رئيس الدولة ونائباه يهنئون رئيس مجلس القيادة الرئاسي في اليمن باليوم الوطني لبلاده
شخصية ذات مسيرة فكرية راديكالية ومعقدة
من البلشفية القومية إلى الأوراسية، من هو ألكسندر دوغين حقًا؟
-- رؤية دوغين واضحة: أوكرانيا جزء لا يتجزأ من روسيا ومرور كييف إلى المعسكر الأطلسي يمثل تهديدًا لروسيا
-- لا يسعى التيار الأوراسي المعاصر إلى فصل روسيا عن الحضارات الأوروبية والآسيوية القائمة
-- ألكسندر دوغين معروف قبل كل شيء بالبعد الجيوسياسي الذي يراه في الأوراسية الجديدة
-- تقدم البلشفية القومية روسيا على أنها حصن العالم الأرثوذكسي وتقاليده ضد الغرب
-- يظل دوغين شخصية بارزة في القومية الروسية والراديكالية السياسية المعاصرة
في 20 أغسطس 2022، اختفت داريا دوغينا، 29 عامًا، ابنة المنظر الروسي ألكسندر دوغين، في هجوم غامض للغاية.
وأتهمت المخابرات الروسية أوكرانيا بارتكاب الهجــــوم، وقــــد نفــــت هـــــذه الأخيرة أي تورط لها.
أعادت هذه الحلقة إلى المقدمة ألكسندر دوغين، شخصية ذات مسيرة فكرية راديكالية ومعقدة، والتي أدى تأثيرها المفترض على السلطة الروسية وتحديداً على فلاديمير بوتين، إلى تحليلات متناقضة للغاية، وتبالغ بعض وسائل الإعلام بوضوح في تأثير فكره في دوائر السلطة في الكرملين.
المؤكــــــــد، هو أن دوغـــــين (مثــــــل ابنته، بدرجة أقل، النجمــــة الصاعـــــــدة لما يسمى بالحركة الأوراســــــية الجديدة) شخصية بـــــــارزة، وإن كانت هامشـــــــية نسبيًا، في الثلاثين عامًا الأخيرة من الحياة الفكرية الروسية.
من هو بالضبط، وما هي الأوراسية الجديدة، التي كان بطلها لعدة عقود؟
التنجيم والجغرافيا السياسية: بدايات
ألكسندر دوغين
ألكسندر جيلفيتش دوغين ولد عام 1962 في موسكو. جاء من عائلة مندمجة تمامًا في المجتمع السوفياتي، ومع ذلك فقد انفصل عنها أثناء دراسته الهندسية في معهد موسكو للطيران، والتي تخلى عنها لصالح العلوم الإنسانية -انتهى به الأمر بمناقشة أطروحة في الفلسفة في جامعة روستوف عام 2000. من عام 1980، كان يتردد على دائرة يوجينسكي المنشقة (التي أخذت اسمها من الاسم القديم لشارع بولشوي بالاتشيفسكي حيث تأسست المجموعة)، التي أسسها الكاتب يوري ماملييف. وعلى الرغم من أن هذه الدائرة قد تضاءلت بطرد ماملييف من الاتحاد السوفياتي عام 1974، إلا أن هذه الدائرة استمرت في أنشطتها حتى منتصف التسعينيات، والتي حملتها روح البيريسترويكا التحررية.
في هذه البيئة الطليعية، أصبح دوغين، الذي شجعه، من بين آخرين، عالم التنجيم يفغيني جولوفين والفلسفة الصوفية جيدار جمال، مهتمًا بالمؤلفين التقليديين مثل الفرنسي رينيه جينون 1886-1951 والإيطالي يوليوس إيفولا 1898- 1974.
طُبع بمفهوم “الإمبراطورية العضوية”، الذي بلوره هذا الأخير، طور دوغين في شبابه جاذبية لتيارات الفكر الألماني، ولا سيما الثورة الألمانية المحافظة. وعلى الرغم من حساسيته لكتابات العالم الجيوسياسي كارل هوشوفر “1869-1946”، الذي وضع نظرية عن أهمية الفضاءات الكبرى في إطار تأكيد القوة، فإنه أولى اهتمامًا خاصًا لما يسمى بأفكار “الطريق الثالث” لأرثر مولر وفان دن بروك “1876-1925” ومنظر البلشفية القومية إرنست نيكيش “1889-1967”، وكل منهم معاد لليبرالية والشيوعية، ومؤيد “لمجتمع جديد ذي مصير اجتماعي وقومي».
إن كل هذه المجموعة الأدبية التي يقرأها ويجمعها بصرامة، سمحت له بالارتقاء بسرعة داخل اليمين الروسي الجديد الذي لا يزال في مرحلة النشوء في نهاية الثمانينات، ولكن أيضًا للحصول على عدد من العلاقات على الجانب الآخر من الستار الحديدي.
