الضم الروسي لأوكرانيا:

نجاحات تكتيكية روسية وانتكاسات استراتيجية...!

نجاحات تكتيكية روسية وانتكاسات استراتيجية...!

-- هذا التراجع غير القانوني للحدود الروسية الأوكرانية تجاه الغرب يوفر لروسيا مكسبًا ديموغرافيًا تحتاجه
-- تعيد موسكو توجيه موقفها الدبلوماسي والجيو-اقتصادي بشكل لا رجعة فيه نحو الشرق
-- عززت روسيا مكانتها كصانع أسعار في أسواق الطاقة والمعادن والسلع الزراعية
-- يسمح الضم ونتائجه الطبيعية لروسيا بتحقيق أهداف عسكرية قديمة وصريحة
-- أوقفت روسيا للتو ديناميكية توسع الناتو في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي
-- قطع العلاقات مع أوروبا يحكم على روسيا بمواجهة غير متوازنة مع القوة العالمية الحقيقية التي هي الصين


   للوهلة الأولى، يبدو أن الضم غير القانوني لأربع مناطق أوكرانية جديدة يعطي النظام الروسي الكثير من الأسباب للمطالبة بالنصر. في الواقع، من خلال هذا الاستيلاء الرباعي الذي أضفى عليه فلاديمير بوتين طابعا رسميًا في 30 سبتمبر وسط ضجة كبيرة، تعمل روسيا على نقل خط تواصلها مع الغرب، غربا.

 انها تقسم أوكرانيا وتضعفها بشكل دائم؛ وتشل المعارضة الداخلية باسم الاتحاد المقدس، واخر النجاحات، انها تضفي قداسة على هذه الفتوحات بوضعها تحت مظلتها النووية، بينما تقطع مع الغرب المقدّم على أنه “مستعمر».
    في الواقع، هذا الانتصار الرسمي هو ادعاء جدير بالذين جعلوا الأمير بوتيمكين يُخلّد في التاريخ. عام 1787، بنى المفضل لدى كاثرين الثانية “1729-1796” زخارف وديكورا حقيقيا من ألواح اللصق على طول طريق الإمبراطورة خلال رحلة هذه الأخيرة -على وجه التحديد للمناطق التي ضمتها موسكو اليوم، والتي كانت قد احتلتها حينها للمرة الأولى! - لإعطاء الوهم بأنّ هذه المناطق مزدهرة وسكانها راضون.


وهكذا تم تبرير الامبريالية الروسية، على الأقل في نظر كاترين، حامية ديدرو والمولعة بالتنوير الفرنسي. لقد تعامى الاستبداد المستنير عن توسعه المسلح، تمامًا كما يتم ترسيخ الوهم اليوم من خلال الاستفتاءات الزائفة التي أجريت على عجل في المناطق الممزقة من أوكرانيا -والتي لا تسيطر عليها روسيا في الواقع بشكل كامل.
   الاحتفالات العسكرية في الميدان الأحمر، وخطاب بوتين، والتغطية الإعلامية الروسية، تحاول خلق انطباع بالنصر، وعند الفحص الدقيق، تكون حدود السينوغرافيا واضحة.

تمت المهمة؟
   نحب أحيانًا أن نعتبر، في واشنطن أو لندن أو باريس، أن الجيش الروسي على وشك الهزيمة، وأن رئاسة بوتين تقوضها الخلافـــات الداخلية، وأن الانهيار الاستراتيجي وشيك.
إن تقييم الأشهر السبعة لغزو أوكرانيا أقل حسما إذا لاحظناه من وجهة نظر الكرملين: لقد نجح هذا الأخير فعلا في تحقيق بعض أهدافه الأساسية. إن أخذ هذه النجاحات التكتيكية في الاعتبار -وبالطبع الهزائم الاستراتيجية -أمر ضروري لفهم المسار الجديد للسياسة الروسية للعقد القادم، والمخاطر التي يمثلها ذلك على الاتحاد الأوروبي.

