رحيله أجّج الخلافات مجددا

هكذا حاول شينزو آبي تحسين العلاقات بين الصين-اليابان

هكذا حاول شينزو آبي تحسين العلاقات بين الصين-اليابان

- يعتقد شينزو آبي، أن اليابان يجب ألا تتحمل عبء الاعتذار عن الانتهاكات التي ارتكبها الجيش الياباني في الصين
- ينكر القوميون اليابانيون باستمرار أهمية جرائم الحرب هذه ولم تصدر اليابان أبدًا اعتذارًا رسميًا
- وصلت علاقات الصداقة بين الزعماء الأمريكيين واليابانيين حد ممارسة لعبة الجولف على عكس العلاقة مع الصينيين
- في الشؤون العسكرية، لم ينجح شينزو آبي، كما كان يود، في تعديل الدستور الذي فرضه الأمريكيون عام 1946
- حتى بعد موته، تمكّن الذي كان سياسيًا يابانيًا استثنائيا من إحداث ضجة


   عمل رئيس الوزراء الياباني السابق، الذي اغتيل في 8 يوليو، على تهدئة العلاقات بين البلدين... مهمة لم تكن نهرًا طويلًا هادئًا.
   لا يوجد دفء خاص في العلاقات بين الصين واليابان. أثار اغتيال رئيس الوزراء السابق شينزو آبي ردود فعل رسمية مدروسة من بكين. بالتأكيد، في بيان نقلته نشرة التليفزيون الصيني الرسمي، أعرب الرئيس شي جين بينغ “نيابة عن الصين حكومة وشعبًا وباسمه الخاص، عن تعازيه في هذه الوفاة المؤسفة والمفاجئة”. وأشار النص، إلى أنه وفق شي جين بينغ، “بذل السيد آبي جهودًا لتحسين العلاقات الصينية اليابانية خلال فترة ولايته وساهم بشكل إيجابي في هذا الجهد».

  كلمات تشير إلى أن العلاقات المعنية ليست بالجودة التي تريدها الصين، وأنه لا تزال هناك حاجة لتحسينها. ومع ذلك، فقد تم إنشاء رابط بلا شك بين شينزو آبي وشي جين بينغ، ويشير هذا الأخير إلى أنه “أرسل هو وزوجته، الأستاذة بينغ ليوان، رسالة تعزية إلى زوجة السيد آبي، آكي آبي، للتعبير عن تعاطفهما».

   تتناقض هذه التعازي على أعلى مستوى من الدولة الصينية بشكل حاد مع ردود الفعل التي تنزّ كراهية تجاه اليابان التي ظهرت على الشبكة في الصين فور إعلان رحيل شينزو آبي. ذهب بعض مستخدمي الإنترنت إلى حد وصف مطلق النار بأنه “بطل”، وحصل هذا التعليق على الاعجاب بالآلاف على رسائل ويبو. وبالمثل، فإن من كتب “أتمنى أن يكون مطلق النار بخير”، تلقى التهنئة على شبكة الإنترنت، وكذلك اشادة أخرى بمن قال أن “1.4 مليار صيني يمكنهم توجيه رسائل تهنئة».
  عادةً ما تمحو الرقابة الصينية وجهات النظر هذه، لكنها لم تفعل. تشاو ليجيان، أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الصينية، قال ببساطة إن إدارته “لاحظت هذه الحوادث وصدمت”، مضيفًا، “لن أعلق على ردود فعل مستخدمي الإنترنت».

ضغينة
   من الواضح أن شينزو آبي هو الشخصية، في نظر العديد من الصينيين، التي جسّدت عدم اعتذار اليابانيين المعاصرين عن سلوك بعض اسلافهم قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. في ديسمبر 2013، في طوكيو، عندما كان رئيسًا للوزراء للمرة الثانية، زار ضريح ياسوكوني شنتو المثير للجدل.
   تم تسجيل أكثر من 2 مليون شخص هناك منذ القرن التاسع عشر. من بينهم، 14 جنديًا تم إعدامهم بعد إدانتهم عام 1946 كمجرمي حرب من الدرجة الأولى من قبل محكمة دولية للشرق الأقصى بقيادة الدول المنتصرة في الحرب.
   وعلى عكس بعض أسلافه الذين زاروا “بصفة شخصية” ضريح ياسوكوني، قام شينزو آبي بزيارته كرئيس للوزراء. ومع ذلك، لم يعد الى هناك أبدًا رغم انه ظل في منصبه كرئيس للحكومة حتى عام 2020. ويبدو أن الاحتجاجات التي أعربت عنها العديد من الدول الآسيوية والولايات المتحدة قد منعته.

