لعبة بوكر بين ثلاثة عمالقة:

جو بايدن، والصين، والتجارة والاتحاد الأوروبي...!

 جو بايدن، والصين، والتجارة والاتحاد الأوروبي...!

--  مصالح الدول لا تتغير، وبايدن، بعد ترامب، يواصل سياسة التوتر نفسها  مع الصين والقومية الاقتصادية
-- في الظاهر، تبدو أمريكا جو بايدن أكثر أوروبية في أولوياتها
-- فرصة على الأوروبيين اغتنامها قبل أن تتبلور النوايا الأمريكية في مواقف ثابتة يصعب عليهم تغييرها
-- بشكل عام، هناك سياق تلتقي فيه مخاوف الأوروبيين والأمريكيين بشأن الصين
-- الحد من تجاوزات العولمة موضوع يزعج الصين المستفيد الأكبر منها


   يعيد الأوروبيون اكتشاف أمريكا التي يمكنهم معها إقامة علاقات طبيعية وممارسة القليل من الدبلوماسية أخيرًا: في حد ذاته، يعدّ هذا خروجًا كبيرًا عن الطريقة الفوضوية والعدوانية وغير الكفؤة التي اعتمدها ترامب. إنهم يتساءلون اليوم أين ستتشكل أفكار السياسة الخارجية الرئيسية للإدارة الجديدة، من أجل اقتراح أفكارهم، إن كانت لديهم أفكار.

   وينطبق هذا بشكل خاص على مسألتين أساسيتين، حيث تساهم مسيرة جو بايدن والاكراهات السياسية الداخلية واستمرارية ما مع سلفه، في تحديد الأولويات، وفي نفس الوقت أهم تحديات سياسته الخارجية: الصين والتجارة.

   ازداد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، القوي اصلا في عهد ترامب، بمناسبة أول اجتماع ثنائي رفيع المستوى منذ تنصيب جو بايدن، بعد تعداد أنطوني بلينكين، وزير الخارجية الجديد، للعديد من القضايا والمواضيع المثيرة للجدل: قمع الأويغور، والتراجع عن الديمقراطية في هونغ كونغ، وترهيب تايوان، وهو تعداد يهدف محتواه وطبيعته العامة، إلى ان يثبت للصين أن الولايات المتحدة لا تخافها.

  في مارس، سافر بلينكين إلى طوكيو، وجمع ممثلين من الهند وأستراليا واليابان في طريقه. هذا الشكل الرباعي الجديد، الذي يجمع دول المحيط الهادئ الكبرى والأكثر انشغالًا بما تراكمه الصين، يرسل لهذه الاخيرة إشارة واضحة: ستجد الولايات المتحدة مساعدة من القوى الأخرى لموازنتها. إنه الموضوع الأول والأهم للسياسة الخارجية للولايات المتحدة وبقية العالم.
   والثاني، هو التجارة وتنظيم التجارة. وهو مرتبط بالأول: الحد من تجاوزات العولمة يزعج الصين بحكم الامر الواقع، هي التي استفادت منها أكثر من أي دولة أخرى.

بالطبع إن رغبة بايدن في الحدّ من آثار العولمة بعيدة كل البعد عن الحمائية الهوجاء وغير الفعالة التي اعتمدها ترامب؛ كما أنها، من جهة اخرى، تنتج مبادرات يمكن أن تلبي مخاوف الغالبية العظمى من الدول الأوروبية، على غرار اقتراح ضريبة عامة دنيا -21 بالمائة-على أرباح الشركات متعددة الجنسيات. كما أعطت إدارة بايدن إشارات على رغبتها في تسوية النزاع الثنائي العابر للأطلسي بشأن إيرباص وبوينغ، ولكن في هذه المرحلة، دون رفع الضرائب المفروضة على الصادرات الأوروبية في هذا السياق. إنها لا تعطي أي علامة على الرغبة في التخلي عن أكثر ما يثير غضب الأوروبيين في علاقتهم مع الولايات المتحدة، وهو العقوبات الأحادية الجانب التي تتجاوز الحدود الإقليمية.

