الانتخابات التشريعية الفرنسية:

إيمانويل ماكرون ... على نفسها جنت براقش...!

إيمانويل ماكرون ... على نفسها جنت براقش...!

-- غائب: اعتقد ماكرون أنه يمكن أن يفوز في كييف أو بروكسل
-- لماذا يحاور الذين لا يستطيعون مواجهته؟ كان يرى نفسه جميلًا جدًا، طويلًا جدًا، مبكرًا جدًا
-- كان الأمر أشبه بعقوبة لم يكن مصدرها معروفًا، نوعًـا من التحدي: سـتصوتون لي رغم كل شـيء
-- سواء ابتهجنا أو تأسفنا، كان للناخبين بوصلة واحدة فقط: كراهيتهم لإيمانويل ماكرون


    كان كل شيء له، ولكن بإهماله وخفّته أفسد إعادة انتخابه وانتخاب أغلبيته. بعد قلبه اللعبة الانتخابية يمين-يسار في الجمهورية الخامسة رأسًا على عقب، كسّر إيمانويل ماكرون لعبته الخاصة.
   عام 2017، أعاد إيمانويل ماكرون خلط الأوراق وغيّر قواعد اللعبة التي يسود الاعتقاد أنها مجمدة إلى الأبد. متحدة جوهريا بالجمهورية الخامسة، المواجهة بين اليمين واليسار، تمّ كنسها في غضون بضعة أشهر. لعبة بولنج، فوضى غير مسبوقة خرج منها ساخرا، طفل، بين راستينياك وتان تان، ربح الرهان دون إطلاق رصاصة واحدة. وبعد خمس سنوات، لا يزال الاضطراب قائما، بل إنه زاد... إلا أن الفوضى انتقمت ممن خلقها... باستخفافه، يسفّ الرئيس الفرنسي التراب.

 المرشح سيرفا
   لنلقي نظرة على حقائق هذه الحملة المزدوجة الفاشلة.    سوء تقدير؟ غرور؟ مكابرة؟ عدم مبالاة؟ ازدراء؟ تعال؟
حماقة؟ من بين الكلمات التي تتبادر إلى الذهن لوصف حملـــــة إيمانويــــل ماكرون المزدوجـــــة -أو عـــدم الحملة -ربما تكون عبــــارات الخفــــة أو الاهمــــال هي الأنسب.

   خمس سنوات في الإليزيه؟ إقامة مثل هذه تغيّر الرجل. لا شك أنه لم يعد يرى العالم كما يجب ان يراه. أغرقته الملفات، وربما بات أقل استماعا إلى المشاغبين وأكثر انصاتا إلى المتملقين. في القصر نعزل أنفسنا. مختزلا في الملاحظات والمذكرات والإحصاءات، يصبح إدراك الواقع باهتًا ولا يكاد يتبقى أي وقت للقرب... نسي إيمانويل ماكرون معنى الحملة.
    المرشح المبتكر، التخريبي، القتالي، الحازم، والمتفائل لعام 2017 ترك مكانه لشخص يعرف البيت، وعلى استعداد لتجديد عقد إيجاره من خلال التوقيع على نموذج سيرفا، وفوجئ إلى حد ما -لا نجرؤ على القول أزعجه -أن يُطلب منه القيام بحملة.

المناقشة من فوق
   لأنه ستضطر إلى المضي قدمًا في هذه الحملة، وتصعد على خشبة المسرح، وتمدح مؤخرات الأبقار في المعرض الزراعي، وتسير في الشوارع، وتتناول ريليتس، وتشرب كؤوسا، وان تجد ان قطعة جين ريبلوشون رائعة، وجذر الشمندر طيبا، وتدعو نفسك إلى مركز التوظيف، وتقبل قلادة من الزهور، وتراقب خط التجميع، وتمارس النجومية، وتدفع عربة التسوق في السوبر ماركت... بالتأكيد، جاب الرئيس فرنسا طيلة خمس سنوات؛ لكن تلك “الأميال” لا تُنسب إلى المرشح أبدًا.

