تمتلك 13 في المائة من احتياطات النفط و30 % من الغاز الطبيعي غير المكتشفة

القطب الشمالي .. هل يبدأ سباق التسلح العالمي تحت الثلج؟

القطب الشمالي .. هل يبدأ سباق التسلح العالمي تحت الثلج؟

 
أجمعت دراسات إستراتيجية على أن منطقة القطب الشمالي شديدة البرودة، أصبحت تعيش على صفيح ساخن، بعدما استحالت ميدانًا للتنافس المحموم، أمنيًّا وعسكريًّا، بين القوى الدولية والإقليمية الكبرى، يكاد يخرج عن السيطرة في أي وقت. 
وباتت المنطقة مجال توسع عسكري وأمني تارة، ومجال امتداد اقتصادي استثماري تارة ثانية، ومجال تدريبات ومناورات ثنائية وثلاثية ترسل عبرها الدول الكبرى رسائل سياسية بأنّ المنطقة باتت عمقًا إستراتيجيًّا وسياقًا حيويًّا لها، من المُحال التّسليم فيه أو التفاوض حوله مع أي طرف آخر. 
وتقع منطقة القطب الشمالي بمحاذاة 8 دول، وهي: “كندا” و”الدنمارك” و”فنلندا” و”إيسلندا” و”النرويج” و”روسيا” و”السويد” و”الولايات المتحدة الأمريكية”، وقد شكّلت هذه الدّولُ مجلسَ القطب الشمالي لمعالجة وحل القضايا المهمة والمتعلقة بالمنطقة وتعزيز التعاون.
ووفقًا لهيئة المسح الجيولوجيّ الأمريكية فإنّ المنطقة تمتلك 13 في المائة من احتياطات النفط غير المكتشفة في العالم، وأكثر من 30% من الغاز الطبيعي غير المكتشف أيضًا.
يضاف إلى ذلك وجود فرص كبيرة لاستخراج المعادن الثمينة والنادرة من “البلاديوم” و”الكوبالت” و”النيكل” وهي المعادن الأساسية في صناعة التكنولوجيا المتقدمة من هواتف ذكية وحواسيب شخصية جوالة وسيارات كهربائية وغيرها، وهي معادن تناهز قيمتها “تريليون دولار”، ولكن تبقى هذه الأمور رهينة زيادة حرارة القطب الشمالي.
 
المنظور الصيني
وأثارت هذه الاكتشافات قلق وحرص الصين على الوجود في المنطقة الشمالية، لعدة اعتبارات جيواقتصادية، أوّلها- حرصها الدائم على السيطرة على منظومة المعادن النادرة والثمينة من الاستخراج إلى التثمين ومنه إلى النقل والتوريد.
ومنحت هذه السيطرة الصين  فرْضَ شروط تجارية صارمة على الولايات المتحدة الأمريكية، خلال حرب الرسوم الجمركية.
وثانيها- الخشية من كسر واشنطن لهذا الاحتكار واستغلال “المنافذ التعدينية” للدخول كشريك، وفاعل قوي في مجال المعادن الثمينة والنادرة. 
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أنّ مجلس القطب الشمالي وافق في سنة 2013 على عضوية الصين كأحد المراقبين الدوليين للمجلس، قبل أن تنشر بكين كتابها الأبيض حول سياساتها ومقارباتها حيال القطب الشمالي بعنوان “الصين دولة قريبة من القطب الشمالي” وذلك في سنة 2018.
 
وتحظى منطقة القطب الشمالي بمكانة مركزية في العقل الإستراتيجي الصيني ذلك أنّها تُمثّلُ الخيط الناظم لفكرة “طريق الحرير الجليدي” حيث تفتح أمامها طريقًا جديدًا للشحن يمر عبر المياه القطبية ويؤدي إلى المحيط الأطلسي.
ويقلل الممر الشمالي الشرقي والشمالي الغربي مسافةَ الشحنِ الإستراتيجي بين آسيا وأوروبا بنسبة تصل إلى 40%.
 