حريصًا -تمامًا مثل الصحفي القومي المتطرف ألكسندر بروخانوف “من مواليد 1938” -على انتزاع اليمين الروسي من أصوله النظرية والتنظيمية القديمة، سيلتقي ألكسندر دوغين منذ عام 1989 بالعديد من كوادر اليمين الفرنسي الجديد مثل آلان دي بينويست. وروبرت ستيكرز وحتى جان تيريارت، وسيصبح الممثل في روسيا للحركة القومية لعموم أوروبا: جبهة التحرير الأوروبية.
التجربة القومية البلشفية
مؤلف ومحاضر، دخل ألكسندر دوغين السياسة رسميًا عام 1990.
على الرغم من انضمامه في البداية إلى حركة باميات (الذاكرة) اليمينية المتطرفة، إلا أنه كان يفتقر إلى الدعم داخل منظمة لا تولي اهتمامًا كبيرًا لقراءته للسياسة القائمة جزئيًا على الباطنية.
وفي وقت كانت المعارضة القومية الروسية تجد صعوبة للظهور في المشهد السياسي لـ “العقد الأسود”، أسس في 1 مايو 1993، مع الكاتب إدوارد ليمونوف “1943-2020”، تحالفًا افتراضيًا، الجبهة القومية البلشفية، وتم تسجيلها بعد ذلك بعامين تحت اسم الحزب القومي البلشفي.
تم تقديم الحزب القومي البلشفي كحركة تجديدية ترغب في تأكيد نفسها في فترة من عدم الاستقرار السياسي -تميزت بشكل خاص بانقلاب الرئيس بوريس يلتسين ضد البرلمان الروسي في أكتوبر 2003. والحزب القومي البلشفي، هو حزب غير متجانس يجمع بين عناصر من حركة البانك مثل المطرب إيجور ليتوف من حليقي الرؤوس وقدماء المؤمنين.
أنشطته متعددة. في الواقع، انتشر الحزب القومي البلشفي في الشارع من خلال النشاط الاستباقي، وفي المجال الثقافي، كمشروع طليعي يعتمد بشكل كبير على الروح والجماليات أندرغراوند، حتى لو كان ذلك يعني الاستفزاز أو الارباك.
وبينما كان رمزها “منجل ومطرقة سوداء على خلفية بيضاء وحمراء” مستوحى من القميص الذي ارتداه غاري أولدمان عندما لعب دور مطرب في فيلم سيد ونانسي، فان صحيفة الحزب، ليمونكا (سميت على اسم ليمونوف)، تستخدم رموز الواقعية الاشتراكية والمدرسة الهولندية في عشرينات القرن الماضي لنشر قصائد ليمونوف الاستفزازية. ومتأثراً بمجتمع الفرجة لغي ديبور، شجع دوغين على تنظيم التظاهرات السياسية.
متعددة الأبعاد، تستند أيديولوجية الحزب القومي البلشفي إلى كتابات ليمونوف، ولكن تمت هيكلتها بشكل أساسي من قبل ألكسندر دوغين نفسه.
إن البلشفية القومية هي، أولاً، صدى للفكر الأخروي والألفي، المستمد أساسًا من الأسطورة الروسية “روما الثالثة” التي تقدم روسيا على أنها حصن العالم الأرثوذكسي وتقاليده ضد الغرب. من ناحية أخرى، تم تصميم البلشفية القومية حول فكرة “الرجل الجديد”، وكذلك فكرة الثورة القومية والشعبية.
دخلت الأوراسية أيضًا في برنامج الحزب القومي البلشفي عام 1996، أيد ليمونوف فكرة الفضاء القاري الذي يمتد من فلاديفوستوك إلى جبل طارق، حيث سيتعين على شعوب الاتحاد السوفياتي السابقة أن تتحد حول الروس. مقدمة لفكر دوغين الحالي، تستند هذه المفاهيم جزئيًا إلى المثل الأعلى السكيثي الذي تم تطويره في روسيا في القرن التاسع عشر، والذي تم استعادته لاحقًا من قبل الأوراسيين الأصليين.
نشأت الأوراسية في زمن الحروب النابليونية، وهي قبل كل شيء استجابة للتردد المتعلق بالهوية الحقيقية لروسيا. رافضا الاستقطاب الغربي الآسيوي، هذا الفكر الذي طوره بيوتر تشاداييف “1794-1856” أعيد اكتشافه ثم تغذيته من قبل الهجرة الروسية البيضاء في بداية القرن العاشر، ولا سيما من قبل نيكولاس بيرداييف “1874-1948”. على عكس سابقيه، لا يسعى التيار الأوراسي المعاصر بأي حال من الأحوال إلى فصل روسيا عن الحضارات الأوروبية والآسيوية القائمة؛ بل على العكس من ذلك، فهو يلعب على هذه الازدواجية ليوحدهما في كيان واحد.
