تضمّن دروسا لبروكسل وواشنطن:

سبر آراء: الحرب الباردة تعود بدون الأوروبيين...!

سبر آراء: الحرب الباردة تعود  بدون الأوروبيين...!

-- على عكس أحداث الحرب الباردة، لا يبدو أن التوتر بين الصين والولايات المتحدة مصدر قلق كبير للرأي العام الأوروبي
-- يكشف مسح المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية عن أربعة انقسامات واضحة بين العواصم الأوروبية وواشنطن
-- يعتقد ما يقرب من ثلثي المستجوبين في أوروبا، أن  انقســـــامًـــــــا جديدًا يشبه الحرب الباردة آخذ في التطور
-- يرى الأوروبيون أن الصراع مع روسيا أكثر واقعية من الصراع مع الصين


   هل عادت الحرب الباردة كما يعتقد بعض المعلقين؟ هل يواجه “العالم الحر” مرة أخرى تصاعد السلطوية؟
هل ستلعب عودة المنافسة بين القوى العظمى دورًا موحدًا؟ وفقًا للتحالف الأمني الجديد في منطقة الهندي -الهادي المعلن بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، والذي يطلق عليه اسم “اوكوس”، فإن الإجابة هي نعم.

   دراسة استقصائية جديدة قام بها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أجريت في 12 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، يبدو أنها تؤكد هذا الرأي. يعتقد ما يقرب من ثلثي الذين شملهم الاستطلاع في أوروبا أن انقسامًا جديدًا شبيه بالحرب الباردة يتطور بين الصين والولايات المتحدة. لكن هذه المواجهة الجديدة لها خصوصية: معظم مواطني الاتحاد الأوروبي لا يشعرون أن دولتهم طرف فيها.
   حتى قبل كارثة اتفاقية “اوكوس”، التي أدت بالحكومة الفرنسية إلى التحدث عن خيانة من جانب واشنطن ولندن، كان مواطنو العديد من الدول الأوروبية منقسمين للغاية حول التلميح إلى مواجهة عالمية جديدة.

   في الواقع، يعتقد 15 بالمائة منهم فقط، أن بلادهم تخوض حربًا باردة مع الصين، بينما يعتقد 59 بالمائة أن بلادهم لم تشارك بعد. هناك فروق دقيقة بين الدول الأعضاء المختلفة، ولكن يظهر اتجاه عام: في جميع البلدان التي شملها استطلاع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، هناك عدد أكبر من الأشخاص الذين ينكرون وجود حرب باردة جديدة أكثر من الأشخاص الذين يعتقدون أن مثل هذا الصراع جار.
   يريد إيمانويل ماكرون بناء استقلال استراتيجي أوروبي كبديل للاعتماد على الولايات المتحدة، لكن نتائجنا تظهر أن العديد من المواطنين الأوروبيين يرون أن بروكسل هي الحليف الأكثر موثوقية للولايات المتحدة وليس كقطب بديل.

    عندما يتعلق الأمر بالمواجهة مع روسيا أو الصين، يميل الأوروبيون إلى رؤية بروكسل، وليس بلدانهم، أكثر المشاركين نشاطًا في أوروبا في هذه الصراعات. ويعتقد 31 بالمائة من الأوروبيين أن بروكسل، على الأرجح أو بالتأكيد، في حالة حرب باردة مع الصين. وهذا يعني أن الضعف يعتقدون أن الاتحاد الأوروبي هو في حالة حرب باردة مع الصين وليس دولتهم. أما بالنسبة لروسيا، فإن الغالبية منهم تعتقد أن الاتحاد يخوض حربًا باردة: 44 بالمائة يوافقون على أن هذه الحرب جارية، بينما يوافق 26 بالمائة فقط على عكس ذلك.   

وإذا كان من السابق لأوانه معرفة العواقب طويلة المدى لهذه الديناميكية، فمن الواضح أنه على المدى القصير، لا يعتقد الرأي العام أن العلاقات عبر الأطلسي مصطفة مع العلاقات بين الصين وروسيا. ويكشف مسح المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، عن أربعة انقسامات واضحة بين العواصم الأوروبية وواشنطن يمكن أن تخلق توترات داخل التحالف عبر الأطلسي من ناحية، وبين العواصم الوطنية والمؤسسات الأوروبية من ناحية أخرى.    يتعلق أول هذه الانقسامات بواشنطن والطريقة التي تصوغ بها إدارة بايدن التحديات الأيديولوجية التي تفرضها الأنظمة السلطوية الصينية والروسية. إن تصويرهم لسيناريو شبيه بـ “الحرب الباردة”، حيث يتحد الغرب الديمقراطي ضد الأُوتُوقْراطِية، لا يعكس التصورات الأوروبية. وتكشف مجموعة معطيات وبيانات المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن قلة من الأوروبيين يرون في التعارض بين الأُوتُوقْراطِية والديمقراطية وسيلة مفيدة للتعامل مع السياسة العالمية. ويعتقد غالبية الذين أجابوا على استطلاع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن طبيعة نظام سياسي معين ليست كافية لتفسير فشل أو نجاح الحكومات في التعامل مع الوباء أو تغير المناخ. وحتى فيما يتعلق بمسألة المساهمة في الأمن العالمي، يوافق 50 بالمائة فقط على أن الديمقراطيات تفعل أكثر من الأنظمة السلطوية، بينما يعتقد 36 بالمائة أن نوع النظام لا يحدث فارقًا.

