لإدامة الهيمنة، نشر الانقسام:

أوكرانيا: حرب غير مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا

أوكرانيا: حرب غير مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا

-- تؤجج المؤسسة الأمريكية وامتداداتها الإعلامية والأكاديمية نزعـة المحافظين الجــدد، وبالتالي رهـاب روسـيا والصينوفوبيا
-- مثل الدول المهيمنة في الماضي، لن تتنازل الولايات المتحدة طواعية عن المركز الأول
-- توريط روسيا في صراع طويل في أوكرانيا على أمل تقويضها
-- أوكرانيا مدعوة للتضحية بنفسها لأطول فترة ممكنة حتى يمكن تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية
-- يعتقد الأمريكان أن التدخل في أفغانستان تسبب في تفكيك الاتحاد السوفياتي ويريدون إعادة السيناريو في أوكرانيا


   قوضت العاطفة والانحياز المحيطان بالصراع في أوكرانيا فهمه إلى حد كبير. في الدول الغربية، خلق جو من العداء المشترك فكرة واحدة لا تتسامح مع التناقض. إن حصيلة الاقتتال هي التي ستبدد دخان الخطاب الموالي والمنحاز، وتجعل من الممكن توضيح أشياء كثيرة... لنحاول مع ذلك إجراء تقييم مؤقت.

بايدن وروسيا
   يشير وصول جو بايدن إلى السلطة في يناير 2021 إلى اشتداد المواجهة مع روسيا. تحت حكم دونالد ترامب، كان الهوس هو الصين. ولا يزال ذاك الهوس يستحوذ على إدارة بايدن، لكنها أطلقت العنان للمنازعات المعادية لروسيا في أيام كلينتون وأوباما.   المحافظون الجدد في المشهد، وفيكتوريا نولاند، مؤلفة كتاب “اللعنة على الاتحاد الأوروبي”، استعادت موقعًا في القمة، ولم يعد ترامب حاجزا في طريقهم، وتظل روسيا دائمًا دابتهم السوداء.

   منذ بداية إدارة بايدن، زادت شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا. وجرت مناورات عسكرية برية وبحرية واسعة النطاق لحلف شمال الأطلسي على حدود روسيا في مارس -أبريل 2021. وتلى ذلك تمرين بحري في البحر الأسود خلال صيف عام 2021. وقامت القاذفات النووية B-1 برحلات استطلاعية في البحر الأسود وعلى حافة روسيا في أكتوبر 2021. ودخلت مدمرة وسفينة قيادة، البحر الأسود في نوفمبر 2021. وفي نهاية عام 2021، تم رفض المقترحات الروسية لمعاهدات أمنية في أوروبا.    يُفسر التصعيد ضد روسيا جزئيًا بالضعف السياسي لبايدن: الفرار الجماعي من أفغانستان، المشاريع المحظورة في مجلس الشيوخ، الإعلان عن الهزيمة في انتخابات التجديد النصفي. وكتتويج على الكعكة، تصعيد التوترات مع روسيا قد يضر بترشيح المنافس الآخر للبيت الأبيض، ترامب “الموالي لروسيا».

الجغرافيا السياسية أولا
   الحسابات السياسية من هذا النوع لها مكانها بلا شك، لكنها ليست كافية. ان الرهانات الجيوسياسية أهم بكثير. تؤجج المؤسسة الأمريكية بأكملها، وامتداداتها الإعلامية والأكاديمية، نزعة المحافظين الجدد، وبالتالي رهاب روسيا والصينوفوبيا. هذا لأن روسيا والصين هما أقوى متحديين للهيمنة الأمريكية.     فالحقيقة الدولية المهيمنة في عصرنا، هي التشكيك في علوية الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة.
   إن عصر الهيمنة الأمريكية، الذي تم الاحتفال به على أنه “نهاية التاريخ” في 1989-1990، يقترب من نهايته. سيتفوق الاقتصاد الصيني على الاقتصاد الأمريكي قريباً. لقد نهضت روسيا وترفض التبعية.
   كلاهما يرفض الأحادية القطبية والاستثناء والوضع المتميز للدولار الذي يسمح للولايات المتحدة بالعيش على حساب الآخرين من خلال طباعة النقود الورقية. كلاهما يردد صدى مواقف العديد من البلدان. إن الانتقال من القطبية الأحادية إلى التعددية القطبية، هو الانتقال العظيم للعصر الحالي... ان العالم في طور إعادة التشكّل.