   وإذا قمنا بتقييم النتائج التي حصل عليها الكرملين وفقًا لمعاييره الخاصة، فإن العديد من الإنجازات تبدو جوهرية.
   في الواقع، يسمح الضم ونتائجه الطبيعية -حالة حرب دائمة مع أوكرانيا -لروسيا بوتين بتحقيق أهداف عسكرية قديمة وصريحة.
مع هذه الحرب، أوقفت روسيا للتو ديناميكية توسع الناتو في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي.

 كان هذا بمثابة الخيط الأحمر لرئاسات بوتين ورؤساء الوزراء: سبق النظر الى عضوية تحالف الديمقراطيات الشعبية السابقة “بولندا والمجر ورومانيا وغيرها” وثلاث جمهوريات سوفياتية سابقة “إستونيا ولاتفيا وليتوانيا” في موسكو كاستفزازات عديدة ضد القوة الروسية.
   اليوم، أصبح ترشّح جورجيا وأوكرانيا سببًا للحرب. وفي الداخل، يمكن لفلاديمير بوتين أن يفرض فكرة أنه في حالة حرب مع الناتو -وهو صراع كان يعلن عنه منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبشكل نهائي مع الديناميكيات الموالية للغرب في التسعينات، ويكرس انفصال بلاده عن أوروبا بأكملها.

   من جهة اخرى، فإن هذا التراجع غير القانوني للحدود الروسية الأوكرانية تجاه الغرب، يوفر لروسيا مكسبًا ديموغرافيًا تحتاجه. وخصوصا، يدمر أوكرانيا بشكل دائم، ويجعل من تقاربها مع الاتحاد الأوروبي أكثر صعوبة، ويقضي على الأمل في استعادة سيادة البلاد ووحدة أراضيها.

   علاوة على ذلك، ومن وجهة نظر الكرملين، فإن هذه الحرب وعمليات الضم هذه ترسل رسالة إلى جميع المجتمعات الناطقة بالروسية -والروس من خلال توزيع جوازات السفر -الذين يعيشون خارج أراضي الاتحاد: من المرجح أن تتدخل روسيا عسكريًا حيث يوجد سكان روس. وهكذا تكتسب موسكو وسيلة ضغط فعالة على الدول التي تضم مجتمعًا ناطقًا بالروسية في بحر البلطيق وآسيا الوسطى. “العالم الروسي”، الذي وضع الكرملين نظريته ليس مجرد علامة تجارية للأمة: إنه مفهوم استراتيجي حقيقي يزعزع استقرار الخارج القريب من روسيا.

   وهكذا، فإن روسيا تعيد توجيه موقفها الدبلوماسي والجيو-اقتصادي بشكل لا رجعة فيه نحو الشرق: أصبحت أوراسيا الآن مجال عملها.
 سيعيد الاتحاد التركيز على الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تعد بيلاروسيا وأرمينيا عضوين فيه لإبعاد هذه الدول عن المدار الأوروبي، وستعزز منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وأخيرًا، تتخلى عن تعاونها المتوتر مع الاتحاد الأوروبي لتتحول بشكل حصري تقريبًا إلى شركائها الآسيويين داخل منظمة شنغهاي للتعاون، وأولاً وقبل كل شيء، جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الهندي، فضلاً عن فيتنام.
   من وجهة نظر اقتصادية، لا ينبغي إهمال النتائج. من خلال بدء الحرب وضم مناطق دونيتسك ولوغانسك وزابوريزهيا وخيرسون، عززت روسيا مكانتها كصانع أسعار في أسواق الطاقة والمعادن والسلع الزراعية.