المنظور الأمريكي 
بالمقدار ذاته من الأهمية والعمق الإستراتيجيّ، تنظر واشنطن لمنطقة القطب الشمالي، إذ تُقاربها من زاوية الثروات الطبيعية (الغاز الطبيعي والبترول)، ومن مفصل “المعادن الثمينة والنادرة” التي تشكّل نقطة الضعف الاقتصادية الواضحة والجلية في المنظومة التجارية والاستثمارية الأمريكية، في مقابل الصين على الأقل.
يُضاف لكل ما سبق الأهمية الجغرافية وإستراتيجية التّموقع، إذْ تمكنان واشنطن من إطلالة قريبة على روسيا وعلى الجزء الشمالي من أوروبا، دون نسيان العلاقات الإستراتيجية التي تربط واشنطن ببعض أعضاء مجلس القطب الشمالي، صلب الحلف الأطلسي.  
النظرة الروسية
أمّا روسيًّا، فمنطقة القطب الشمالي، تجسد امتدادًا بشريًّا واقتصاديًّا وجغرافيًّا لها، قبل الإشارة إلى الأبعاد السياسية والعسكرية.
فروسيا تمتلك خطًّا ساحليًّا طويلًا في القطب الشمالي يبلغ طوله 24140 كيلومترًا، وهو ما يشكل تقريبًا نصف إجمالي السواحل القطبية، كما أنّ قرابة 20 في المائة من مساحتها البرية تقع في نطاق الدائرة القطبية الشمالية وفيها مدن كبرى وموانئ صناعية، وتسهم الموارد المتأتية من القطب الشمالي بـ15 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وتمثل أيضًا نسبة كبيرة من صادرات الطاقة الروسية.
وتؤكد مصادر طاقية مطلعة أنّ روسيا تمتلك موارد طبيعية هائلة في القطب الشمالي، بما في ذلك 99-100% من “الماس” و”الأنتيمون” و”الفلوجوبيت”، و97% من “البلاتين”، و95% من “الغاز”، و90% من “النيكل”، و60-80% من “النفط” و”النحاس».
وتجدر الإشارة إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار ذلك المعطى المهم الذي يتمثل في كون غالبية الموارد والمعادن تقع في الجرف القاري التابع لروسيا وولاية ألاسكا الأمريكية إذ تتضح أسباب التنافس الشديد بينهما، خاصة أنّ هذه الموارد الطاقية (النفط والغاز) يتم استعمالها كسلاح ناجع من روسيا ضدّ الاتحاد الأوروبي مِن جهة وللالتفاف على عقوباته الاقتصادية من جهة أخرى، كما يتمّ استثمارها في المقابل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لبيع النفط والغاز لأوروبا بـ5 أضعاف السعر الروسي الأصلي.
هذا دون نسيان أهمية المعادن الثمينة والنادرة في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية وتوربينات توليد الطاقة الهوائية والإلكترونيات الدقيقة.
وتضم غرينلاند الدنماركية 18% من الاحتياطيات العالمية من هذه المعادن؛ ما دفَعَ واشنطن لتوقيع اتفاقيات شراكة معها، قبل المطالبة صراحة بضمها، وهو مطلب يجد معارضة شديدة وراديكالية من الدنمارك.  
 
حرب سلاح وتسلح
كل ما سبق، أشعل حرب تنافس عسكري محموم بين هذه الدول الثلاث في منطقة تقبع على شفير هاوية عسكرية وإستراتيجية محيقة.
فلم تتأخر الصين التي تعتبر القطب الشمالي أحد الحدود الإستراتيجية الجديدة في العالم، و”كنزًا من كنوز الموارد الأكثر تنافسية”، في بناء 3 كاسحات جليد لتسهيل استخدامها لطريق بحر الشمال للشحن التجاري، فيما لا تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية سوى كاسحتين اثنتين تعودان إلى سبعينيات القرن الفائت.    
وفي يوليو 2024، أجرت القاذفات الروسية والصينية تدريبات جوية فوق بحرَيْ “تشوكشي وبيرنغ”، ووفق مصادر إعلامية وسياسية مطلعة فإنها المرة الأولى التي تصل فيها هذه الدوريات إلى منطقة “تحديد الدفاع في ألاسكا».
وفي سبتمبر 2024، نفذت القوات البحرية للبلدين أوسع تدريبات عسكرية مشتركة منذ سبعينيات القرن الماضي تحت عنوان “أوشن 2024” والتي شملت المحيط الهادي والقطب الشمالي والبحر الأبيض المتوسط، وبحر قزوين، والبلطيق.
وفي أبريل 2025، تمكنت الصين من رفع السقف التقني في المجال العسكري بشكل كبير، حيث طوّر علماء صينيون طريقة لتتبع الغواصات العسكرية وخاصة منها تلك المتموقعة في القطب الشمالي.
ووفق مصادر صينية فإنّ هذا التقدم عزز النطاق العملياتي للبحرية الصينية من خلال توفير القدرة على رصد الأنشطة تحت الماء والسيطرة عليها لاحقًا؛ ما يمثّل تهديدًا للغواصات النووية الأمريكية التي كانت تزعم تمتعها بحصانة معلوماتية واستخباراتية.
 