   ما هو موقف أوروبا من الصين والتجارة الدولية، وما درجة التفاهم التي يمكن أن تصل إليها مع الولايات المتحدة بشأن هاتين المسألتين؟ أولاً، انهما تقسّمان الأوروبيين، وخاصة الصين، التي أصبحت أكبر شريك تجاري لألمانيا عام 2017، بينما تضاعفت تجارتها ثلاث مرات منذ عام 2000، والتي تسعى إلى إقامة روابط مميزة مع دول الأطراف الشرقية وجنوب أوروبا. كان إصرار الرئاسة الألمانية هو الذي أدى إلى إبرام اتفاقية الاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي في ديسمبر الماضي. وتعمل العولمة أيضًا على تقسيم أوروبا، بين نزوع للتجارة الحرة يتجسد في المملكة المتحدة قبل مغادرتها الاتحاد الاوروبي، وفرنسا الأكثر ترددًا، حتى وان تمارس أوروبا ككل سياسة التجارة المفتوحة بشكل عام.

   إلى جانب هذه الاختلافات، يمكن ملاحظة نوع من التقارب بين الأوروبيين: فالآراء تشترك في التطلع إلى عولمة معقلنة أكثر، ولتبادلات أكثر تنظيماً. وهي تحظى بتشجيع من قوتين، الشعبويين والخضر، لكنها تجد صدى ابعد من ذلك اي في الطيف السياسي المعتدل، باسم “المرونة” و “السيادة”: أي التنمية المستدامة، من ناحية، وتعزيز استقلال وأمن أوروبا في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية الأكثر استراتيجية، من ناحية أخرى.

   وهناك بعض التقارب حول الصين أيضًا. العلاقات بين الصين ودولتين أوروبيتين، السويد وجمهورية التشيك، في أزمة مفتوحة: السويد بعد حكم بالسجن عشر سنوات على ناشر سويدي من أصل صيني، تدعي الصين أنه تخلى عن جنسيته السويدية، وجمهورية التشيك، بسبب إرسال وفد برلماني إلى تايوان.
   بشكل عام، يشجع قمع الحركة الديمقراطية في هونغ كونغ ميكانيكيًا الأوروبيين على احياء علاقاتهم بتايوان، كما يتضح من الزيارة الأخيرة للرئيسة التايوانية تساي إنغ وين إلى الدنمارك لحضور قمة الديمقراطيات، والتي احتجت عليها بكين بشدة.

   كما أدت العقوبات التي فرضتها الصين في مارس ضد أعضاء البرلمان الأوروبي انتقدوا حملة القمع ضد الإيغور، إلى رصّ صفوف الأوروبيين، الذين أعلنوا أنها غير مقبولة.
   حقق اجتماع 17 + 1 الذي نظمته الصين في أبريل في بكين لتجمع حولها دول وسط وشرق أوروبا، منها اليونان، نجاحًا متواضعًا، حيث تخلى ستة من أهم القادة الأوروبيين عن الزيارة.

  وأخيراً، في ظل هذا المناخ، يتم تعليق المصادقة على اتفاقية الاستثمار. وفي وثيقة تمت صياغتها بحذر ومخصصة لاستراتيجيته في المحيطين الهندي والهادئ، نُشرت في 21 أبريل، يستحضر الاتحاد الأوروبي كونيّة حقوق الإنسان، والحاجة إلى تنويع إمداداته و”تأمين طرق بحرية حرة ومفتوحة”، الكثير من التلميحات الشفافة إلى الصين.

   عموما، هناك سياق تلتقي فيه مخاوف الأوروبيين والأمريكيين بشأن الصين، حتى لو كان، على المستويين الاستراتيجي والعسكري، للأمريكيين تجاهها وظيفة موازنة منفردة، يبقى الأوروبيون بعيدًا عنها. وهذا من شأنه أن يبرر تنظيم حوار أوروبي أمريكي رسمي بشأن الصين. الشرط الأساسي، كما هو الحال دائمًا، هو أن يحوّل الأوروبيون تقاربهم الحالي في وجهات النظر إلى رؤية سياسية حقيقية، وأن يظهروا مزيدًا من التضامن مع بعضهم البعض، ويعملوا على التوفيق بين مواقفهم، بدءً من فرنسا وألمانيا.