بعد خمس سنوات فقط من وجوده، تذرّر الحزب القومي البلشفي. رافضا لاتجاه الحزب -يفضل ليمونوف التركيز على المعارضة الأمامية المباشرة بينما يرى دوغين أن تكتيك الدخول سيكون أكثر ملاءمة -وضع الرجلان حدًا لتعاونهما. أضعفه هذا الانفصال، ظل الحزب القومي البلشفي بقيادة ليمونوف وحده حتى عام 2007، عندما تم حظره. من جانبه، أسس دوغين حركة أوراسيا عام 2001.
مكانة أوكرانيا في الكتابات الأوراسية الجديدة لدوغين
ظل مخلصًا لمبادئ الثورة المحافظة، واصل ألكسندر دوغين عمله مسترشدًا بمفهوم “الطريق الثالث” الذي غرسه في الأيديولوجية الأوراسية خلال مسيرته كأكاديمي داخل الجامعة البيئية والسياسية الدولية المستقلة. سلط الضوء على الحاجة إلى ربط عقيدة اليسار الثوري بعقيدة اليمين الشعبوي المعادي للثورة، ونشر عام 2012 النظرية السياسية الرابعة، والتي لا تزال حتى يومنا هذا واحدة من الأعمال الرئيسية التي تسمح بتعريف فكره.
مشبع بالمفكرين الأصليين للقومية -البلشفية -سواء كانوا غربيين أو روس مثل نيكولاي أوستريالوف “1890-1937” أو ميخائيل أجورسكي “1933-1991” -عارض دوغين “المجتمع المفتوح” الذي وصفه الفيلسوف اليساري النمساوي كارل بوبر “1902 -1994”. إنه يقترح، من خلال الأوراسية الجديدة، “سوبر أيديولوجيا” مشتركة بين جميع الشعوب الرافضة للنموذج الثقافي الغربي باسم جذورهم وتقاليدهم، فضلاً عن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
وبصرف النظر عن هذه المفاهيم الأنطولوجية المشوبة بالروحانية والباطنية، فإن ألكسندر دوغين معروف قبل كل شيء، بالبعد الجيوسياسي الذي يراه في الأوراسية الجديدة. من منظور ثورة عالمية ضد العالم الحديث، يتخيل دوغين نموذجًا لاتحاد إمبراطوري “تيلوكوقراطي”أي يجمع بلدان “الأرض” معارضا للقوى الثالاسوقراطية (دول “البحر”)، على رأسها الولايات المتحدة.
وإذا وجدنا بشكل أساسي تأثير نوموس كارل شميت “1888-1985” والأرض والبحر، فإن نظريات دوغين تتميز أيضًا بكتابات هالفورد ماكيندر “1861-1947” ونيكولاس سبيكمان”1893-1943” التي ترسم استراتيجية للغزو التدريجي لأوراسيا (هارتلاند) من خلال الاستيلاء على هوامشها (ريملاند). ويشرح دوغين في كتابه “حرب القارات العظمى”، أن هذا الصراع سيمتد لقرون (كما يظهر اهتمامه بالعالم الجيوسياسي الأمريكي صموئيل هنتنغتون) وحضاريًا.
وبالنظر إلى هذه الخلفية النظرية، تحتل أوكرانيا مكانة مهمة في عمل دوغين. فباعتبارها قفلًا استراتيجيًا مهمًا لاوراسيا، يجب أن تعود بشكل طبيعي إلى العالم الروسي. وقد هاجم عام 1997، بشدة الاستقلال الأوكراني في كتابه أساسيات الجغرافيا السياسية:
«السيادة الأوكرانية سلبية للغاية بالنسبة للجغرافيا السياسية الروسية الى درجة أنها يمكن أن تؤدي، من الناحية النظرية، إلى صراع. “...”أوكرانيا كدولة لا معنى لها. ليس لها أهمية ثقافية عالمية، ولا تمايزا جغرافيا أو خصوصية عرقية. يمكن اشتقاق الأهمية التاريخية لأوكرانيا من اسمها. تأتي كلمة “أوكرانيا” من الكلمة الروسية “اوكراينا” أو “الحزام”. إن الحتمية المطلقة للجغرافيا السياسية الروسية على شواطئ البحر الأسود هي سيطرة موسكو الكاملة وغير المحدودة على هذه الشواطئ بطولها وبالكامل، من أوكرانيا إلى أبخازيا».
