أية استراتيجية لفرنسا في المحيطين الهندي و الهادي ؟
شهد العالم ،بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، عام 1991 فترة عِقدين من الزمن لم يعد فيهما البحر يُمثل قضية إستراتيجية كبرى. و لكنه أصبح يكتسي هذه الأهمية مرة أخرى في بداية العقد الماضي ، عندما بدأ الصينيون في تنفيذ استراتيجيتهم البحرية التوسعية. عندها ظهر مفهوم المحيطين الهندي والهادي ، وهو فضاء بحري هائل يمتد من جيبوتي إلى هاواي ، مع وجود الصين في مركزه. ومنذ الانتصار الأمريكي على اليابان عام 1945 ، سيطرت البحرية الأمريكية على هذا الفضاء. لكن الحلم الصيني كان يتجه إلى إزاحة أمريكا على المدى الطويل إذ تعتقد الصين أن لا مكان لأمريكا في آسيا.
في أوائل عام 2010 ، لم تطلق الصين سياسة “طرق الحرير البحرية الجديدة” فحسب ، لكنها طالبت بالسيطرة على بحر الصين الجنوبي بأكمله من خلال “منطقة الخطوط التسعة” ، والتي تغطي مساحة تعادل البحر الأبيض المتوسط ، وبحر الصين الشرقي من خلال المطالبة بالسيادة على جزر سينكاكو ، التي تديرها اليابان منذ نهاية القرن التاسع عشر. لقد أخاف التوسع الصيني ، الذي يجسده أسطول حربي ينمو بشكل كبير و يتوسع كل ثلاث سنوات بما يعادل حمولة البحرية الفرنسية بأكملها جميع سكان هذين البحريين ، وبشكل أعم في معظم دول المحيطين الهندي والهادي، والذين دعوا الأمريكيين بشكل أو بآخر علانية بمغادرة المنطقة.
التحديات التي تواجه فرنسا
إن فرنسا ليست النمسا.وهي تتمتع في عرض البحار بمنطقة اقتصادية حصرية تبلغ مساحتها حوالي 10 ملايين كيلومتر مربع. و هذه ثاني أكبر منطقة اقتصادية حصرية في العالم ، بعد أمريكا (11 مليون كيلومتر مربع). ويقع 90% من المنطقة الاقتصادية الحصرية الفرنسية في منطقة المحيطين الهندي والهادي. في الأراضي الفرنسية في المحيطين الهندي والهادي “ريونيون ، مايوت ، بولينيزيا ، كاليدونيا الجديدة ، واليس وفوتونا ، كيرغولين ، إلخ” يعيش 1.6 مليون مواطن فرنسي.و تتمثل المهمة الرئيسية للبحرية في ضمان سلامتهم وحماية هذه الأراضي الفرنسية فيما وراء البحار، والحفاظ على ثروة المناطق الاقتصادية الحصرية المرتبطة بها.إن استقرار المنطقة يُمثل ضرورة قصوى لاقتصاد فرنسا ولحلفائها الأوروبيين, لذلك تعمل البحرية على الحفاظ على استقرار الفضاء البحري الضروري للاقتصاد الفرنسي.و من الأهمية بمكان عدم انقطاع التدفقات التي تزود أقاليم ما وراء البحار من فرنسا ، وكذلك تلك التي تجلب لها مواردها من الطاقة.وتتمثل الإستراتيجية الفرنسية في جذب أكبر عدد ممكن من السفن الحربية الأوروبية ،بما في ذلك البريطانية ، إلى الجزء الغربي من المحيطين الهندي والهادي ، بدءًا من الخليج العربي. لأن الحلفاء الأمريكيين بعيدون. و فيما تقع دبي على بعد خمسة عشر يومًا عن طريق البحر من مدينة طولون ، فإنها على مسافة ثلاثين يومًا من سان دييغو وهذا ما يسميه البحارة “استبداد المسافات». لم يعد للأمريكيين مجموعة قتالية دائمة في الخليج. لكن الخبير الاستراتيجي البحري الأمريكي ألفريد ماهان يقول: “إذا كنت تحتفظ بمكانة بالمحيط الهندي ، فأنت تحتفظ بآسيا.” وهذا هو السبب الذي من أجله افتتحت الصين ، على غرار فرنسا والولايات المتحدة ، قاعدة بحرية في جيبوتي ، عام 2017. وفي أغسطس 2022 ، استقبلت تشانغباي شان ، حاملة طائرات هليكوبتر برمائية يبلغ وزنها 25 ألف طن وطولها 210 أمتار.وخلال القمة المشتركة في 10 مارس 2023 في قصر الإليزيه ، قررت فرنسا والمملكة المتحدة تجميع مواردهما لتعزيز وجود مجموعة قتالية في هذه المنطقة. وخلال مهمتها الأخيرة في البحر ، ذهبت المجموعة الحاملة للطائرات النووية شارل ديغول - جوهرة التكنولوجيا العالية الفرنسية، إلى ميناء جوا الهندي. وتمكنت ثلاثة من طائرات رافال المُدمجة التابعة لها من تنفيذ مهمة في سنغافورة ، وهي دولة حليفة للغرب ، تسيطر على مضيق ملقا ، الذي يمر عبره 70% من الصادرات الصينية. كماتمكنت هذه المقاتلات من قطع المسافة بعد تزويدها بالوقود في رحلة بطائرة إيرباص 330 ام.أ.أر.ت.ت أقلعت من إمارة أبو ظبي. وبمجرد الوصول إلى هناك ، نفذت طائرات رافال العديد من التدريبات على المستوى التكتيكي جنبًا إلى جنب مع الطائرات المقاتلة السنغافورية ف15و ف 16.