   ما الذي يمكن أن يحدث في دماغ ساكن الإليزيه؟ حملته ظروف مواتية بشكل لا يصدق. بالتأكيد، ألزمت رئاسة الاتحاد الأوروبي إيمانويل ماكرون. لكن “نهاية” الأزمة الصحية أتاحت مساحة من الحرية المكتشفة حديثًا. ثم غزت روسيا أوكرانيا، وجعلت قائد الجيوش أمير حرب... كان الاختراق في استطلاعات الرأي فوريًا.
   ثم، وبتسلسل الأحداث، اختفى المرشح. لا شك أنه اعتقد أنه استعاد الظروف السعيدة لعام 2017، مع نبذ فرانسوا هولاند والفشل الصناعي لفرانسوا فيون. لكن، في الأخير، أين كُتب أنه بالإمكان الفوز برمية نرد، وبالتكتم، وعن طريق التجنب، وتقريبًا باقتحام؟

    وطبعا كان المطلوب النقاش أكثر من أي وقت مضى. فبعد فترة خمس سنوات حيث تكررت المواجهات، كان خصومه، مثل الناخبين، ينتظرونه في الحلبة. لم يكن لدى ماكرون، وهو محاور هائل، ما يخشاه: معرفته بالموضوعات وخبرة الوظيفة، تعطيه اسبقية واضحة. ان دستور الجمهورية الخامسة، الذي يقلل -يختزل -المعارضة في حضور صوري، جمّد النقاش وحوّله الى كاريكاتير.

   كانت الحاجة إلى النقاش مشروعة. بالطبع، حلبة باثني عشرة ستكون عبثية، في حين ان النقاش بثلاثة أو اربعة ممكن، بل ومفيد ايضا. رفض المرشح-الرئيس واكتفى بالحد الأدنى من الخدمة المؤسسية بين الجولتين. لقد هربت جرأة عام 2017، وسيطر عليه تبرجز عام 2022.

رئيس في كل مكان، ومرشح غائب
   تبرجز وطريقة للرضا عن النفس أيضًا. فبسرعة، لم يظهر أي مرشح قادر على منافسة فوزه. من هنا لماذا يتحاور مع من لا يصلون الى كعبه؟ كان يرى نفسه جميلًا جدًا، طويلًا جدًا، مبكرًا جدًا. الرئيس يزدري ويحتقر ويتهرب ويتخفى: لم يتردد خصومه في لومه على ذلك. والرأي العام يوافق الذي نسي بسرعة كبيرة أوكرانيا ليهتمّ فقط بالديزل. وزّع ماكرون قسائم هدايا لم تهدئ أي قلق أو استياء.
   كان خصومه يركضون من ستوديو إلى اخر، ويذكّر وجودهم الطاغي باستمرار بغيابه.

   اين هو؟ في قصره... في بروكسل... بعيدا... متنكرا في جلد زيلينسكي... ربما كان يشعر بالملل... هذه الانتخابات؟ إجراء شكلي، ولكن أيضًا، عمل كتابي مملّ.
   أخيرًا دخل الحلبة، لأنه مضطر إلى ذلك. في النقاشات العامة، التي ندد خصومه بأنها معدّة ومرتّبة سلفا “هم أيضا يفعلون ذلك” والتي لم تكن كذلك، خرج منها بشرف. لكن وسائل الإعلام، المنزعجة أيضًا من رفضه للمعارك المتلفزة، احتفظت فقط بالنقاط السلبية.

    ليس مهما،
لقد حسم الامر.
   كانت الحملة المجنونة لعام 2017 بعيدة. بعد خمس سنوات، لم يكن هناك ما يدعو للدهشة، وحتى حماس المشجعين بدا مبالغًا فيه. غابوا عن الشبكات الاجتماعية، حيث قدم عشاق زمور وميلينشون العرض، لم يكن لدى الماكرونيين ما يقدمونه سوى الهلع.
التقاعد في سن 65 عقوبة بدون تفسير
   لإضعاف معسكر اليمين، لوّح ماكرون بالتقاعد عن عمر 65 عامًا. كانت خرقة حمراء هدية لخصومه الذين استولوا عليها كطوطم.
   وبقي هناك.
   65 عامًا، ثم لا شيء. في حملة، يجب أن تتصادم فيها المقترحات، أو تحتكّ ببعضها البعض، أو تستفزّ الخصم وكذلك السكان، أو تتطور، أو تختفي، أو تخترق. 65 سنة: لمن؟ لماذا ا؟ لا أحد يعلم. كان الأمر أشبه بعقوبة لم يكن مصدرها معروفًا، نوعًا من التحدي: ستصوتون لي رغم كل شيء.
   وكان الانتصار أكبر مما كان متوقعا. لكن هل يمكن التباهي بالحصول على 58 بالمائة من الأصوات ضد رئيسة التجمع الوطني؟ من هذه الجولة الثانية، المحدودة في العمق، لم يستخلص أي درس.