رؤية دوغين واضحة. أوكرانيا جزء لا يتجزأ من روسيا. سيكون هذا الموقف أكثر راديكالية كما تؤكده الثورة البرتقالية عام 2004. واعتقادًا منه أن مرور كييف إلى المعسكر الأطلسي يمثل تهديدًا لروسيا، فإنه يكرر رغبته في رؤية إنشاء روسيا الجديدة (نوفوروسيا) في شرق أوكرانيا.
ومع ذلك، ظل دوغين، حتى حركة ميدان واندلاع الحرب عام 2014، شخصية جذابة إلى حد ما في نظر عدد معين من الأوكرانيين. خلال هذه الفترة 2004-2014، وعلى الرغم من أن اتحاد الشباب الأوراسي دافع بشدة عن أطروحاته الوحدوية، فقد اقترب ألكسندر دوغين من بعض الأوكرانيين المحافظين والدوائر القومية المتأثرة أيضًا بالتقاليد والثورة المحافظة. وبهذه الصفة دعا عام 2011 أعضاء معينين من النادي التقليدي الأوكراني (دائرة طلابية ما وراء سياسية تجمع الطليعة الفكرية الجديدة للقومية الأوكرانية) إلى مؤتمره ضد عالم ما بعد الحداثة، نظمه مركز التقاليد، الذي أداره حتى عام 2014 في جامعة لومونوسوف.
من ناحية أخرى، عمل دوغين منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي على التقارب مع الزعيم القومي الأوكراني دميترو كورتشينسكي وحركته براتسفو (الاخوة) ، التي أكد توجهها الأوروآسي المبكر الرغبة في التعاون بين القوميين الروس والأوكرانيين ضد العالم الغربي وتأثيره. ومن هذا المنظور، تولى كورتشينسكي مهام منصبه عام 2006 كعضو في المجلس الأعلى لاتحاد الشباب الأوراسي.
ومع ذلك، فقد توقف التعاون بشكل مفاجئ عام 2007 بعد استفزاز نشطاء أوراسيين قاموا بتشويه النصب التذكاري القومي الأوكراني الواقع على قمة جبل هوفرلا (أعلى نقطة في البلاد). قاد كورتشينسكي في سنوات ما بعد الميدان، مجموعة باتيلون سانت ماري التطوعية التي عارضت الروس والانفصاليين الأوكرانيين الموالين لروسيا في جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية في شرق أوكرانيا.
داريا دوغينا: تقليدية أفلاطونية حديثة
أصبحت داريا دوغينا في السنوات الأخيرة وسيط الأب المحظور من الأراضي الأوروبية. وإذا كان فكرها جزءً من المبادئ الكبرى للأوراسية الجديدة، فقد تميزت عن والدها بالتنقيب أكثر في الفلسفة القديمة.
بعد أن درست في فرنسا لفترة قصيرة، تخصصت بشكل اساسي في دراسة الأفلاطونيين -وستأخذ “بلاتونوفا” كاسم مستعار لها.
قادها عملها منذ عام 2015 إلى الاهتمام بالإمبراطور جوليان، الذي تعتبر انه أسّس فلسفته ليس كمحاولة لاستعادة الدين، بل كمنصة ميتافيزيقية وسياسية تقتفي إثر ثلاثية الروح، وثلاثية الدولة بالمعنى الأفلاطوني للمصطلح. إنه تحديث للنظرية السياسية للتقليد.
في مواجهة المتخصصين في الأفلاطونية المتأخرة، استلهمت دوغينا بشكل خاص كتابات الفيلسوف السويسري دومينيك ج. أوميرا، ولكن أيضًا عمل عالم اللغة الفرنسي جورج دوميزيل “1898-1986” الذي تعد نظريته عن ثلاثية الوظائف الهندو-أوروبية اليوم جزءً من الشرائع الأيديولوجية لليمين المتطرف.
وإذا كان هذا العمل يشكل مساهمتها الرئيسية في الحركة الأوراسية الجديدة، فقد سعت داريا دوغينا أيضًا إلى غرس مفهوم “العالم متعدد الأقطاب” بقراءة عنصرية من خلال إثارة مواجهة وجودية بين الغرب وأوراسيا حيث الصراع في دونباس إبادة جماعية يرتكبها الغربيون ضد الأوراسيين.
أيديولوجي مسهب، ومسيرته غير نمطية بقدر ما هي متناغمة مع التاريخ الروسي خلال الثلاثين عامًا الماضية، يظل دوغين على الرغم من العلاقات الزائفة مع السلطة المنسوبة إليه، شخصية بارزة في القومية الروسية والراديكالية السياسية المعاصرة.