تركيز متأخر 
في الطرف المقابل، يؤكد الخبراء العسكريون في واشنطن أنّ الولايات المتحدة الأمريكية وعلى عكس العقود السابقة، باتت تولي منطقة “القطب الشمالي” أهمية وأولوية إستراتيجية متقدمة.
ووفق المصادر المطلعة ذاتها، فإنّ واشنطن تعتزم نشر أكثر من 250 طائرة مقاتلة حديثة متعددة المهام للقيام بعمليات عسكرية ولوجستية في القطب الشمالي انطلاقًا من عام2030.
كما قامت بعمليات تحسين وتأهيل للقاعدة العسكرية الوحيدة لها في المنطقة وهي قاعدة “ثول الجوية” في غرينلاند، بقيمة قدرت بـ40 مليون دولار.
وفي 2024، أصدر البنتاغون نسخة محدثة من إستراتيجيته في القطب الشمالي، حيث حدّد خططًا لتدريبات عسكرية مشتركة مع حلفاء واشنطن لإظهار الاستعداد القتالي والقدرات العملياتية. 
وتحرص الإستراتيجية الجديدة على تعزيز الردع المتكامل وزيادة الأمن المشترك، سواء من خلال تقوية العمل مع الشركات وأرباب الصناعات المحلية ومتساكني “ألاسكا” – ممن سمَّتهم الوثيقة القبائل الأصلية- أو من خلال الحلفاء الذين يتعاونون مع واشنطن تحت مظلة الحلف الأطلسي.
وقد تكرس جزء من هذه الإستراتيجية العسكرية الأمريكية عبر تعزيز التعاون العسكري مع النرويج،
 حيث شاركت القوات البحرية والنرويجية في عمليات عسكرية مشتركة في منطقة القطب الشمالي.  
ونشرت القوات الجوية الأمريكية 3 قاذفات إستراتيجية من طراز “لانسر بي-بي1” في قاعدة أولاند النرويجية وطائرة “ديبليو سي-135 آر” المؤهلة لرصد الأسلحة النووية قرب القواعد الروسية في بحر “بارنتس».
وفي الـ31 من أغسطس/ آب 2025، أبرمت النرويج اتفاقية إستراتيجية مع المملكة المتحدة لشراء 5 فرقاطات عسكرية، بقيمة تقارب 14 مليار دولار في خطوة وصفت بأنها تهدف إلى “تعزيز الردع تجاه روسيا في الجناح الشمالي».
 
الدب الروسي يردّ 
ولم تتردد روسيا في الرد على مجمل التحركات الأمريكية والغربية السابقة والقائمة، إذ وسعت من حضورها العسكري عير مجموعة من القواعد العسكرية والمطارات والمنشآت العسكرية والرادارات، فضلًا عن أنظمة الأسلحة الدفاعية والهجومية.
وأدخلت إصلاحات وتحديثات على 7 قواعد عسكرية كاملة في المنطقة، وقامت ببناء 3 قواعد جديدة، وركزت أسطولها الضخم من الغواصات النووية في شبه جزيرة “كولا».
وتقع القواعد العسكرية الجديدة في الجزء الغربي والأوسط والشرقي من القطب الشمالي، وهي قاعدة “ناجورسكوي” في ألكسندرا لاند من أرض فرانز جوزيف، وقاعدة تيمب الجوية في جزيرة “كوتيلني” في سيبيريا الجديدة.
وقاعدة “أوشاكوفسكوي” في جزيرة “رانجيل”، وكلها مجهزة بصواريخ أرض جو من طراز “إس-300” و”إس-400».
وتؤكد مصادر ميدانية أنّ الأسطول الشمالي الروسي يتكون في الحد الأدنى من 12 غواصة نووية وسفن سطحية وطرادات قتالية صاروخية تعمل بالطاقة النووية.
في المحصلة، يؤكد مراقبون وجود توافق عريض بين هذه القوى الإقليمية والدولية على اعتبار منطقة القطب الشمالي، منجمًا إستراتيجيًّا وكنزًا طاقيًّا وتعدينيًّا قادرًا على تشكيل التّوازنات العالمية وصياغة طبيعة موازين القوى في المديات القريبة والمتوسطة والبعيدة.
وبمقتضى ذلك، فإنّ استعراض القوى العسكرية يهدف أساسًا إلى تحسين شروط التفاوض وتأكيد الحضور وإثبات التمركز العسكري والاستثماري، أكثر من أي هدف قتالي آخر.  
ولن تقدِم روسيا الغارقة في وحل أوكرانيا على أيّ حماقة عسكرية في القطب، وأمريكا “تريد محاصرة التنين الصيني المتوغل والمتغول أكثر من أيّ شيء آخر، والصين تريد الاقتصاد أولًا.
ووسط كل ما سبق، لا يبدو أنّ الحرارة المتزايدة ستفضي بالقطب إلى حالة من “الحمى العسكرية”، إلا إذا أرادت بعض العواصم أن تقلب “ظَهر المجن” على الآخرين، وهو مستبعد إلى حدّ اللحظة على الأقل.