فكرة نقل آلاف الجثث بدأت في أواخر 2018

مؤامرة في عهد الأسد حولت صحراء سوريا إلى مقبرة جماعية

مؤامرة في عهد الأسد حولت صحراء سوريا إلى مقبرة جماعية


كانت رائحة الموت التي لا تخطئها الأنوف تعبق الأجواء على طول الطريق الصحراوي السوري أربع ليال أسبوعيا على مدار عامين تقريبا.. إنها رائحة عشرات الآلاف من الجثث التي تنقلها شاحنات من مقبرة جماعية إلى أخرى في موقع سري.
كان ممنوع على السائقين مغادرة سياراتهم بينما أقسم الميكانيكيون ومشغلو الجرافات على التزام الصمت، فقد كانوا يعلمون جيدا أنهم سيدفعون حياتهم ثمنا للتحدث علنا. كانت أوامر “عملية نقل الأتربة” شفهية فقط وأشرف عليها ضابط سوري برتية عقيد، قضى ما يقرب من عقد من الزمن في دفن قتلى الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
صدرت أوامر نقل الجثث من القصر الرئاسي. وأدار العقيد، المعروف باسم “أستاذ التطهير”، العملية من 2019 حتى 2021.
كانت المقبرة الأولى، في بلدة القطيفة بريف دمشق، تضم خنادق مليئة برفات أشخاص ماتوا في السجن أو أثناء الاستجواب أو خلال القتال. وكشف نشطاء مدافعون عن حقوق الإنسان عن وجود تلك المقبرة الجماعية خلال سنوات الحرب الأهلية، وكانت تعتبر لفترة طويلة واحدة من أكبر المقابر الجماعية في سوريا.
لكن تحقيقا أجرته رويترز خلص إلى أن حكومة الأسد قامت سرا بالحفر في موقع القطيفة ونقلت آلاف الجثث بالشاحنات إلى موقع جديد في منشأة عسكرية تبعد أكثر من ساعة في صحراء الضمير.
وفي تقرير حصري نُشر يوم الثلاثاء، كشفت رويترز عن مخطط إعادة الدفن السري ووجود المقبرة الجماعية الثانية. ويمكن لرويترز الآن أن تكشف، بتفاصيل دقيقة، كيف نفذ المسؤولون هذه المؤامرة وأبقوها طي الكتمان لمدة ست سنوات.
تحدثت رويترز إلى 13 شخصا على دراية مباشرة بالجهود التي استمرت عامين لنقل الجثث، وحللت أكثر من 500 صورة من صور الأقمار الصناعية للمقبرتين الجماعيتين التُقطت على مدى أكثر من عقد، والتي لم تُظهر فقط إنشاء مقبرة القطيفة، ولكن أيضا كيف توسع الموقع السري، مع إعادة فتح خنادق الدفن وحفرها، حتى غطى مساحة شاسعة من الصحراء.
استخدمت رويترز التصوير الجوي بالطائرات المسيرة للتأكد من نقل الجثث. وبإشراف خبراء في الجيولوجيا الجنائية، التقطت رويترز أيضا آلاف الصور بطائرات مسيرة وعلى الأرض للموقعين بهدف إنشاء صور مركبة عالية الدقة. وفي صحراء الضمير، أظهرت رحلات الطائرات المسيرة أن التربة غير المستوية حول خنادق الدفن كانت أكثر احمرارا وقتامة من المناطق المجاورة المستوية، وهو نوع التغيير المتوقع إذا أضيفت تربة القطيفة إلى تربة صحراء الضمير، وفقا لما ذكره بنجامين روك ولورنا داوسون الخبيران الجيولوجيان اللذان قدما المشورة لرويترز.
تنتشر المقابر الجماعية في أنحاء سوريا، لكن الموقع السري الذي اكتشفته رويترز يعد من بين أكبر المواقع المعروفة. ومع ما لا يقل عن 34 خندقا يبلغ طولها الإجمالي كيلومترين، تعد المقبرة الواقعة بالقرب من بلدة الضمير الصحراوية من بين أوسع المقابر التي تم حفرها خلال الحرب الأهلية التي مزقت البلاد.
وتشير روايات الشهود وأبعاد الموقع الجديد إلى احتمال دفن عشرات الآلاف هناك.
وقررت رويترز عدم الكشف عن الموقع لحمايته من التلاعب.