وإذا لم يكن من الممكن حتى الآن تفضيل أي مسار لشرح الانفجار الذي قتل ابنته، وربما كان يستهدفه، فمن المرجح أن هذا الحدث، بقدر ما هو مأساوي، سيمنحه جماهيريّة ما بين مواطنيه.
*طالبة دكتوراة في التاريخ، المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية “إينالكو»
-- لا يسعى التيار الأوراسي المعاصر إلى فصل روسيا عن الحضارات الأوروبية والآسيوية القائمة
-- ألكسندر دوغين معروف قبل كل شيء بالبعد الجيوسياسي الذي يراه في الأوراسية الجديدة
-- تقدم البلشفية القومية روسيا على أنها حصن العالم الأرثوذكسي وتقاليده ضد الغرب
-- يظل دوغين شخصية بارزة في القومية الروسية والراديكالية السياسية المعاصرة
في 20 أغسطس 2022، اختفت داريا دوغينا، 29 عامًا، ابنة المنظر الروسي ألكسندر دوغين، في هجوم غامض للغاية.
وأتهمت المخابرات الروسية أوكرانيا بارتكاب الهجــــوم، وقــــد نفــــت هـــــذه الأخيرة أي تورط لها.
أعادت هذه الحلقة إلى المقدمة ألكسندر دوغين، شخصية ذات مسيرة فكرية راديكالية ومعقدة، والتي أدى تأثيرها المفترض على السلطة الروسية وتحديداً على فلاديمير بوتين، إلى تحليلات متناقضة للغاية، وتبالغ بعض وسائل الإعلام بوضوح في تأثير فكره في دوائر السلطة في الكرملين.
المؤكــــــــد، هو أن دوغـــــين (مثــــــل ابنته، بدرجة أقل، النجمــــة الصاعـــــــدة لما يسمى بالحركة الأوراســــــية الجديدة) شخصية بـــــــارزة، وإن كانت هامشـــــــية نسبيًا، في الثلاثين عامًا الأخيرة من الحياة الفكرية الروسية.
من هو بالضبط، وما هي الأوراسية الجديدة، التي كان بطلها لعدة عقود؟
التنجيم والجغرافيا السياسية: بدايات
ألكسندر دوغين
ألكسندر جيلفيتش دوغين ولد عام 1962 في موسكو. جاء من عائلة مندمجة تمامًا في المجتمع السوفياتي، ومع ذلك فقد انفصل عنها أثناء دراسته الهندسية في معهد موسكو للطيران، والتي تخلى عنها لصالح العلوم الإنسانية -انتهى به الأمر بمناقشة أطروحة في الفلسفة في جامعة روستوف عام 2000. من عام 1980، كان يتردد على دائرة يوجينسكي المنشقة (التي أخذت اسمها من الاسم القديم لشارع بولشوي بالاتشيفسكي حيث تأسست المجموعة)، التي أسسها الكاتب يوري ماملييف. وعلى الرغم من أن هذه الدائرة قد تضاءلت بطرد ماملييف من الاتحاد السوفياتي عام 1974، إلا أن هذه الدائرة استمرت في أنشطتها حتى منتصف التسعينيات، والتي حملتها روح البيريسترويكا التحررية.
في هذه البيئة الطليعية، أصبح دوغين، الذي شجعه، من بين آخرين، عالم التنجيم يفغيني جولوفين والفلسفة الصوفية جيدار جمال، مهتمًا بالمؤلفين التقليديين مثل الفرنسي رينيه جينون 1886-1951 والإيطالي يوليوس إيفولا 1898- 1974.
طُبع بمفهوم “الإمبراطورية العضوية”، الذي بلوره هذا الأخير، طور دوغين في شبابه جاذبية لتيارات الفكر الألماني، ولا سيما الثورة الألمانية المحافظة. وعلى الرغم من حساسيته لكتابات العالم الجيوسياسي كارل هوشوفر “1869-1946”، الذي وضع نظرية عن أهمية الفضاءات الكبرى في إطار تأكيد القوة، فإنه أولى اهتمامًا خاصًا لما يسمى بأفكار “الطريق الثالث” لأرثر مولر وفان دن بروك “1876-1925” ومنظر البلشفية القومية إرنست نيكيش “1889-1967”، وكل منهم معاد لليبرالية والشيوعية، ومؤيد “لمجتمع جديد ذي مصير اجتماعي وقومي».
إن كل هذه المجموعة الأدبية التي يقرأها ويجمعها بصرامة، سمحت له بالارتقاء بسرعة داخل اليمين الروسي الجديد الذي لا يزال في مرحلة النشوء في نهاية الثمانينات، ولكن أيضًا للحصول على عدد من العلاقات على الجانب الآخر من الستار الحديدي.