   الانقسام التالي، هو عدم وجود اتفاق بين الأوروبيين على وجود تهديد وجودي. خلال الحرب الباردة الأولى، كان الناس على استعداد لإعادة ترتيب أولوياتهم لحماية أنفسهم من الدبابات السوفياتية أو المحرقة النووية. قلة من الأوروبيين يرون الصين في عهد شي بهذه الطريقة، ويعتقد 5 بالمائة منهم فقط، أن الصين “تدير العالم”. وربما الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لبروكسل وواشنطن، هو أن أقل من واحد من كل عشرة أشخاص، في الدول الأعضاء مثل ألمانيا أو فرنسا، يعتقد اليوم أنه يمكنهم الاعتماد على ضمانة الأمن الأمريكي، ويعتقد واحد من كل ثلاثة أشخاص أنهم لا يحتاجونها على الإطلاق”. ومن غير المرجح أن يكون ميثاق” اوكوس” قد ألهم أي ثقة في السياسة الخارجية الامريكية، أو أنهى الشكوك تجاهها.

   وتوفر آخر مجموعة بيانات للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، تفاصيل حول العوامل الكامنة وراء هذه التغييرات في الإدراك بين الأوروبيين. إنها تظهر أنه عندما يُسأل عن من يملك السلطة الأكبر في العالم، فإن معظم الأوروبيين لا يفكرون في القوى العظمى على الإطلاق. على سبيل المثال، يعتقد 13 بالمائة فقط من الأوروبيين، أن حكومة الولايات المتحدة لها التأثير الأكبر على كيفية إدارة العالم، بينما يعتقد 6 بالمائة فقط الأمر نفسه بشأن الصين. وبشكل عام، يميل المواطنون الأوروبيون إلى التفكير في الجهات الفاعلة غير الحكومية والشركات والأفراد فاحشي الثراء، على أنهم أكثر المجموعات نفوذاً في عالم اليوم.

   المشكلة الثالثة تنبع من الجغرافيا وليس التاريخ. الملاحظ، أن الأوروبيين يرون أن الصراع مع روسيا أكثر واقعية من الصراع مع الصين. وكما سبق ان أشرنا، يعتقد 31 بالمائة فقط أن حربًا باردة جارية بين الاتحاد الأوروبي والصين، لكن الغالبية النسبية البالغة 44 بالمائة، تعتقد أن هذا الصراع قائم بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. ويشير هذا التركيز الجغرافي الخاص إلى اختلاف مهم عن الحرب الباردة السابقة: فالصراع بين الولايات المتحدة والصين له بُعد عالمي، ومن المرجح أن يكون المسرح الرئيسي للصراع في آسيا. وفي هذا السيناريو الجديد، تحتل أوروبا موقعًا مشابهًا لما كانت عليه اليابان قبل عام 1989: حليف أمريكي موثوق به، ولكن خارج مجال المواجهة الرئيسي.

   وبالنظر الى غياب وحدة أيديولوجية منضبطة بين الولايات المتحدة وأوروبا، وتهديد وجودي في جوار أوروبا، فليس من المستغرب أن يرى الأوروبيون التحالفات بشكل مختلف، وهو المجال الرابع للاختلاف. كما كشف استطلاع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية لما قبل الوباء لعام 2019، فإن العديد من الأوروبيين يفضلون البقاء على الحياد في حال نشوب صراع بين الولايات المتحدة والصين أو روسيا. وحتى منذ فوز جو بايدن في الانتخابات العام الماضي، فإن نصف الناخبين على الأقل في البلدان التي شملها الاستطلاع، ما زالوا يرغبون في أن تتخذ حكوماتهم هذا الموقف.

   وإذا كانت استطلاعات الرأي التي أجريناها على مدى العامين الماضيين قد أظهرت اتجاهًا دائمًا، فهو أن واشنطن وبروكسل قد تواجهان صعوبة في حشد دعم الراي العام من “كل المجتمع” للدفاع عن الديمقراطية الغربية. القادة الأوروبيون والأمريكيون، الذين يسعون إلى مهاجمة الأنظمة الاوتوقراطية في الصين وروسيا، يخاطرون بالفشل عندما يجدون أنهم يفتقرون إلى الإجماع المجتمعي.

ترجمة خيرة الشيباني
*إيفان كراستيف مدير مركز الاستراتيجيات الليبرالية
 في صوفيا
**مارك ليونارد مؤسس مشارك ومدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومؤلف اثنين من أكثر الكتب مبيعًا: لماذا ستدير أوروبا القرن الحادي والعشرين (2005) وماذا تفكر الصين؟ (2008)، وكذلك ناشر حروب الاتصال (2016).