أشباح روسية في بحر البلطيق

كيف تحولت ناقلة نفط متهالكة إلى منصة تجسس؟

كيف تحولت ناقلة نفط متهالكة إلى منصة تجسس؟


في مشهد يعيد تعريف “الحرب الهجينة” الروسية، تحولت ناقلة نفط روسية تُعرف باسم “بوراكاي” إلى ما يشبه “الشبح البحري”، يجوب مياه البلطيق، مثيرة فوضى غير مسبوقة في الأجواء والموانئ الأوروبية.
جاء ذلك بالتزامن مع سلسلة غامضة من الهجمات بطائرات مسيّرة استهدفت مطارات ومنشآت حيوية في الدنمارك وألمانيا، قبل أن تحتجزها فرنسا قبالة سواحل بريست في واحدة من أكثر الحوادث غموضا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.ووفقا لصحيفة “تيليغراف” البريطانية، حملت الناقلة “بوراكاي” أعلاما مزيفة من بنين ومالاوي وغامبيا، وكانت تتحرك قرب كوبنهاغن في 22 أيلول-سبتمبر، بالتزامن مع إغلاق مطار العاصمة لساعات إثر رصد أسراب من الطائرات المسيرة.وبعدها بأيام، أُغلقت أربعة مطارات أخرى في شمال الدنمارك لأسباب مشابهة، وفي التوقيت نفسه رُصدت طائرات مسيرة قرب مدينة كيل الألمانية تتجسس على محطة طاقة وحوض بناء سفن عسكري ومستشفى وبرلمان إقليمي، وفي تلك اللحظة كانت “بوراكاي” على مقربة من الموقع نفسه في بحر الشمال.
هجمات الدرون
هذا الترابط المريب بين تحركات الناقلة وسلسلة هجمات الدرون دفع محللين إلى ترجيح أن السفينة تحولت إلى منصة إطلاق ومراقبة للطائرات المسيّرة الروسية، في إطار حرب الظل التي تخوضها موسكو ضد حلف الناتو.
وتأتي هذه الشبهات في وقت حذر فيه قادة غربيون من أن روسيا تستخدم “أسطول الظل”، وهو شبكة ناقلات نفط متهالكة مموّهة تحت ملكيات وهمية، لتنفيذ أنشطة تخريبية في أوروبا وتمويل عملياتها العسكرية رغم العقوبات الغربية.
وفحصت السفينة آخر مرة في إستونيا في نيسان-أبريل الماضي، وسُجلت 40 عيبا فنيا في أجهزتها. وتُعد نموذجا مصغرا لأسطول روسي “مظلم” يتحرك خارج الأطر القانونية، خاصة وأن ملكيتها تعود إلى شركة غامضة مسجلة في سيشل، وتعمل دون تأمين ساري المفعول؛ ما يثير مخاوف بيئية هائلة من احتمال تسببها في كوارث تسرب نفطي دون وجود طرف يتحمل المسؤولية.
تهديدات عائمة وعمل قرصنة
ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين احتجاز السفينة بأنه “عمل قرصنة”، فيما فتح الحادث الباب على مصراعيه أمام تساؤلات صعبة حول حدود الحرب الروسية غير المعلنة ضد أوروبا، ومدى استعداد الغرب للتعامل مع جيل جديد من “التهديدات العائمة” التي تجمع بين النقل التجاري والتجسس العسكري في بحر البلطيق المضطرب.
ويرى الخبراء أن ما يُعرف بـ”أسطول الظل” الذي تعتمد عليه روسيا في نقل النفط، تحول تدريجيا إلى أداة استخباراتية فعالة، بعدما باتت بعض ناقلاته القديمة تُستخدم كـ”منصات تجسس” متنقلة في بحر البلطيق، وهي المنطقة الأكثر حساسية بالنسبة لحلف الناتو.وأشار الخبراء إلى أن مراقبة هذه السفن تمثل تحديا ضخما للدول الأوروبية نظرا لصعوبة تتبع مساراتها أو التحقق من هويتها، في ظل محدودية الموارد التقنية واللوجستية المطلوبة لمراقبة الممرات البحرية الضيقة والمعقدة.
واعتبروا أن ما يجري لا يمثل تصعيدا جديدا بقدر ما هو استمرار لـ”لعبة تجسس متبادلة” بين روسيا والغرب، مشيرين إلى أن أوروبا تواجه عبئا متزايدا في مواجهة هذه “الأشباح الروسية” وسط ضغوط اقتصادية وعسكرية متصاعدة.