حريصًا -تمامًا مثل الصحفي القومي المتطرف ألكسندر بروخانوف “من مواليد 1938” -على انتزاع اليمين الروسي من أصوله النظرية والتنظيمية القديمة، سيلتقي ألكسندر دوغين منذ عام 1989 بالعديد من كوادر اليمين الفرنسي الجديد مثل آلان دي بينويست. وروبرت ستيكرز وحتى جان تيريارت، وسيصبح الممثل في روسيا للحركة القومية لعموم أوروبا: جبهة التحرير الأوروبية.
التجربة القومية البلشفية
مؤلف ومحاضر، دخل ألكسندر دوغين السياسة رسميًا عام 1990.
على الرغم من انضمامه في البداية إلى حركة باميات (الذاكرة) اليمينية المتطرفة، إلا أنه كان يفتقر إلى الدعم داخل منظمة لا تولي اهتمامًا كبيرًا لقراءته للسياسة القائمة جزئيًا على الباطنية.
وفي وقت كانت المعارضة القومية الروسية تجد صعوبة للظهور في المشهد السياسي لـ “العقد الأسود”، أسس في 1 مايو 1993، مع الكاتب إدوارد ليمونوف “1943-2020”، تحالفًا افتراضيًا، الجبهة القومية البلشفية، وتم تسجيلها بعد ذلك بعامين تحت اسم الحزب القومي البلشفي.
تم تقديم الحزب القومي البلشفي كحركة تجديدية ترغب في تأكيد نفسها في فترة من عدم الاستقرار السياسي -تميزت بشكل خاص بانقلاب الرئيس بوريس يلتسين ضد البرلمان الروسي في أكتوبر 2003. والحزب القومي البلشفي، هو حزب غير متجانس يجمع بين عناصر من حركة البانك مثل المطرب إيجور ليتوف من حليقي الرؤوس وقدماء المؤمنين.
أنشطته متعددة. في الواقع، انتشر الحزب القومي البلشفي في الشارع من خلال النشاط الاستباقي، وفي المجال الثقافي، كمشروع طليعي يعتمد بشكل كبير على الروح والجماليات أندرغراوند، حتى لو كان ذلك يعني الاستفزاز أو الارباك.
وبينما كان رمزها “منجل ومطرقة سوداء على خلفية بيضاء وحمراء” مستوحى من القميص الذي ارتداه غاري أولدمان عندما لعب دور مطرب في فيلم سيد ونانسي، فان صحيفة الحزب، ليمونكا (سميت على اسم ليمونوف)، تستخدم رموز الواقعية الاشتراكية والمدرسة الهولندية في عشرينات القرن الماضي لنشر قصائد ليمونوف الاستفزازية. ومتأثراً بمجتمع الفرجة لغي ديبور، شجع دوغين على تنظيم التظاهرات السياسية.
متعددة الأبعاد، تستند أيديولوجية الحزب القومي البلشفي إلى كتابات ليمونوف، ولكن تمت هيكلتها بشكل أساسي من قبل ألكسندر دوغين نفسه.
إن البلشفية القومية هي، أولاً، صدى للفكر الأخروي والألفي، المستمد أساسًا من الأسطورة الروسية “روما الثالثة” التي تقدم روسيا على أنها حصن العالم الأرثوذكسي وتقاليده ضد الغرب. من ناحية أخرى، تم تصميم البلشفية القومية حول فكرة “الرجل الجديد”، وكذلك فكرة الثورة القومية والشعبية.
دخلت الأوراسية أيضًا في برنامج الحزب القومي البلشفي عام 1996، أيد ليمونوف فكرة الفضاء القاري الذي يمتد من فلاديفوستوك إلى جبل طارق، حيث سيتعين على شعوب الاتحاد السوفياتي السابقة أن تتحد حول الروس. مقدمة لفكر دوغين الحالي، تستند هذه المفاهيم جزئيًا إلى المثل الأعلى السكيثي الذي تم تطويره في روسيا في القرن التاسع عشر، والذي تم استعادته لاحقًا من قبل الأوراسيين الأصليين.
نشأت الأوراسية في زمن الحروب النابليونية، وهي قبل كل شيء استجابة للتردد المتعلق بالهوية الحقيقية لروسيا. رافضا الاستقطاب الغربي الآسيوي، هذا الفكر الذي طوره بيوتر تشاداييف “1794-1856” أعيد اكتشافه ثم تغذيته من قبل الهجرة الروسية البيضاء في بداية القرن العاشر، ولا سيما من قبل نيكولاس بيرداييف “1874-1948”. على عكس سابقيه، لا يسعى التيار الأوراسي المعاصر بأي حال من الأحوال إلى فصل روسيا عن الحضارات الأوروبية والآسيوية القائمة؛ بل على العكس من ذلك، فهو يلعب على هذه الازدواجية ليوحدهما في كيان واحد.
