى عيوب الولايات المتحدة وثغراتها. لكن، في رأيك، تبقى الصين أضعف... ما الذي يدفعك لإجراء هذا التشخيص؟
   - أعتقد أننا نرتكب نفس الخطأ الذي حدث مع الاتحاد السوفياتي، حيث لا نرى مدى تعفن النظام الصيني من الداخل. نحن امام الية تسيير مركزية بالكامل، بدون سيادة القانون، بدون ملكية خاصة حقيقية، وبدون التزام بالمحاسبة. عندما تنظر إلى التركيبة السكانية والشيخوخة المتسارعة للسكان، فمن المؤكد أن النمو الصيني سينخفض بشكل أسرع بكثير مما يُعتقد عمومًا. ووفق دراسة أجرتها لانسيت، يمكن أن تفقد البلاد نصف سكانها بحلول نهاية القرن. اليد العاملة تتراجع بالفعل، ولا حلّ لديهم، ولا أحد يريد الهجرة إلى هذه الجمهورية الشعبية، كما لاحظت. لذلك يمكننا أن نتساءل كيف سيصمد هذا النظام عندما يكون النمو 2 بالمائة فقط.
   في مواجهته، كانت الولايات المتحدة دائمًا في وضع فوضوي. إنها ليست نموذجًا وفقًا لمعايير الديمقراطيات الغربية. لكن في الوقت نفسه، يتمتع هذا البلد بقوة ومرونة حتى أن ترامب فشل في خرق الدستور. وعلى عكس الصين، هناك هجرة قوية مما يسمح باستمرار استيراد المواهب الجديدة. وطالما تحافظ الولايات المتحدة على هذه العقلية، فستكون على ما يرام.
    أنا أراهن أنها ستنتصر في هذه الحرب الباردة الثانية... لكن هذا ليس مسلمة، لأن الأمريكيين يمكنهم إطلاق النار على أقدامهم بعدة طرق. لا ننسى أن الانتصار خلال الحرب الباردة الأولى لم يتم تحقيقه الا في ثمانينات القرن الماضي.
 ففي السبعينات، كانت الولايات المتحدة في وضع فوضوي بشكل خاص، مع ارتفاع معدلات العنف، أعلى مما هو عليه اليوم، فضلاً عن التضخم الكبير.
لكن وقد تفوقوا ضد الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، فهذا يعني أنهم يستطيعون التفوّق اليوم أيضًا ضد الصين.
*ماهي في رأيكم الكارثة الكبرى القادمة؟
- هذا بالطبع من المستحيل التنبؤ به. لا يوجد توزيع إحصائي طبيعي للكوارث. قد يكون هناك زلزال كبير، ثوران بركاني، سلالة جديدة من كوفيد مقاومة للقاح ... لكن التاريخ نادرا ما يعيد نفسه. ربما تأتي الكارثة الكبيرة التالية من هجوم إلكتروني، لأننا لم نشهد أبدًا آثار هجوم معولم يحجب الإنترنت بالكامل. ستكون الفوضى بسرعة كبيرة. ربما تكون هذه “البجعة السوداء” التالية، على حد تعبير نسيم نيكولاس طالب. وفي الوقت نفسه ، من الواضح جدًا أن شيئًا آخر سيحدث بالتأكيد (يضحك).
«أبوكاليبس... من العصور القديمة إلى يومنا هذا”، بقلم نيل فيرجسون، ترجمة لوران بوري الى الفرنسية “إصدارات سان سيمون، 400 صفحة»
عن لاكسبريس