رحلات مباشرة وحدود ملتهبة
الهند والصين تعيدان تشغيل «المحركات الدبلوماسية»
في خطوة وُصفت بأنها انفراجة جريئة وسط جليد التوترات الحدودية، أعلنت الهند والصين استئناف الرحلات الجوية المباشرة وتكثيف التعاون التجاري والاستثماري بعد أكثر من خمس سنوات من الانقطاع. الإعلان جاء في ختام زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى نيودلهي يومي 18 و19 أغسطس، حيث التقى مستشار الأمن القومي أجيت دوفال، ووزير الخارجية سوبرامانيام جايشانكار، ثم رئيس الوزراء ناريندرا مودي. لكن خلف مشهد المصافحات والابتسامات، لا تزال جبال الهيمالايا تحتفظ بجمر الصراع، وسط تساؤلات عن مدى قدرة الخطوات الاقتصادية على كبح التوترات العسكرية المزمنة. وقبل جائحة كوفيد-19، كانت حركة المسافرين بين الهند والصين تتجاوز 1.2 مليون شخص سنوياً، بينهم أكثر من 23 ألف طالب هندي في الجامعات الصينية؛ وأثّر تعليق الرحلات منذ 2020، على التعليم والتجارة والسياحة. استئناف الطيران –رغم أنه لم يُحدد موعده بعد– يُتوقع أن يعيد إنعاش هذه الروابط، خصوصاً مع إعلان الجانبين تسهيلات جديدة في التأشيرات.
شريك أول
أم خصم اقتصادي؟
بلغ حجم التجارة الثنائية 138.8 مليار دولار في 2024، لتصبح الصين الشريك التجاري الأول للهند متقدمة على الولايات المتحدة. لكن الأرقام تحمل مفارقة: عجز تجاري قياسي بلغ 84 مليار دولار على حساب نيودلهي.
وتشير تقديرات معاهد آسيوية إلى إمكانية ارتفاع التبادل إلى 150 مليار دولار بحلول 2026، مع عودة الرحلات وتخفيف القيود، لكن دون أن يعني ذلك بالضرورة تقليص العجز لصالح الهند.
حدود الهيمالايا
رغم سلسلة طويلة من المفاوضات، آخرها الجولة الرابعة والعشرون في نيودلهي، لم يتحقق أي اختراق حاسم بخصوص ترسيم الحدود أو سحب القوات من نقاط التماس في الهيمالايا.
وأعلنت بكين ونيودلهي الاتفاق على جولة جديدة من المباحثات في الصين عام 2026؛ ما يعكس بطء المسار الحدودي مقابل تسارع التعاون الاقتصادي. بالنسبة لمودي، الاستقرار على الحدود ليس خياراً ثانوياً بل شرطاً أساسياً لأي تطبيع واسع.
مياه مضطربة
الهواجس الهندية لم تتوقف عند حدود الجغرافيا؛ حيث أعربت نيودلهي خلال المحادثات عن قلقها العميق من مشروع الصين الكهرومائي الضخم على نهر يارلونغ تسانغبو «براهمابوترا في الهند وبنغلاديش»، الذي يُعد شريان حياة لأكثر من 130 مليون شخص. رغم تطمينات بكين بأن السدود لن تؤثر على التدفق المائي، ترى الهند أن بكين قد تستخدم هذه المشاريع كأداة ضغط استراتيجية في أي أزمة مستقبلية. تأتي هذه الانفراجة قبل أسابيع من زيارة مودي المرتقبة إلى الصين لحضور قمة منظمة شنغهاي للتعاون، وهي أول زيارة له منذ أكثر من سبع سنوات. يُنظر إلى الزيارة كاختبار حقيقي لمدى استعداد الجانبين لترجمة تفاهماتهما إلى مسار سياسي مستقر، بعيداً عن مجرد الاتفاقات الاقتصادية.
واشنطن تراقب
لا يمكن فصل التقارب الهندي–الصيني عن السياسة الأمريكية المتقلبة.
فالرئيس دونالد ترامب أعاد فرض تعريفات جمركية على واردات آسيوية، ورفع الرسوم على الصلب والألومنيوم الهندي 25%؛ ما كبّد نيودلهي خسائر بمئات الملايين من الدولارات.
وبينما تواصل واشنطن دفع الهند إلى تحالفات مثل «كواد» لاحتواء الصين، يرى مراقبون أن نيودلهي تحاول الحفاظ على توازن استراتيجي: الاستفادة من السوق الأمريكية، دون خسارة بوابة الصين الاقتصادية.
ورغم الإعلان عن استئناف الرحلات وخطط تنشيط التجارة، تبقى التوترات الحدودية والمائية حجر عثرة أمام بناء ثقة كاملة بين الجارتين.
لكن في عالم يشهد تغيراً في موازين القوى، يبدو أن الهند والصين تدركان أن الصدام المفتوح سيُكلّفهما أكثر مما يكسبانه.
وبينما تراهن بكين على الاقتصاد، تصر نيودلهي على أن السلام على الحدود هو كلمة السر لمستقبل أكثر استقراراً.