بعد خمس سنوات فقط من وجوده، تذرّر الحزب القومي البلشفي. رافضا لاتجاه الحزب -يفضل ليمونوف التركيز على المعارضة الأمامية المباشرة بينما يرى دوغين أن تكتيك الدخول سيكون أكثر ملاءمة -وضع الرجلان حدًا لتعاونهما. أضعفه هذا الانفصال، ظل الحزب القومي البلشفي بقيادة ليمونوف وحده حتى عام 2007، عندما تم حظره. من جانبه، أسس دوغين حركة أوراسيا عام 2001.
مكانة أوكرانيا في الكتابات الأوراسية الجديدة لدوغين
ظل مخلصًا لمبادئ الثورة المحافظة، واصل ألكسندر دوغين عمله مسترشدًا بمفهوم “الطريق الثالث” الذي غرسه في الأيديولوجية الأوراسية خلال مسيرته كأكاديمي داخل الجامعة البيئية والسياسية الدولية المستقلة. سلط الضوء على الحاجة إلى ربط عقيدة اليسار الثوري بعقيدة اليمين الشعبوي المعادي للثورة، ونشر عام 2012 النظرية السياسية الرابعة، والتي لا تزال حتى يومنا هذا واحدة من الأعمال الرئيسية التي تسمح بتعريف فكره.
مشبع بالمفكرين الأصليين للقومية -البلشفية -سواء كانوا غربيين أو روس مثل نيكولاي أوستريالوف “1890-1937” أو ميخائيل أجورسكي “1933-1991” -عارض دوغين “المجتمع المفتوح” الذي وصفه الفيلسوف اليساري النمساوي كارل بوبر “1902 -1994”. إنه يقترح، من خلال الأوراسية الجديدة، “سوبر أيديولوجيا” مشتركة بين جميع الشعوب الرافضة للنموذج الثقافي الغربي باسم جذورهم وتقاليدهم، فضلاً عن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
وبصرف النظر عن هذه المفاهيم الأنطولوجية المشوبة بالروحانية والباطنية، فإن ألكسندر دوغين معروف قبل كل شيء، بالبعد الجيوسياسي الذي يراه في الأوراسية الجديدة. من منظور ثورة عالمية ضد العالم الحديث، يتخيل دوغين نموذجًا لاتحاد إمبراطوري “تيلوكوقراطي”أي يجمع بلدان “الأرض” معارضا للقوى الثالاسوقراطية (دول “البحر”)، على رأسها الولايات المتحدة.
وإذا وجدنا بشكل أساسي تأثير نوموس كارل شميت “1888-1985” والأرض والبحر، فإن نظريات دوغين تتميز أيضًا بكتابات هالفورد ماكيندر “1861-1947” ونيكولاس سبيكمان”1893-1943” التي ترسم استراتيجية للغزو التدريجي لأوراسيا (هارتلاند) من خلال الاستيلاء على هوامشها (ريملاند). ويشرح دوغين في كتابه “حرب القارات العظمى”، أن هذا الصراع سيمتد لقرون (كما يظهر اهتمامه بالعالم الجيوسياسي الأمريكي صموئيل هنتنغتون) وحضاريًا.
وبالنظر إلى هذه الخلفية النظرية، تحتل أوكرانيا مكانة مهمة في عمل دوغين. فباعتبارها قفلًا استراتيجيًا مهمًا لاوراسيا، يجب أن تعود بشكل طبيعي إلى العالم الروسي. وقد هاجم عام 1997، بشدة الاستقلال الأوكراني في كتابه أساسيات الجغرافيا السياسية:
«السيادة الأوكرانية سلبية للغاية بالنسبة للجغرافيا السياسية الروسية الى درجة أنها يمكن أن تؤدي، من الناحية النظرية، إلى صراع. “...”أوكرانيا كدولة لا معنى لها. ليس لها أهمية ثقافية عالمية، ولا تمايزا جغرافيا أو خصوصية عرقية. يمكن اشتقاق الأهمية التاريخية لأوكرانيا من اسمها. تأتي كلمة “أوكرانيا” من الكلمة الروسية “اوكراينا” أو “الحزام”. إن الحتمية المطلقة للجغرافيا السياسية الروسية على شواطئ البحر الأسود هي سيطرة موسكو الكاملة وغير المحدودة على هذه الشواطئ بطولها وبالكامل، من أوكرانيا إلى أبخازيا».
رؤية دوغين واضحة. أوكرانيا جزء لا يتجزأ من روسيا. سيكون هذا الموقف أكثر راديكالية كما تؤكده الثورة البرتقالية عام 2004. واعتقادًا منه أن مرور كييف إلى المعسكر الأطلسي يمثل تهديدًا لروسيا، فإنه يكرر رغبته في رؤية إنشاء روسيا الجديدة (نوفوروسيا) في شرق أوكرانيا.