وبعد نشر التقرير الأول لرويترز، قالت الهيئة الوطنية للمفقودين التابعة للحكومة إنها تواصلت مع وزارة الداخلية لحماية الموقع وفق الآليات المتبعة لديهم. وأوضحت اللجنة لرويترز أن نقل الجثث بشكل عشوائي إلى موقع الضمير سيجعل عملية تحديد هوية الضحايا أكثر تعقيدا.

وقالت اللجنة “ما تكشف عنه عمليات نقل التربة الأخيرة لا يقتصر على بعد سيادي أو لوجستي، فلكل أسرة مفقود معاناة خاصة تتشابك مع تعقيدات علمية قد تحول مهمة التعرّف إلى مشروع تقني طويل ومكلف».
وفقا لشهود شاركوا في العملية، كانت ست إلى ثماني شاحنات مليئة بالتراب والبقايا البشرية والديدان تتوجه إلى موقع الضمير الصحراوي أربع ليال تقريبا كل أسبوع. وبحسب شهود، بما في ذلك سائقا شاحنتين وثلاثة فنيين لإصلاح السيارات وسائق جرافة وضابط سابق من الحرس الجمهوري التابع للأسد شارك منذ الأيام الأولى في عملية نقل الجثث، التصقت الرائحة الكريهة بملابس وشعر جميع المشاركين.
وقال الضابط السابق بالحرس الجمهوري إن فكرة نقل آلاف الجثث بدأت في أواخر 2018، عندما اقترب الأسد من تحقيق النصر في الحرب الأهلية السورية. وأضاف أن الأسد كان يأمل في استعادة الاعتراف الدولي بعد تهميش لسنوات جراء العقوبات والاتهامات بارتكاب فظائع.
في ذلك الوقت، كان الأسد متهما بالفعل باحتجاز آلاف السوريين لكن لم تتمكن أي من الجماعات السورية المستقلة أو المنظمات الدولية من الوصول إلى السجون أو المقابر الجماعية.
وقال الضابط إنه في اجتماع عام 2018 مع المخابرات الروسية، تلقى الأسد تطمينات بأن الحلفاء يعملون بدأب لإنهاء عزلته. ونصحه الروس بإخفاء أدلة على انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان. وأضاف الضابط “خصوصا الاعتقالات والمقابر الجماعية والهجمات الكيماوية».
وقال سائقا الشاحنتين والضابط لرويترز إنهم أُبلغوا بأن الهدف هو تطهير مقبرة القطيفة الجماعية وإخفاء أدلة على عمليات القتل الجماعي.
ظهر أول خندق في القطيفة في صور الأقمار الصناعية عام 2012. وكشف ناشط سوري في مجال حقوق الإنسان موقع القطيفة من خلال تسريب صور لوسائل إعلام محلية عام 2014 تظهر وجود المقبرة وموقعها على مشارف دمشق، واتهم الأسد باستخدام الموقع لإخفاء العدد الهائل للقتلى في عهده. وتحدد موقعه بدقة بعد بضع سنوات من خلال شهادات في المحاكم وتقارير إعلامية أخرى. لكن بحلول الوقت الذي سقط فيه الأسد، كانت جميع الخنادق الستة عشر التي وثقتها رويترز قد تم إفراغها.
ورفضت أجهزة الاستخبارات الخارجية الروسية التعقيب، ولم يستجب المستشار القانوني للأسد لطلبات التعليق على نتائج رويترز.
ووفقا لمنظمات حقوقية سورية اختفى ما يربو على 160 ألف شخص على يد جهاز الأمن الضخم التابع للدكتاتور المخلوع، ويُعتقد أنهم مدفونون في عشرات المقابر الجماعية التي أمر بحفرها. وقدّرت الحكومة عدد المفقودين منذ بدء حكم عائلة الأسد عام 1970 بما يصل إلى 300 ألف شخص. ويمكن أن تساعد عمليات التنقيب المنظمة وتحليل الحمض النووي في الكشف عما تعرض له هؤلاء، وقد تسهم هذه الجهود في تضميد أحد الجراح الغائرة في تاريخ سوريا.
لكن نظرا لقلة الموارد لا تحظى حتى المقابر الجماعية المعروفة بالحماية ولا يتم التنقيب فيها. كما أن القادة الجدد للبلاد، الذين أطاحوا بالأسد في ديسمبر كانون الأول، لم ينشروا أي وثائق تتعلق بهذه المقابر، رغم المناشدات المتكررة من عائلات المفقودين.