السلوك الطبيعي للإمبراطوريات
   مثل الدول المهيمنة في الماضي، لن تتنازل الولايات المتحدة طواعية عن المركز الأول. ومثل أسلافها، ستفعل كل شيء لإعاقة، وإذا أمكن قتل، أولئك الذين يتحدونها.
هذا ليس أصيلًا ولا مفاجئًا، هذا هو السلوك الطبيعي للإمبراطوريات. ومع ذلك، بالنسبة للولايات المتحدة، فإن المسار العسكري معقد بسبب حقيقة أن روسيا والصين قوتان نوويتان، ويمكنهما الرد.

لم يعد الأمر يتعلق بصربيا أو العراق أو أفغانستان أو سوريا أو ليبيا. في الوقت الحالي، على الأقل، الحرب النووية ليست الخيار الأول.
   وهذا ما يفرض إعطاء الأولوية لزعزعة الاستقرار وتغيير النظام والصراع على أطراف روسيا والصين على أمل خلق خراجات تثبيت تضر بكليهما.

   وبما أن الولايات المتحدة لا تستطيع شن حرب مباشرة، فإنها تصنعها بالوكالة في المناطق الحدودية التي تعمل كمنصات.
    وتلعب أوكرانيا وتايوان هذا الدور. ضغط دائم عسكري واقتصادي وسياسي على روسيا والصين لإحداث توترات، ومضاعفة الاستفزازات، وإشعال الشرر، ووضع جيرانهما ضدهما.
   إن السبيل إلى إدامة الهيمنة هو نشر الانقسام. كانت الإمبريالية البريطانية سيدة الماضي في هذه المسألة لثلاثة قرون وهي اليوم تعمل كوصي على نسلها. أعلن قادة الولايات المتحدة صراحة منذ عام 2021 عن رغبتهم في توريط روسيا في صراع طويل الأمد في أوكرانيا على أمل تقويضها. إنهم يعتقدون أن التدخل في أفغانستان في الثمانينات تسبب في تفكيك الاتحاد السوفياتي، ويقولون إنهم يريدون إعادة تشكيله في أوكرانيا.

أوكرانيا المسكينة
   في الوقت الحاضر، يتم ضخ الأسلحة الغربية الى أوكرانيا. وهي مدعوة للتضحية بنفسها لأطول فترة ممكنة حتى يمكن تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية المتمثلة في نزيف روسيا، وخنقها الاقتصادي، وإسقاط نظامها.
   ومن هنا جاءت الرواية الرسمية، التي يعاد ترديدها باستمرار، أن روسيا تخسر الحرب، وأن النصر الأوكراني قريب، وأن كل دونباس وحتى شبه جزيرة القرم ستتم استعادتها.

   وفي نفس الوقت، تخسر أوكرانيا ما بين 100 إلى 200 رجل يوميًا، مع إصابة ثلاثة إلى أربعة أضعاف هذا العدد. هل ستبقى وحدها في المعركة حتى ينفد حطب المحرقة علف المدفع؟ انها تخسر المناطق الناطقة بالروسية التي لن تراها مرة أخرى.
   من المرجح أن تكون الصحوة في نهاية هذا الصراع عنيفة وقاسية مثل الحرب نفسها. إن اصطفاف بلد ما مع الأعداء البعيدين لجاره المباشر، والأكثر من ذلك قوة عظمى، هو وصفة مأساوية لأنه يصبح ضحية قربانية لمواجهة تتجاوزه... والأسوأ، أننا لا نرى كيف نمنع هذه التراجيديا من الذهاب حتى نهايتها؟

* على التوالي، أستاذ التاريخ، وأستاذ الفلسفة المتقاعد، جامعة مونتريال