ومع ذلك، ظل دوغين، حتى حركة ميدان واندلاع الحرب عام 2014، شخصية جذابة إلى حد ما في نظر عدد معين من الأوكرانيين. خلال هذه الفترة 2004-2014، وعلى الرغم من أن اتحاد الشباب الأوراسي دافع بشدة عن أطروحاته الوحدوية، فقد اقترب ألكسندر دوغين من بعض الأوكرانيين المحافظين والدوائر القومية المتأثرة أيضًا بالتقاليد والثورة المحافظة. وبهذه الصفة دعا عام 2011 أعضاء معينين من النادي التقليدي الأوكراني (دائرة طلابية ما وراء سياسية تجمع الطليعة الفكرية الجديدة للقومية الأوكرانية) إلى مؤتمره ضد عالم ما بعد الحداثة، نظمه مركز التقاليد، الذي أداره حتى عام 2014 في جامعة لومونوسوف.
من ناحية أخرى، عمل دوغين منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي على التقارب مع الزعيم القومي الأوكراني دميترو كورتشينسكي وحركته براتسفو (الاخوة) ، التي أكد توجهها الأوروآسي المبكر الرغبة في التعاون بين القوميين الروس والأوكرانيين ضد العالم الغربي وتأثيره. ومن هذا المنظور، تولى كورتشينسكي مهام منصبه عام 2006 كعضو في المجلس الأعلى لاتحاد الشباب الأوراسي.
ومع ذلك، فقد توقف التعاون بشكل مفاجئ عام 2007 بعد استفزاز نشطاء أوراسيين قاموا بتشويه النصب التذكاري القومي الأوكراني الواقع على قمة جبل هوفرلا (أعلى نقطة في البلاد). قاد كورتشينسكي في سنوات ما بعد الميدان، مجموعة باتيلون سانت ماري التطوعية التي عارضت الروس والانفصاليين الأوكرانيين الموالين لروسيا في جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية في شرق أوكرانيا.
داريا دوغينا: تقليدية أفلاطونية حديثة
أصبحت داريا دوغينا في السنوات الأخيرة وسيط الأب المحظور من الأراضي الأوروبية. وإذا كان فكرها جزءً من المبادئ الكبرى للأوراسية الجديدة، فقد تميزت عن والدها بالتنقيب أكثر في الفلسفة القديمة.
بعد أن درست في فرنسا لفترة قصيرة، تخصصت بشكل اساسي في دراسة الأفلاطونيين -وستأخذ “بلاتونوفا” كاسم مستعار لها.
قادها عملها منذ عام 2015 إلى الاهتمام بالإمبراطور جوليان، الذي تعتبر انه أسّس فلسفته ليس كمحاولة لاستعادة الدين، بل كمنصة ميتافيزيقية وسياسية تقتفي إثر ثلاثية الروح، وثلاثية الدولة بالمعنى الأفلاطوني للمصطلح. إنه تحديث للنظرية السياسية للتقليد.
في مواجهة المتخصصين في الأفلاطونية المتأخرة، استلهمت دوغينا بشكل خاص كتابات الفيلسوف السويسري دومينيك ج. أوميرا، ولكن أيضًا عمل عالم اللغة الفرنسي جورج دوميزيل “1898-1986” الذي تعد نظريته عن ثلاثية الوظائف الهندو-أوروبية اليوم جزءً من الشرائع الأيديولوجية لليمين المتطرف.
وإذا كان هذا العمل يشكل مساهمتها الرئيسية في الحركة الأوراسية الجديدة، فقد سعت داريا دوغينا أيضًا إلى غرس مفهوم “العالم متعدد الأقطاب” بقراءة عنصرية من خلال إثارة مواجهة وجودية بين الغرب وأوراسيا حيث الصراع في دونباس إبادة جماعية يرتكبها الغربيون ضد الأوراسيين.
أيديولوجي مسهب، ومسيرته غير نمطية بقدر ما هي متناغمة مع التاريخ الروسي خلال الثلاثين عامًا الماضية، يظل دوغين على الرغم من العلاقات الزائفة مع السلطة المنسوبة إليه، شخصية بارزة في القومية الروسية والراديكالية السياسية المعاصرة.
وإذا لم يكن من الممكن حتى الآن تفضيل أي مسار لشرح الانفجار الذي قتل ابنته، وربما كان يستهدفه، فمن المرجح أن هذا الحدث، بقدر ما هو مأساوي، سيمنحه جماهيريّة ما بين مواطنيه.
*طالبة دكتوراة في التاريخ، المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية “إينالكو»