رغم صورة مجتمع على حافة الانهيار

الرئاسية الفرنسية: حتى الآن الكرة وسط الميدان...!

الرئاسية الفرنسية: حتى الآن الكرة وسط الميدان...!

-- استمرار الارتباط القوي بأوروبا، رغم أن الأغلبية ترغب في تعديل المشروع
-- بعيدا عن ساحة المصارعة الإعلامية، يتبين أن قيــم الفرنسـيين أكثــر توافقــا واعتـدالًا
-- يقضي الفرنسيون وقتهم في التذمر، وهذا من سمات مزاجهم القومي
-- قبل ستة أشهر من الرئاسية، تشير الاستطلاعات إلـــــى أن للخيــــــارات المعتدلــــــة فرصـــــة للفــــــوز
-- يتصور معظم الفرنسيين أنهم يعيشون في مجتمع أبوي، وموقفهم متوازن من الحركات النسوية


     أدى وصول إريك زمور على شاشات التليفزيون إلى تصعيد التوتر حول موضوعات الهوية الفرنسية والهجرة، مما يزيد من حدة الاستقطاب السياسي. تابع مناظرة جان لوك ميلينشون - إريك زمور على “بي اف ام - تي في” 3.8 مليون متفرج، ونتج عن ذلك سيل من إعادة البث والتعليقات... فهل تعكس هذه النغمة الدراماتيكية صورة فرنسا؟

تلفزيونات الأخبار التجارية   صدى للاستقطاب السياسي
   عندما تسرد فرنسا نفسها من خلال القنوات الإخبارية الخاصة، فإن الحرب الأهلية هي التي تظهر على الركح.
ويكاد المرء أن يتساءل لماذا لم يتم الاستيلاء على قصر الإليزيه بعد. البرامج، مسكونة بتقارير ومناقشات حول الهجرة (التي تغزونا)، والعنف ضد المرأة (الذي يتزايد)، والسترات الصفراء (الغاضبة) وجميع فئات الإجراء (الذين يحتجون على أوضاعهم)، والتفاوت الاجتماعي (الذي يتطور)، والمدرسة (التي تفرز وتشوه الشعور بالاستحقاق). لا أحد يتفق مع أحد، ويتبخر الإحساس بالاعتدال، والذين يتناقشون هم منافسون، وليسوا محاورين.

يرى المشاهدون أنفسهم من منظور الاستقطاب الراديكالي والمشاعر المريرة: الخوف والكراهية والعار والإذلال والظلم والعنف. لكل انزعاجه، ولكل مصيبته. يمكن ربط هذا الانزعاج، بطبيعة الحال، بأسباب متعددة: البطالة المستوطنة، والخوف من التدني الطبقي، وشعور بتعطّل المصعد الاجتماعي، وازدياد الفظاظة، غير ان هذه البيانات والمعطيات التي يعاد صياغتها في هذا المطبخ الإعلامي، تؤدي إلى صورة مجتمع على حافة الانهيار. الأمر بسيط، الجميع تقريبًا يعتقد في ذلك (70 بالمائة) “1”: ان الحال كان أفضل في السابق.    في نظام الوسائط، تعتبر هذه التلفزيونات التجارية محركا رهيبا. ففي صراعها من أجل “العقل المتوفر” للمواطنين وعائدات الإعلانات، تلعب هذه القنوات دور التنفيس، من خلال تفضيل ما يسمى بالمناقشات والمناظرات المتناقضة. المشاهد ملتبس: انه في نفس الوقت يسعى إلى التعلم، ويهتم بما يمكن أن يساعده على إضفاء الوضوح على حياته اليومية، كما أوضح فنسان جوليه أو أوليفييه ماسكليت “2” عن استخدامات التلفاز في الدوائر الشعبية. وفي الان نفسه، يبحث عن مهرب، يحب الاشتباكات، المبارزات اللفظية، الجملة التي تشوه سمعة المحاور، الوجوه المتعالية، الحجة التي تهدم، العين التي تقتل، والابتسامة التي تتوسع بفعل الرضا عن النفس، صورة زائفة لعالم القيادات والمسؤولين يمكن أن يتابعها بعين ساخرة.

   بعد ذلك، تقوم الشبكات الاجتماعية بعملها في تضخيم وكهربة الجسم الاجتماعي. والنتيجة، رؤية دراماتيكية هي صدى، وتعكس، وتضخم الاستقطاب على طرفي السياسة: 25-30 بالمائة من تفضيلات الناخبين لليمين المتطرف، و10-15 بالمائة لأقصى اليسار (باستثناء الخضر).