المنافسون و التهديدات
المنافسون الرئيسيون لفرنسا في منطقة المحيطين الهندي والهادي هم الصين وإيران وروسيا وكوريا الشمالية. و تجري الصين وروسيا مناورات بحرية مشتركة كل عام ، تلتحق بها أحيانًا إيران. و قد سعى الحرس الثوري، من خلال عسكرة مضيق هرمز ، إلى تحويل الخليج إلى بحيرة إيرانية. لكن القوات البحرية الغربية منعتهم من تحقيق هذا الهدف . تبدو عملية إعادة التسلح البحري الصيني هائلة فمن عام 2000 إلى عام 2030 ، زاد عدد فيلق القتال الصيني من 100 إلى 500 سفينة حربية ، وزاد خفر السواحل من 140 إلى 750 وحدة. تقوم هذه القوارب بدوريات مستمرة في بحر الصين الجنوبي ، حيث تحاصر الصيادين من فيتنام المجاورة أو من الفلبين .كما استولت الصين على أكثر من عشرة شعاب مرجانية ، والتي كانت حتى ذلك الحين عبارة عن أرض خالية. لقد “احتلتها “وبنت مهابط جوية هناك. في عام 2015 ، خلال زيارة لواشنطن ، وعد الرئيس الصيني شي جين بينغ بعدم عسكرة هذه المناطق أبدًا. اليوم ، نجدها مجهزة بصواريخ وقاذفات قنابل استراتيجية تابعة لجيش التحرير الشعبي. و تُعد منطقة المحيطين الهندي والهادي أيضًا مسرحًا لتهريب المخدرات على نطاق واسع. وأهمها الهيروين التي يتم جلبها من أفغانستان والكريستال ميث( الميثامفيتامين) المُنتج في العديد من البلدان الآسيوية. يُوجه بعض هذا الهيروين عبر المحيط الهندي إلى موزمبيق ومدغشقر أو جزر سيشل حيث أصبح 10% من السكان النشطين مدمنين على الهيروين. يُوجه بعض هذا الهيروين عبر المحيط الهندي إلى موزمبيق ومدغشقر أو جزر سيشل،حيث أصبح 10% من السكان النشطين مدمنين على الهيروين . و تسعى البحرية الفرنسية ما في وسعها من أجل أن لا تتسع هذه التجارة الى منطقة الريونيون.
الإمكانيات و الحلفاء
الموارد و الامكانيات الفرنسية معدة مُسبقًا لمواجهة لتحركات الصينية إذ تنشر البحرية الفرنسية اثنتي عشرة سفينة بشكل دائم في منطقة المحيطين الهندي والهادي. وتجدد جميع الزوارق الدوريات الخاصة بها. سيتم أيضًا استبدال الفرقاطات وطائرات المراقبة البحرية المتمركزة في الخارج بوحدات ذات قدرات عسكرية متزايدة بشكل كبير ، و ذلك في إطار قانون البرمجة العسكرية المقبل. إن زيادة القدرات البحرية الفرنسية في المنطقة أمر مرغوب فيه ، بالنسبة لفرنسا ، طالما ظل التوتر قائما على حرية الحركة في بحر الصين ، حيث يسمح خفر السواحل الصينيون لأنفسهم بالمرور 50 ياردة من السفن الفرنسية. في 26 مايو 2022 ، في بحر الصين الجنوبي ، أسقطت طائرة مقاتلة صينية أفخاخًا أمام مداخل الهواء لمحرك طائرة استطلاع بحرية أسترالية بي-8.