فاز بالتشريعية مقدما
   والأسوأ من ذلك أنه فعلها مرة أخرى. من خلال اختيار حكومة يخفي فيها اختصاص الوزراء ضعفهم السياسي، بل وأكثر من ذلك، استحالة قيام الرئيس بتحريك الخطوط. وبرؤيته ضعيفا، لم يمنحه خصومه هدية التجميع، خاصة وأنهم كانوا يعرفون القيمة المتدنية للماكرونيين قبل الانتخابات التشريعية.
    بطبيعتها، أو عن طريق التقليد، لم تقم إليزابيث بورن بحملة أكثر من الرئيس. برلمانيو النهضة ذهبوا إلى الجبهة دون حماس وبدون دعم. أعطاهم ماكرون صدقات من خلال بضعة خطابات موجزة، يسكنها الذعر الى درجة افقدتها اي مصداقية.
   هل نقوم بحملة على مدرج المطار عندما لا يكون هناك ما يكفي من زيت الفول السوداني أو الخردل على الرفوف؟ كم هذه الحملة مملة، وكم هي محزنة تلك المخاوف السخيفة جدا! على أي حال، كان الجميع يقول إن الانتخابات التشريعية موجودة فقط لمنح الأغلبية للرئيس المنتخب... مسألة شكلية!

الكراهية كورقة اقتراع
   خفيف، غائب، متقلب: اعتقد ماكرون أنه يمكن أن يفوز في كييف أو بروكسل. كان يعتقد أنه لا يُقاوم كما حدث عام 2017، وتجاهل الكراهية الشديدة التي تثيرها شخصيته الى درجة انها جعلت من كل هذه الجولات الأربع استفتاء متدرجا ضده. وسواء ابتهجنا أو تأسفنا، كان لدى الناخبين بوصلة واحدة فقط: كراهيتهم لإيمانويل ماكرون.
بعد فوزه عام 2017، قال إنه يريد أن يفعل كل شيء حتى لا يكون لدى الناخبين “أي سبب للتصويت للمتطرفين”.
 في يونيو 2022، كان أقصى اليسار وأقصى اليمين أحزاب المعارضة الرئيسية، والحدث الاكبر هو أنّ التجمع الوطني يتقدم على الجمهوريين... فشل كامل.
   سيكون من الظلم تحميل ماكرون وحده المسؤولية عن هذه الانقلابات الجديدة. تقدم الجبهة الوطنية الذي بدأ قبل ثلاثة عقود ما زال مستمرا ولم يستطع كأسلافه وقفه. كما يمكن ملاحظة في معظم الحركات الاجتماعية، ان راديكالية اليسار أصبحت مناوبة سياسية رئيسية، وهو يسار معارض ابتلع اليسار الحكومي. ان الامتناع عن التصويت يتقدم بلا هوادة، والمسار “الحكيم” للوسط لم يعد يلهم الكثيرين.
   ربما سيجد الرئيس غدا تحالفا “ألمانيا” غير مسبوق يضع حدا لشغف الفرنسيين بحقيقة الأغلبية. ويمكنه، باستدارة، أن يرى فيه ما يكفي من رغبته في الاتحاد. لكن على أي مشروع؟ يعرف إيمانويل ماكرون، مثل أنصاره، الذين تساوي خيبة الأمل عندهم الفرصة المهدورة، أن هذا الفشل هو قبل كل شيء فشله... فشل الطفل المدلل للديمقراطية الذي آمن كثيرًا بنجمه المحظوظ، ورفض عنف حملة انتخابية قبل أن يستقبلها وهي ترتدّ عليه.