وكانت الطرق المحلية تغلق عندما تتجه الشاحنات نحو موقع الدفن. وقال ضابط الفرقة الثالثة الذي رافق الشاحنات إنه في عام 2014، تعطلت شاحنة على الطريق السريع وتوقف جميع من كانوا في القافلة المتجهة إلى القطيفة.
وقدم نايفة رواية مطابقة لهذه الواقعة. وذكر ضابط الفرقة الثالثة أنه تلقى اتصالا غاضبا من قائد إسمندر، اللواء عمار سليمان قال فيه “اجتنا الأوامر من الرئيس: سكروا الطريق الدولي».
كان سليمان أحد كبار القادة العسكريين في سوريا، وأحد أفراد الدائرة المقربة من الأسد. تولى قيادة الخدمات الطبية العسكرية، وكان القائد المباشر لإسمندر. وتأكد تورطه في شهادة نايفة، وشهادة قائد في الدفاع الوطني، وهي قوة شبه عسكرية تابعة للأسد مباشرة شاركت في أكثر العمليات الأمنية سرية في سوريا.
لم يرد سليمان على رسالة طلبا للتعليق.
لم تعثر رويترز على أي وثائق تتضمن أوامر مباشرة من الأسد بشأن المقابر الجماعية بشكل عام أو “عملية نقل الأتربة”. لكن ضابط الحرس الجمهوري وقائد الدفاع الوطني قالا إنه من غير المعقول ألا يكون الأسد قد أمر بذلك.
وقال القائد بالدفاع الوطني “بتحداك تلاقي شي بأمر صريح من بشار الأسد... كان عرفان أنه رح يجي يوم ويتحاسب وما كان بدّه يوسخ إيديه».
واستنادا إلى وتيرة عمليات النقل خلال تلك السنوات، قدر حاج خليل أن القطيفة كانت تضم ما بين 60 و80 ألف قتيل حتى نهاية عام 2018. وأظهر تحليل رويترز لصور الأقمار الصناعية أن عمليات حفر الخنادق توقفت حينها.
وبحلول ذلك الوقت، وبمساعدة روسيا وإيران، أصبح يُنظر إلى الأسد على نطاق واسع باعتباره المنتصر في الحرب الأهلية. ومع ذلك، كان قد فقد السيطرة على جزء كبير من شمال سوريا لصالح هيئة تحرير الشام التي كان يقودها الشرع والقوات الكردية التي اقتطعت كل منها مناطق حكم ذاتي.وقال الضابط في الحرس الجمهوري إنه في إحدى أمسيات أواخر عام 2018، استدعى الأسد أربعة من قادة الجيش والمخابرات إلى القصر الرئاسي لمناقشة ما يجب فعله بشأن المقابر الجماعية، وخاصة موقع القطيفة. وقال الضابط الذي كان يعمل في القصر في ذلك الوقت إنه كان من بين عدد قليل من الذين اطلعوا على محضر الاجتماع.وأضاف أن مدير المخابرات العسكرية اللواء كمال حسن اقترح تجريف مقبرة القطيفة الجماعية بأكملها ونقل محتوياتها إلى مكان أبعد.
وقال “الفكرة كانت مجنونة للكل، بس بشار عطاها الضو الأخضر”. وذكر أن الأساس في الموقع الجديد هو أن يكون تحت السيطرة العسكرية.وقال الضابط إن مدير المخابرات العسكرية حسن أمر بإرسال تقارير أسبوعية إلى القصر الرئاسي. ولم تتمكن رويترز من الاتصال بحسن، الذي يُعتقد أنه ليس في سوريا، للحصول على تعقيب.
ووفقا لما ذكره الضابط ورئيس مجلس المدينة السابق حاج خليل وتحليل رويترز لصور الأقمار الصناعية، بدأ في نوفمبر تشرين الثاني 2018، العمل في بناء جدار خرساني حول القطيفة. وتظهر صورة التقطتها الأقمار الصناعية في فبراير شباط 2019 الجدار المحيط بالمقبرة الجماعية بأكملها ويبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار، مما أدى إلى حجب أي رؤية للموقع من مستوى سطح الأرض.
وفي صحراء سوريا، على بعد أكثر من ساعة، ظهرت أولى الخنادق البالغ عددها 34 على الأقل في أوائل فبراير شباط 2019. كانت عملية جديدة قد بدأت في قاعدة عسكرية تتعرض للرياح بالقرب من بلدة الضمير، محمية بسلسلة من السواتر الترابية والأسوار، ومحاطة بالجبال من جميع الجهات.