   علاوة على ذلك، يعتقد السياسي اليميني، عضو الحزب الليبرالي الديمقراطي القوي، شينزو آبي، أن اليابان يجب ألا تتحمل عبء الاعتذار والندم عن الانتهاكات التي ارتكبها الجيش الياباني في الصين في القرن الماضي. هذا الرأي يشاطره بلا شك مواطنوه على نطاق واسع، ولكن ربما ليس من قبل الدول التي احتلتها اليابان خلال الحرب الأخيرة، ولا سيما الصين وكوريا.

   كذلك، غذى شينزو آبي الاستياء العنيد المتراكم من قبل الصينيين ضد اليابانيين. لم يتم عمل أي شيء، لا في طوكيو ولا في بكين، للتخفيف من ذكرى الفترة الممتدة من 1930 إلى 1945، عندما احتلت اليابان الصين تدريجياً بارتكاب عدد من الفظائع هناك. على العكس من ذلك، يذكّر برنامج المدارس الصينية بالهجوم الذي نظمه الجيش الياباني ضد السكة الحديدية في منشوريا عام 1931، وهي حلقة تم سردها بشكل مثالي في مغامرات تان تان -اللوتس الازرق. وخصوصا، تشدد مناسبات منتظمة عديدة على المذبحة الرهيبة التي راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين التي وقعت في نانجينغ طيلة ستة أسابيع من ديسمبر 1937.

   ينكر القوميون اليابانيون باستمرار أهمية جرائم الحرب هذه، ولم تصدر اليابان أبدًا اعتذارًا رسميًا عن هذه المرحلة المظلمة من ماضيها. وينتشر الاستياء الصيني بانتظام في برامج تلفزيون بكين التي توضح وحشيّة القوات الإمبراطورية اليابانية.
   وهكذا، حقق فيلم الذرة الحمراء، المأخوذ من كتاب الحائز على جائزة نوبل للآداب مو يان، نجاحًا كبيرًا منذ صدوره عام 1988، حيث نرى الجنود اليابانيين يدمرون محاصيل الفلاحين الصينيين قبل ذبحهم. وتظهر ضراوة المحتلين اليابانيين أيضًا في مسلسل في أرض الأيل الأبيض، الذي يتم بث حلقاته الخمس والثمانين منذ عام 2017، والتي تدور أحداثها خلال النصف الأول من القرن العشرين في سهول شنشي.

أمريكا، أمريكا
   في الأثناء، على الجانب الياباني، بعد أن أشاد بالمقاتلين اليابانيين الذين يصعب التباهي بهم -وربما لتصحيح مبادرته -ضاعف شينزو آبي إشارات التقارب مع الولايات المتحدة. في مايو 2016، استقبل الرئيس باراك أوباما في هيروشيما، إحدى المدينتين اللتين ألقى الأمريكان قنبلة ذرية عليهما في أغسطس 1945، لإجبار اليابان على الاستسلام.   أيضًا عام 2016، في جزر هاواي الأمريكية، التقى شينزو آبي باراك أوباما، الذي ذهب معه إلى بيرل هاربور. هناك، في ديسمبر 1941 هاجمت الطائرات اليابانية الأسطول الأمريكي وجرّت الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية.

   أخيرًا، عندما تم انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، كان شينزو آبي أول رئيس دولة أجنبي يزوره، حتى قبل تنصيبه في البيت الأبيض. وبين الزعيمين الأمريكي والياباني ستقوم علاقة صداقة قادتهما خلال اجتماعاتهما للعب الجولف، وهي رياضة يمارسها الرئيسين بحماس وولع.   لم يكن هناك مثل هذا الودّ بين شينزو آبي وشي جين بينغ. كانت النقطة المشتركة بينهما هي أنه في عام 2012 أصبحا على التوالي “رئيس وزراء اليابان” للأول و”الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني” للثاني. وأنه أتيحت لهما فرصة الاجتماع في عديد مؤتمرات القمة الاقتصادية الدولية. لكن شي جين بينغ لم يقم برحلة رسمية إلى اليابان بعد انتخابه رئيسًا لجمهورية الصين الشعبية. وتم إلغاء الموعد المقرر لعام 2020 بسبب وباء كوفيد-19.

   وإذا كان شي جين بينغ يعرف طوكيو، فهذا لأنه زارها في ديسمبر 2009 عندما كان أحد الأعضاء التسعة في اللجنة الدائمة للحزب الشيوعي. في ذلك الوقت، بدا من المؤكد أنه سيصبح الرجل الاول في الصين بعد ثلاث سنوات، وقد استقبله القادة اليابانيون باحترام كبير، وكان من نصيبه إجراء مقابلة مع إمبراطور اليابان أكيهيتو.