فروق دقيقة في الآراء
   عندما نبتعد عن ساحة المصارعة هذه، يتبين أن قيم الفرنسيين أكثر توافقية وأكثر اعتدالًا، بما في ذلك الجوانب التي غالبًا ما توصف بأنها موضوع الخلاف وسببه. واستنادًا إلى الموجة الاستقصائية الأخيرة التي نشرتها سيفيبوف، سنأخذ أربع نقاط تتم مناقشتها باستمرار وتقديمها على أنها مثيرة للانقسام بشكل خاص: الفصل المجتمعي(الطائفية)، واللجوء إلى العنف، والعلاقة بالعلم، والبيئة.

علامات معتدلة
 على الفصل المجتمعي
    يقال في كل مكان إن الفصل المجتمعي(الطائفية) هو وباء عصرنا. ونحن نرى انعزالية وانكفاء عامًا وانتماء للهوية والدين والخصوصيات الثقافية يتصاعد. ومع ذلك، وفقًا لاستطلاع سيفيبوف، فإن 59 بالمائة من الفرنسيين لا يشعرون بأنهم ينتمون إلى أي ملّة معيّنة (69 بالمائة بين المتعاطفين مع الاشتراكيين)، فقط 5 بالمائة من الأفراد يعرّفون أنفسهم من خلال انتمائهم إلى مجموعة دينية، و10 بالمائة يشعرون بأنهم مرتبطين بمجموعة اللغة والثقافة الأصلية، و10 بالمائة إلى مجتمع الذوق أو أسلوب حياة، و16 بالمائة يتموقعون من خلال انتمائهم إلى المجتمع الوطني (23 بالمائة بين المتعاطفين مع حزب الجمهورية الى الامام و28 بالمائة بين المتعاطفين مع حزب الجمهوريين). وفي ضوء هذه الأرقام، تستحق حرب المجتمعات التنسيب، حتى لو كانت أكثر وضوحًا في مناطق معينة، وبين بعض الشباب (أوليفييه غالاند وآن موكسل، الاغواء الراديكالي، تحقيق في المعاهد، مطابع جامعة فرنسا، 2018).

الاستياء، نعم...
 ولكن لا العنف
   يقضي الفرنسيون وقتهم في التذمر، إنه مزاج قومي، ويقال إن العنف مستنفر في كثير من الأماكن. بالتأكيد، يعبّر الكثير منهم عن عدم رضاهم عن الوضع في البلاد، ويقول 31 بالمائة إنهم غاضبون، عمال وموظفون وشباب على وجه الخصوص (حوالي 40 بالمائة). ومع ذلك، فإن 18 بالمائة فقط يبررون استخدام العنف لإظهار عدم موافقتهم، اتجاه تنازلي طفيف خلال العامين الماضيين؛ والعمال في هذه النقطة يسجلون أدنى درجة (11 بالمائة) وكذلك المتعاطفين مع حركة أوروبا البيئة-الخضر (نفس الدرجة)؛ من ناحية أخرى، يحصل الموظفون (28 بالمائة)، ومعطى مثير للدهشة، المتقاعدون (25 بالمائة) على أعلى الدرجات.
   ويجب ربط هذه النتائج بتعلّق نسبي بالمؤسسات الديمقراطية، بنسبة ثقة تصل إلى 68 بالمائة –وهي في ارتفاع طفيف بعد تراجع عمودي خلال العشرية. إن انعدام الثقة أكثر وضوحًا بين الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا (ثقة 58 بالمائة)، لا سيما بين العمال والموظفين الشباب “3”. بالطبع، نحن بعيدون عن الهدوء الديمقراطي الكامل، لكن سيكون من غير المتناسب التحدث عن بلد على وشك التمرد.

مبايعة العلماء
   العلم؟ 77 بالمائة من الفرنسيين يثقون بالعلماء، ويظهر هؤلاء في المرتبة الثالثة بين قطاعات الثقة بعد “الشركات الصغرى والمتوسطة” “4” والتي كانت (نعم هذه مفاجأة)، في أعلى القائمة، وبعدها الجيش. هذه الثقة في العلوم قوية بشكل خاص بين الكوادر (92 بالمائة) وأنصار حزب الجمهورية الى الامام (95 بالمائة)؛ لكنها أيضًا مرتفعة جدًا بين الخضر (87 بالمائة) وأقل (66 بالمائة) بين مؤيدي التجمع الوطني اليميني المتطرف.
   بعد الصراعات حول التحاليل والحلول العلمية طوال أزمة كوفيد، تبدو هذه النتيجة غير متوقعة تقريبًا. لقد جاء ظهور اللقاح مثل البلسم الذي يهدئ الشكوك والنفوس والعقول. وهذا الميل لمبايعة العلم تُوّج بمعدل تطعيم مرتفع بشكل خاص ضد كوفيد (في 3 أكتوبر، تلقى أكثر من 75 بالمائة من الفرنسيين جميع الجرعات المطلوبة)، وحتى ان استمر المناهضون للتصاريح الصحية في الاحتجاج والتظاهر في مسيرات كل يوم سبت -فإنهم مع ذلك، يشهدون انحسارا في التعبئة.

