ما يجري اليوم أعمق بكثير من خلاف مع رئيس بعينه

أوروبا وأمريكا… تحالف يترنّح في زمن التحولات الكبرى

أوروبا وأمريكا… تحالف يترنّح في زمن التحولات الكبرى


قالت ناتالي توتشي، مديرة معهد الشؤون الدولية في روما، إن العلاقات عبر الأطلسي تعيش أزمة يصعب ترميمها، مؤكدة أن التفاؤل بانتهاء هذه الأزمة مع رحيل دونالد ترامب ليس سوى «وهم خطير». وأضافت أن ما يجري اليوم أعمق بكثير من خلاف مع رئيس بعينه، إذ يعكس تحولات جذرية في النظام الدولي وفي البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية على جانبي الأطلسي. وتابعت موضحة أن العودة إلى «الأيام الذهبية» للشراكة التقليدية لم تعد ممكنة.

من خلافات عابرة
 إلى شرخ بنيوي
أوضحت توتشي، في مقالها بموقع صحيفة «غارديان» البريطانية، أن الواقع الحالي أكثر تعقيداً حتى مما كان عليه خلال فترة ترامب الأولى. ففي حين كانت التهديدات السابقة تقتصر على إمكانية فرض رسوم جمركية، يجد الأوروبيون أنفسهم اليوم أمام رسوم فعلية تصل إلى 15%.  وأضافت الكاتبة، وهي أستاذة جامعية بارزة في العلاقات الدولية تركز أبحاثها على السياسة الأوروبية والعلاقات عبر الأطلسي، أن المشهد تجلى في صور أورسولا فون دير لاين وهي تخفي قلقها بابتسامة مصطنعة بجوار ترامب.
وأشارت الكاتبة إلى أن التباين يتضح كذلك في المجال الأمني؛ فبينما زود ترامب أوكرانيا سابقاً بصواريخ «جافلين»، اكتفى اليوم بالسماح للدول الأوروبية بشراء السلاح الأميركي لكييف، متسامحاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يمشي مزهواً على البساط الأحمر. 
وقالت الكاتبة إن هذه الأمثلة تكشف أنّ الفجوة بين ضفتي الأطلسي لم تعد خلافاً سياسياً عابراً، بل تحوّلاً عميقاً في طبيعة العلاقة.

وهم «أمريكا عادت»
ولفتت الكاتبة النظر إلى أن انتخاب جو بايدن أعاد مؤقتاً الأمل بعودة الروح الأطلسية، خاصة بعد خطابه في ميونيخ عام 2021، حين قال بحماسة «أمريكا عادت».  وأضافت الكاتبة أن هذا الخطاب ربما كان آخر تجلٍ صادق لذلك الإرث التاريخي، لكن العوامل البنيوية من أمن وديموغرافيا وضغوط اقتصادية كانت تسير في الاتجاه المعاكس. وأوضحت أن الأوروبيين يدركون هذه الحقيقة عقلاً لكنهم يجدون صعوبة في تقبّلهــــــا وجدانيـــاً، لذلك يواصلون مجاملة ترامب أو تجنب إثارته، في وهمٍ بأن الماضي قد يعـــود فجأة، وهـــــو وهــــم خطير يفاقــــم هشـاشة الموقف الأوروبي.

السيناريو الأول:
 شراكة نفعية بلا قيم
أوضحت الكاتبة أن أمام أوروبا مسارين رئيسيين. الأول هو ما أسمته «النموذج المعاملاتي النفعي»، حيث تبقى العلاقة مع أمريكا قائمة على المصالح فقط، بلا قيم مشتركة أو التزامات طويلة الأمد.  وأضافت أن أوروبا، في هذا السيناريو، ستضطر إلى التعامل مع أميركا كما تفعل مع روسيا أو الصين أو الهند، وفق منطق المصلحة البحتة.
وتابعت أن هذا يتطلب تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية عبر تطوير الصناعات الدفاعية، والاستثمار في القدرات الأوكرانية، وتنويع الشراكات التجارية مع أمريكا اللاتينية والهند والمحيط الهادئ، بل وحتى التفكير في نظام تجاري عالمي موازٍ يبتعد عن الهيمنة الأمريكية. 
ورغم أن هذا النموذج ليس مثالياً، إلا أنه يمنح أوروبا مساحة أوسع للحركـــة وقدرة أكبر على التكيّف.

السيناريو الثاني: عالم الإمبراطوريات
أما السيناريو الثاني، وفق توتشي، فهو «الأشد قتامة وخطورة»، حيث تتقاسم القوى الكبرى مناطق النفوذ عبر صفقات عابرة بلا قواعد قانونية راسخة. وأضافت أن هذا هو المنحى الذي يميل إليه ترامب، إذ ينظر إلى أوروبا بعقلية استعمارية، لا كشريك متكافئ، وإنما كـ»مستعمرة قابلة للابتزاز».
وتابعت الكاتبة أن التقارب بين شي جين بينغ وفلاديمير بوتين وناريندرا مودي قد يمهّد لتفاهمات إقليمية جديدة تُقصي أوروبا من مراكز صنع القرار. والأسوأ، برأي الكاتبة، أن القارة العجوز ستجد نفسها محاصرة بين مطرقة الطموحات الروسية وسندان الضغوط الأمريكية، بينما تتحين الصين اللحظة لتوسيع نفوذها.

خطر الانزلاق الأوروبي
أشارت توتشي إلى أن سلوك القادة الأوروبيين في الأشهر الأخيرة يزيد الوضع سوءاً، إذ غرقوا في مظاهر التملق لترامب عبر صور ورسائل وهدايا باهظة. 
وأضافت الكاتبة أن هذه التصرفات لا تحصد سوى ابتسامات عابرة، بل تعزز قناعته بأن أوروبا كيان تابع يمكن ابتزازه، مؤكدة أن هذا النهج يكشف عن ضعف تكتيكي وينذر بتداعٍ استراتيجي طويل الأمد.

الواقعية الأوروبية
 طريق النجاة
وختمت ناتالي توتشي مقالها بالتأكيد على أنّ الحقيقة الواضحة هي أنّ أوروبا لن تنجو إلا إذا تخلّت عن وهم استعادة الماضي، وأقرّت بأن التحالف التقليدي مع الولايات المتحدة قد انتهى فعلياً. 
وأضافت أن المطلوب اليوم هو بناء استقلالية استراتيجية وتعزيز الوحدة الداخلية في مجالات الدفاع والتجارة والسياسة الخارجية.