كما تتجه ، انطلاقا من فرنسا ،مجموعة حاملات الطائرات الفرنسية إلى المحيط الهندي كل عام تقريبًا. يساهم هذا في ما يسميه البحارة “بالإشارات الاستراتيجية”، والتي تهدف إلى ثَني خصوم فرنسا عن الشروع في عملية عسكرية. تُحب فرنسا إظهار قدرتها على العمل بشكل جيد مع حلفائها.،حيث أن حاملة الطائرات لديها قوة تجميعية قوية إذ يتم دمج وحدات من البحرية الأمريكية والبحرية الأوروبية بانتظام في مجموعة شارل ديغول القتالية.وفي حالة وجود أمر طارئ في المحيط الهادي ، ستستغرق طائرات رافال الفرنسية أقل من ثلاثة أيام للوصول إلى كاليدونيا الجديدة من فرنسا. تمتلك فرنسا ست غواصات هجومية نووية. نطاق عملها بحكم التعريف يكاد يكون غير محدود. في سنة 2020-2021 ، كانت البحرية قد نشرت الغواصة “ إيمرود”حتى بحر الصين كجزء من مهمة ماريان. وهي تخطط لتجديد هذا النوع من المهام بانتظام ، وهي إشارة استراتيجية قوية.
أما عن الحلفاء فإن الأمريكيين هم الأقوى ، مع مجموعاتهم الحربية الإحدى عشرة الحاملة وقواعدهم العملاقة في هاواي وغوام ودييجو جارسيا وجيبوتي. البريطانيون ، أصحاب دييجو جارسيا ، يريدون زيادة تعاونهم مع فرنسا. وفي آسيا ، ستضاعف كوريا الجنوبية حمولة أسطولها البحري بين عامي 2008 و 2030 ، لتصل إلى 120 سفينة.و تمتلك اليابان قوة بحرية جيدة جدًا ، لم يعد وضعها دفاعيًا بشكل صارم كما ستحصل اليابان على 500 صاروخ كروز أمريكي من طراز توماهوك. يعد تشكيل تحالف “أوكوكس”في عام 2021 مؤشرًا آخر على هذا القلق المتزايد في مواجهة الضغوط المتعددة من بكين. لقد أرادت أستراليا تعزيز ضماناتها الأمنية وأنشأت كانبرا قاعدة بحرية قادرة على توفير الاستقبال واصلاح الغواصات النووية محل اهتمام البحرية الفرنسية .
فرنسا قوة توازن ؟
الفرنسيون هم حلفاء الأمريكان ، لكنهم يرفضون حتمية الوقوع في “ مصيدة ثوسيديديس » التي من شأنها أن تؤدي إلى مواجهة مسلحة بين الصين وأمريكا. سيفعلون كل شيء لمنع الخصوم من أن يصبحوا أعداء ،و لمنع الحرب في المحيطين الهندي والهادي. هذا هو السبب في أن باريس لم تسع إلى الانضمام إلى الرباعي “التحالف غير الرسمي لديمقراطيات المحيطين الهندي والهادي الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند” ، والذي تعتبره مناهضا للصين.
من ناحية أخرى تبيع فرنسا طائرات مقاتلة إلى إندونيسيا القوة المتوسطة التي لا ترغب عادة في أن يسحقها التنافس الصيني الأمريكي . علاوة على ذلك ، فإن فرنسا ، التي تريد أن تكون مُحرٍضة على التمتع بالسيادة ، لديها القدرة على أن توفر لشركائها الآسيويين وسائلها الخاصة للمراقبة عبر الأقمار الصناعية و قدرتها على تركيب الكابلات البحرية .
باعتبارها قوة توازن تريد فرنسا السماح لشركائها بالابتعاد عن التنافس الصيني الامريكي ، لكن في مواجهة زيادة التوترات في المنطقة تطور الموقف الفرنسي على مسارٍ ضيق بشكل خاص ، لاشك أنه سيظهر في المحادثات الفرنسية خلال رحلة الرئيس ماكرون إلى بكين في بداية شهر أبريل 2023 .