خلافات من البداية
   أما بالنسبة لشينزو آبي، فقد تميز وصوله على رأس الحكومة اليابانية بخصومة مع الصين حول جزر سينكاكو. منذ عام 1895، أدارت اليابان بفعالية هذه الجزر الواقعة في بحر الصين الشرقي. لكن عام 2012، قررت جعلها أرضًا يابانية بالكامل، مما أثار احتجاجات قوية في الصين حيث يسود الشعور بأنّه لا سبب لان يكون هذا الأرخبيل الصغير يابانيًا. ثم حددت بكين منطقة تعريف جديدة للدفاع الجوي الصيني تشمل جزر سينكاكو وتتداخل مع مناطق اعترفت بها الصين غير الشيوعية على أنها يابانية عام 1920.
   بعد ست سنوات، عام 2018، تم تعليق هذا النزاع. احتاجت بكين إلى موازنة موقف إدارة ترامب الذي زاد من الضغط على الصين، لا سيما من خلال مضاعفة الضرائب على صادراتها إلى الولايات المتحدة، ولذلك ذهب شينزو آبي إلى بكين. كانت الذريعة هي الاحتفال بالذكرى السنوية للمعاهدات التي أتاحت عام 1976 -بعد 31 عاما من انتهاء الحرب العالمية -بدء المصالحة بين الصين واليابان. كما كانت هذه الزيارة الرسمية فرصة لتوقيع عقود تعاون اقتصادي بين البلدين، والاطلاع على فوائد التجارة الحرة، دون ذكر العوائق التي جلبها دونالد ترامب لها.
   نمت العلاقات الاقتصادية الصينية اليابانية بشكل مطرد خلال سنوات شينزو آبي كرئيس للوزراء. لكن المنافسة بين البلدين زادت أيضًا. على وجه الخصوص في مجال تقديم المساعدة إلى بلدان اخرى، حيث شهد بنك التنمية الآسيوي-الذي يهيمن عليه اليابانيون -عام 2016، تأسيس الصين للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
   على جبهة الدفاع، قام شينزو آبي بحملة نشطة من أجل إنشاء “الرباعية”، وهو تحالف غير رسمي يجمع اليابان والهند وأستراليا والولايات المتحدة، وأحد أهدافه هو التعامل مع التهديدات القادمة من الصين على الممرات الملاحية الرئيسية للمحيط الهادي. في الوقت نفسه، أبرمت الصين عام 2016 “معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون” مع روسيا، والتي أنذرت بالتحالف الاستراتيجي الذي وقّع عليه فلاديمير بوتين وشي جين بينغ في فبراير 2022، قبل دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا.
   لكن في الأمور العسكرية، لم ينجح شينزو آبي كما كان يود في تعديل الدستور الذي فرضه الأمريكيون عام 1946، والذي ينص في مادته التاسعة على أن “اليابان تنبذ الحرب إلى الأبد”. لا يوجد في البلد جيش ولكن “قوة دفاع ذاتي”. وببساطة، سيسمح التعديل الذي تم وضعه عام 2015 لهذه القوة بالتدخل لصالح دولة صديقة. لم يستطع شينزو آبي الذهاب أبعد من ذلك، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الرأي العام الياباني المسالم بشدة. وفي كل الاحوال، في آسيا، تتم متابعة أي تعديل لهذه المادة 9 عن كثب، ولا سيما من قبل الصين.

ماذا سيفعل كيشيدا؟
   يمكن أن يلتزم فوميو كيشيدا، رئيس الوزراء الذي خلف شينزو آبي عام 2020، بهذا الإصلاح الدستوري. ومع الأغلبية المعززة التي منحته إياها انتخابات مجلس الشيوخ في 10 يوليو، يعتزم الابقاء على الخط السياسي لشينزو آبي. لقد ترك هذا الاخير السلطة عام 2020 لأسباب صحية، لكن دون التخلي عن التزامه بحياة حزبه، ولا عن نفوذه. اغتيل بينما كان يلقي كلمة لصالح مرشح الحزب الليبرالي الديمقراطي، الحزب الذي فاز بعد يومين في انتخابات مجلس الشيوخ الياباني بهامش كبير.
   في 12 يوليو، أثناء جنازته في طوكيو، حضر نائب رئيس تايوان، لاي تشينج تي، موكب توديعه. سبق ان ألقى شينزو آبي، بعد استقالته عام 2021، خطابًا قال فيه إنه لا اليابان ولا الولايات المتحدة يمكنهما الوقوف مكتوفي الأيدي إذا هاجمت الصين تايوان. وأضاف أن أي مغامرة عسكرية من جانب بكين ضد الجزيرة “ستؤدي إلى انتحار اقتصادي».   وأصدرت الحكومة الصينية حينها احتجاجًا على هذه الآراء. وهو ما كررته عند حضور لاي تشينج تي جنازة شينزو آبي. في بكين، اعتبر وانغ وينبين، أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية، أن السلطات التايوانية “انتهزت الفرصة للتلاعب والتوظيف السياسي”، وأشار إلى أن الحكومة الصينية “قدمت شكوى قوية لليابان”. حتى بعد موته، فإن الذي كان سياسيًا يابانيًا استثنائيا، تمكّن من إحداث ضجة.