ظاهرة معقدة ودعم أمريكي
في البداية، قال آصف ملحم، مدير مركز GSM للأبحاث والدراسات في روسيا، إن “أسطول أو ناقلات الظل” التي تعتمد عليها موسكو يمثل ظاهرة معقدة يصعب على الدول الغربية تتبعها بدقة، نظرا لتشابك العوامل الفنية واللوجستية، ما لم تحظَ بدعم مباشر من الولايات المتحدة.
وأكد ملحم لـ”إرم نيوز” أن مراقبة هذه السفن تتطلب موارد ضخمة تشمل الوقت والتمويل والجهد الحكومي المتعدد، مشيرا إلى أن روسيا تواصل توسيع هذا الأسطول؛ ما يجعل فرض عقوبات فعالة أمرا بالغ الصعوبة.
وأشار إلى أن المرور في ممرات ضيقة مثل مضيق الدنمارك والخليج الفنلندي يضاعف من تعقيد عمليات الرصد، وفي الوقت نفسه يبقى التحقيق من أوراق التأمين والتتبع مسألة “شديدة التعقيد».وأضاف أن بعض الدول التي تشرف على المعابر الحيوية، مثل قناة السويس وقناة بنما، لا تستجيب دائما للدعوات الغربية للمشاركة في مراقبة “سفن الظل”؛ ما يعقد الجهود الدولية الرامية للسيطرة على نشاط هذه الناقلات.
منصات للتجسس
وكشف ملحم أن موسكو تستخدم بالفعل بعض هذه السفن كـ”منصات للتجسس”، في ظل عجز غربي عن مراقبتها بكفاءة، خاصة وأن بحر البلطيق يعد منطقة استراتيجية بالنسبة لحلف الناتو، حيث تنشط فيها عمليات عسكرية دائمة؛ ما يمنح روسيا دافعا قويا لتعزيز وجودها الاستخباراتي هناك.
واعتبر أن توظيف ناقلات قديمة في هذا الإطار يمثل “نجاحا مزدوجا” لروسيا؛ فمن جهة تلتف على العقوبات الاقتصادية، ومن جهة ثانية تستفيد من قدراتها في رصد الإشارات والتقاط المعلومات حول تحركات السفن الحربية والغواصات في محيط البلطيق.وأشار ملحم إلى أن أوروبا تواجه معضلة مزدوجة تتمثل في مراقبة معدات التجسس المخبأة على هذه السفن، وفي الوقت نفسه متابعة نشاط تهريب النفط الروسي، واصفا ذلك بأنه نجاح كبير لروسيا في إرهاق القدرات الأوروبية التي تعاني من ضغط متزايد نتيجة تتبع الطائرات المسيرة القادمة من الشرق.
موقف روسيا من هذه الاتهامات
من جانبه، قال رامي القليوبي، الأستاذ بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، إنه لا يوجد حتى الآن تأكيد رسمي من الجانب الروسي بشأن استخدام الناقلة لأغراض تجسس، إلا أنه في الوقت نفسه لا يوجد ما يمنع من احتمال قيامها بمثل هذه الأنشطة، باعتبار أن التجسس نشاط دائم تمارسه جميع الدول ضد بعضها البعض.وأضاف القليوبي أن من الطبيعي أن تمارس روسيا أعمال مراقبة واستخبارات ضد الدول الأوروبية التي ازدادت عداءً لها مؤخرا، مشيرا إلى أن بحر البلطيق يعد موقعا مثاليا لمثل هذه العمليات؛ لما يتمتع به من أهمية استراتيجية في التوازن الأمني بين موسكو وحلف الناتو.
وضرب مثالا لحادثة وقعت عام 2019 حين اختفى موظف يعمل في الكرملين، 
وتبين لاحقا أنه يمتلك منزلا في إحدى ضواحي واشنطن؛ ما أثار كثيرا من التساؤلات حول “حروب التجسس الخفية” بين الطرفين.
وتابع القليوبي أن هذه التحركات لا تقتصر على روسيا وحدها، فالدول الأوروبية والولايات المتحدة تمارس أنشطة مماثلة في محيط النفوذ الروسي، معتبرا أن ما يحدث اليوم ليس تصعيدا جديدا، بل استمرار للعبة تجسس متبادلة تعود جذورها لعقود.