   زاد في حجم التضخم الناتج عن الانتعاش في أعقاب جائحة كوفيد-19، سمح نقص المواد المنظم لروسيا بتجديد صناديق الثروة السيادية واحتياطيات النقد الأجنبي واحتياطيات الذهب.
 بعبارة أخرى، تتم عمليات الضم هذه في سياق اقتصادي مختلف تمامًا عن سياق ضم شبه جزيرة القرم عام 2014: أعقب ذلك عامان من الركود بسبب مزيج من انخفاض أسعار النفط والعقوبات الغربية.
وإذا كانت عقوبات الاتحاد الأوروبي تلحق الضرر باقتصاد الحرب الروسي، فإنها تستهدف دولة احتوت حتى الآن مخاطر التضخم وأعادت بناء احتياطياتها المالية المجمدة جزئيًا.

   في الداخل، أخيرًا، أدرك النظام “الأخطاء” و “الصعوبات”. ومع ذلك، فإن هذا النظام قادر على تحويل هروب جنود الاحتياط الذين يمكن تعبئتهم، والمظاهرات المناهضة للتعبئة لصالحه: ستكون هذه الحركات بمثابة مبرر لسيطرة أكثر قوة على الجسم الاجتماعي الروسي باسم الاتحاد المقدس والوطنية وإعادة توحيد الروس.

   ان ضم الأراضي الأوكرانية الآمنة من الأسلحة النووية، يشكل بالنسبة لروسيا، تأكيدًا على مكانتها الدولية. فمن خلال التذكير بقوتها العسكرية، والإصرار على وضعها كقوة نووية، ومن خلال التظاهر بأنها في حالة حرب مع الناتو، وتعزيز علاقاتها مع القوى الآسيوية، وخصوصا، من خلال التشكيك ومراجعة حدود عام 1991، يطالب الاتحاد الروسي بصوت عالٍ بدور القائد في نزع الطابع الغربي عن العالم. لقد توصل الرئيس الروسي إلى هذا في خطابه في 30 سبتمبر: إنه يعتبر الغرب التهديد الرئيسي لروسيا.

   كثيرا ما نحب في الغرب التذكير بصيغة الرئيس أوباما التي تعتبر روسيا قوة إقليمية خطيرة ليس بسبب قوتها بل بسبب ضعفها. يجب أن ندرك اليوم -دون قبولها -النجاحات التي حققتها روسيا من وجهة نظرها. إن التقليل من أهمية هذه المكاسب من شأنه أن يغذي انتصارية متعجرفة في الغرب. تمامًا كما أن المبالغة في تقدير السجل الاستراتيجي لهذه الحرب ستؤدي إلى تجاهل نقاط الضعف الحقيقية لروسيا -ونقاط قوة خصومها.

نجاحات تكتيكية على حساب انتكاسات استراتيجية
   يجب فعلا تقييم نتائج حملة أوكرانيا على المدى الطويل وبتركيز واسع. على هذا المقياس، النجاحات أقل وضوحًا... والنكسات الهيكلية لا جدال فيها.
   فيما يتعلق بأوكرانيا نفسها، التي اندمجت في الإمبراطورية في القرن السابع عشر، وفي الاتحاد السوفياتي عام 1921، ومستقلة منذ عام 1991، يجب ألا تتغلب النجاحات التكتيكية الروسية على الانتكاسات الاستراتيجية. عام 2022، كان الهدف الواضح لروسيا هو غزو كامل أراضي أوكرانيا، واستبدال حكومتها المنتخبة ومنعها من الانجراف أكثر نحو الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي... النجاح جزئي والفشل واضح.

   بعد الضم وبعد الحرب، ستكون هناك أوكرانيا مشوهة ولكنها مستقلة، مرتبطة بقوة بهويتها الوطنية، وتقاربها مع الغرب، ومعادية بنيوياً لروسيا. بعبارة أخرى، تحل عمليات الضم محل سياسة التأثير والنفوذ.
عمليات الضم التي رد عليها الرئيس زيلينسكي على الفور ... من خلال التوقيع على طلب تسريع انضمام بلاده إلى الناتو.