   ويمكن قول نفس الشيء عن التجارة الدولية، رغم اختلاف الموضوع في هذا المجال، حيث يؤدي صعود الحمائية الأمريكية والمسارات الأحادية الجانب التي تتخذها، إلى إحباط المصالح الأوروبية بشكل مباشر. وعلى العكس من ذلك، الأمريكيون متأثرون مقدمًا من خلال إجراءات معينة، لا سيما إدخال آلية تعويض الكربون التي من شأنها أن تكون بمثابة ضريبة على الدخول إلى أراضي الاتحاد الأوروبي.

   حتى وان انطلقا من مصالح متباينة، فان على أوروبا والولايات المتحدة السعي لتنسيق تدابير الرقابة والتأطير، ان لم يكن الحد من حرية التجارة التي يطالب بها رأيهما العام في مواجهة تجاوزات العولمة، وارادتهما في محاربة الاحتباس الحراري واستعادة هوامش من الاكتفاء الذاتي الوطني في القطاعات الاستراتيجية. وسيحفزهما على القيام بذلك سببان: يمكن لسلسلة من الحركات أحادية الجانب وغير المتعاونة أن تعطل، بما يتجاوز نوايا مصمميها؛ التجارة العابرة للمحيط الأطلسي، التي تظل التدفق الرئيسي للتجارة العالمية، لذلك هناك وظيفة أولى وقائية للتعاون الأوروبي الأمريكي في هذا المجال.

السبب الثاني مرتبط بالمنعرج الذي اتخذه بايدن نفسه: مع أمريكا التي تضع على رأس أولوياتها مكافحة الاحتباس الحراري، والحد من التفاوتات، وعولمة أكثر توافقًا مع التنمية المستدامة، في الظاهر أكثر أوروبية في أولوياتها، هناك تدابير يجب تصميمها معًا لمواجهة هذه التحديات: ضرائب الكربون على نطاق عالمي، ومراجعة الإعفاءات الضريبية التي يستفيد منها وقود الطائرات والوقود البحري، والعديد من الإجراءات الأخرى التي لن يكون لها معنى الا إذا طبّقت عالميًا. ووحدهم الأوروبيون والأمريكان يستطيعون معًا تشكيل الكتلة الحرجة الضرورية للترويج لها عالميًا مع بعض فرص للنجاح.   يقال إن مصالح الدول لا تتغير، وأن بايدن، بعد ترامب، يواصل نفس سياسة التوتر مع الصين والقومية الاقتصادية، بما يناقض المصالح الأوروبية، التي يجب تفادي حشرها في حرب باردة مع الصين. فهذه وجهة نظر كسولة إلى حد ما.

  صحيح أن هذين الاتجاهين ما زالا، من رئيس إلى آخر، مهيمنين في السياسة الأمريكية، وتبقى الحقيقة أن هذه المشاكل هي أيضًا ذات أهمية وأولوية للأوروبيين، وأن تطور السياسة الصينية قد يؤدي إلى تقارب مبرر للتحليلات والمواقف بين الأوروبيين ومع الأمريكيين، وأن الطريقة التي ينظر بها بايدن إلى سياسته التجارية ودوافعها الضمنية، تختلف اختلافًا جذريًا عن دوافع ترامب.

   في المجموع، هناك مجال للعمل المشترك بشأن الصين والتجارة، بين الإدارة الأمريكية الجديدة والاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الرئيسية. لا يوجد هنا تقارب تلقائي للمصالح ولا ضمان للنجاح، لكن فرصة لا بد من محاولتها، ويحسن بالأوروبيين اغتنامها قبل أن تتبلور النوايا الأمريكية في مواقف ثابتة يصعب عليهم تغييرها.

*أستاذ منتسب في معهد العلوم السياسية بباريس. من مؤلفاته تبرير الحرب؟ من المساعدة الإنسانية إلى مكافحة الإرهاب