الحساسية للبيئة كعامل
 من عوامل الوحدة
   موقف الفرنسيين ملتبس (حتى متناقض) تجاه الاقتصادي والاجتماعي، حيث أن نصفهم يؤيد إجراءات راديكالية، والنصف الآخر لصالح تدابير تدريجية “5”. في المقابل، فيما يتعلق بالبيئة، وهي رهان رئيسي في المستقبل، فإن هناك إجماع في الرؤية إلى حد ما، كما لو أن العلماء (بهلعهم) والشباب (بقتالهم) قد أقنعوا المجتمع بأسره بالتهديدات المرتبطة بتغيّر المناخ، وبدرجة اقل، الحلول التي سيتم توفيرها.
   وهكذا فإن 88 بالمائة من الفرنسيين يدركون الخطر المناخي، و68 بالمائة يعتقدون أن النشاط البشري هو الجاني الرئيسي. ثم يظهر الابتكار التكنولوجي (18 بالمائة) وتحول أنماط حياتنا (55 بالمائة) كضرورات، وهذه الأرقام تسقط، من ناحية، المشككين في المناخ على الارض، وتطيح، من ناحية أخرى، بالقدريين الذين يدعون انه “لا يمكننا فعل أي شيء».

  يمكن الاستشهاد بنقاط أخرى من الاستطلاع: استمرار الارتباط القوي بأوروبا، رغم أن الأغلبية ترغب في تعديل المشروع؛ تصور معظم الفرنسيين أنهم يعيشون في مجتمع أبوي، إلى جانب موقف متوازن من الحركات النسوية (يذهبن بعيدا 35 بالمائة؛ لهم موقف متوازن 35 بالمائة؛ يجب الذهاب أبعد 30 بالمائة).
   هذا، المسح، في مجمله، يرسم ملامح مناخ نفسي أكثر دقة من الرأي المشحون الذي تعكسه بعض النقاشات الإعلامية. ولا شك أن اكتشاف اللقاح ضد كوفيد، والوعي المناخي، ساهما (سيسهمان) في تهدئة النفوس واعادة العلوية إلى العقلانية العلمية... وليسمع المحرضون على الحرب الأهلية، هذه البيانات.
   قبل ستة أشهر من الانتخابات الرئاسية، يبدو أن استطلاعات الرأي قبل الانتخابات تشير إلى أن للخيارات المعتدلة فرصة معقولة للفوز.

ترجمة خيرة الشيباني
 «1 الشروخ الفرنسية ، مسح ايبسوس أجري في 25-27 أغسطس 2021. البيانات الواردة في هذا النص مأخوذة من هذا المسح.
«2» فانسن غوليت ، وسائل الإعلام والطبقات الشعبية. الاستخدامات العادية للمعلومات، المعهد الوطني السمعي البصري، 2010؛ أوليفييه ماسكليت، الضيف الدائم، الاستقبال التلفزيوني في العائلات الشعبية، أرمان كولين، 2018.
«3» يتماشى مسح سيفيبوف مع دراسات أخرى مبنية على أسئلة مماثلة (“رغم عدم الرضا الشديد عن أداء النظام السياسي ، فإن ما يقرب من 90 بالمائة من الفرنسيين يؤيدون مبدأ الحكومة الديمقراطية ويعتبرون أنه من المهم العيش في بلد يحكمه ديمقراطيًا”، بيير بريشون وفريديريك غونثييه وساندرين أستور، فرنسا القيم... أربعون عامًا من التطورات ، مطابع جامعة غرونوبل ، أبريل 2019).
«4» تظهر الشركات الكبرى دون مفاجأة في أسفل الترتيب بدرجة ثقة تبلغ 45 بالمائة.

 «5» أكد استطلاع إيلاب في 22 سبتمبر حول الانتخابات الرئاسية هذا الانقسام. عندما يفكرون في السياسة التي يجب اتباعها لمستقبل فرنسا، يعتقد 52 بالمائة من الفرنسيين أنه يجب تغيير المجتمع والقوانين تدريجياً، بدلاً من الرغبة في إجراء تغييرات جذرية. في المقابل، يعتقد 47 بالمائة الحاجة إلى إجراء تغييرات جذرية في القوانين والمجتمع، بدلاً من الرغبة في تغييرها تدريجياً. والأكثر إثارة للدهشة هي المجموعات المشاركة. غالبية ناخبي مارين لوبان (62 بالمائة تغييرات راديكالية) وفرانسوا فيون (61 بالمائة) يريدون إجراء تغييرات جذرية. في المقابل، يفضل ناخبو بينوا هامون (70 بالمائة التطور التدريجي) وإيمانويل ماكرون (61 بالمائة) وجان لوك ميلينشون (59 بالمائة) التطور التدريجي للمجتمع والقوانين.

*مديرة الأبحاث في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية - مركز دراسة الحركات الاجتماعية