   إذا أُجبرت روسيا على غزو وضم دولة للحفاظ على نفوذها، فذلك لأن هذا النفوذ يجد صعوبة لفرض نفسه بطريقة أخرى. إن “الدفاع عن روسيا العظمى”، المعلن في 30 سبتمبر، يكرس في الواقع تقلص نفوذ روسيا ومنطقة نفوذها. فبدلاً من احتلال أوكرانيا و “لمّ شمل” الأوكرانيين مع الروس، قطعت روسيا العلاقات بشكل دائم بين الشعبين. وبدلاً من التأكيد على أوجه التشابه الثقافي بين أوكرانيا وروسيا، قاد الكرملين الهوية الأوكرانية الى تعريف نفسها في تعارض مع روسيا. وإذا كان البعض قد جادل في الهوية الوطنية الأوكرانية قبل الغزو، فقد ترسخت اليوم في مقاومة موسكو.

    فيما يتعلق بالعلاقات مع الناتو، هنا مرة أخرى، النتائج الهيكلية مختلطة في الواقع. بالتأكيد أنه على الرغم من الطلب الرمزي الذي وقعه زيلينسكي للتو، فإن العضويات المستقبلية ستصاب بالشلل بلا شك بسبب الحرب في أوكرانيا. ولكن خاصة، نجحت روسيا في ضم دولتين محوريتين، مرتبطتين تاريخيًا بالحياد، وهما مملكة السويد وجمهورية فنلندا، إلى الناتو. بعبارة أخرى، غيرت موسكو الاتفاق الاستراتيجي في بحر البلطيق في غضون أسابيع قليلة على حسابها. ومن الآن فصاعدًا، بحر البلطيق هو “بحر الناتو” الذي يضم منفذين بحريين روسيين كالينينغراد وسانت بطرسبرغ.

   يمثل الانعطاف الأوراسي لروسيا أخيرًا، نكسة لموسكو على المدى الطويل.  في المواجهة بين بكين وموسكو، تعتبر روسيا من الناحية الهيكلية شريكًا صغيرًا.
 كان الأمر كذلك قبل الحرب بسبب ثقلها الاقتصادي المنخفض وسيزداد بعد الحرب بسبب غياب بديل لها.

 ان قطع العلاقات مع أوروبا يحكم على روسيا بمواجهة غير متوازنة مع القوة العالمية الحقيقية التي هي الصين. خاصة أن النتيجة الطبيعية لهذا الطلاق مع أوروبا هي، بالطبع، انخفاض النمو المحتمل لروسيا على المدى المتوسط: حرمانها من الاستثمارات والتقنيات والمتخصصين الأوروبيين، وتقلّل روسيا بشكل كبير من قدرتها على تنويع اقتصادها.  ان الحرب في أوكرانيا تضيّق نطاق زبائنها، وتحدّ من نطاق مستثمريها، وتقلّل من معاييرها التجارية.

بوتين، بوتيمكين نفسه
   باختصار، إن انتصار روسيا بعد ضم الأراضي الأوكرانية يقوم على نجاحات تكتيكية قصيرة المدى، لكنها تخفي العديد من الإخفاقات الهيكلية لروسيا: فقد فشلت في تنويع اقتصادها من خلال التجارة المستقرة مع أوروبا؛ وفشلت في الدفاع عن مصالحها في أوكرانيا سلمياً؛ وأدت إلى استقطاب العلاقات الأوروبية بين حلف أطلسي معزّز ومدعــوم وروســـيا وحيدة تقريبًا.
   نحب أن نصف الرئيس الروسي إما بالدكتور سترينجلوف الجديد -مجنون بالقنبلة -أو كاستراتيجي بارز -عبقري شرير.
 قد يكون مجرد بوتيمكين جديد بإرادته... قدمت له حملته الأوكرانية نجاحًا فوريًا، ولكن تحصّل عليه على حساب فشل دائم.

* أستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية بباريس، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة موسكو.