المخرج الصيني بي غان يحول الواقع إلى خيال ملموس

«إنبعاث» متاهة سينمائية من الصور والأزمنة والأرواح المبعثرة

«إنبعاث» متاهة سينمائية من الصور والأزمنة والأرواح المبعثرة

ينتمي بي غان إلى مجموعة المياو العرقية، وقد درس السينما أكاديمياً قبل أن ينطلق إلى الساحة الدولية قبل نحو عقد من الزمن، مع فيلمه الطويل الأول "كايلي بلوز" الذي نال عنه جائزة أفضل مخرج صاعد في مهرجان لوكارنو. يحكي الفيلم قصة طبيب ريفي يقوده بحثه عن ابن شقيقه المفقود إلى قرية غامضة تتقاطع فيها الأزمنة وتتداخل الأحلام بالذكريات. أما فيلمه الثاني "رحلة يوم طويل إلى الليل"، فشارك في قسم "نظرة ما" في مهرجان كان، وفيه تابعنا عودة شاب إلى مسقطه بعد سنوات من الغياب، في رحلة بحث عن المرأة التي أحبّها يوماً ولم تفارق ذاكرته. 

يأتي فيلمه الأحدث "انبعاث"، الثالث له، ليؤكد نضجه الفني واتساع أفقه البصري. في كان، نال "جائزة خاصة" تقديراً لفرادته الجمالية وجرأته في معالجة الزمن والذاكرة بصورة حالمة، ولو أنه لا يخلو من "الكيتش". لا يحكي الفيلم قصة بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما يزرع شظاياها في ذهن المشاهد، صانعاً تيهانه في متاهة من الصور والأزمنة والأرواح المبعثرة. لا يبدأ من نقطة ولا ينتهي عند أخرى، إنما يتبلور كقصيدة سوريالية تحاول القبض على ما تبقّى من الحلم. "الحالم الأخير"، الذي يؤدّي دوره جاكسون يي، هو الرجل الوحيد القادر على التسلل إلى اللاوعي، في مجتمع نسي كيف يحلم، فصار هذا الحلم فعلاً من أفعال الخيال العلمي. الآنسة شو (شو كي) تدخل إلى أحلام هذا الكائن، باستخدام قدرتها على إدراك الأوهام…
هناك ستة فصول في الفيلم، كلّ واحد منها مرتبط بحاسة من الحواس الخمس، ومعها الروح كخاتمة. كل فصل بمثابة باب نحو عالم موازٍ. الشخصية المركزية لا تعيش الزمن، بقدر ما تتقمصه، تنتقل من جسد إلى آخر، من شعور إلى نقيضه، كأنما الحلم وسيلتها الوحيدة للبقاء.
استغرق تصوير الفيلم أكثر من عام، تخللته توقفات كثيرة بحثاً عن الإلهام. الرؤية البصرية التي يطرحها بي غان تتجاوز التجريب، إنها أشبه بمحاولة لخلق لغة سينمائية، تتقاطع فيها الظلال الحادة مع الزوايا الغريبة، والألوان المنطفئة مع الضوء المتقلب. يستدعي المخرج موروث السينما التعبيرية الألمانية، لكنه لا يكتفي بالاقتباس، فيعيد تشكيله ليلائم هواجسه. خلف الكاميرا، يعمل مدير التصوير دونغ جينغسونغ على تحويل الواقع إلى خيال ملموس. الممرات تؤدّي إلى حالات ذهنية فيما الضوء يضلّل. كلّ لقطة تبدو كأنها حلم التقطته الكاميرا في غفلة من الزمن. أراد بي غان تجربة حسية بعيداً من التفسير العقلاني، فخلص إلى تحية للسينما مشبّعة بالرموز والأحجية والإحالات، جاعلاً فعل المشاهدة تجربة انغماس كاملة.  يوضح بي غان في مقابلاته أن المشروع بدأ برغبة في استكشاف القرن العشرين وتاريخ السينما من خلال فصول متعددة، تستخدم ممثلاً واحداً في أزمنة مختلفة، في رحلة يقودها ما يسميه "وحش السينما"، كيان يرمز إلى تطور الوعي الإنساني عبر الصور المتحركة. يشير أيضاً إلى أن عنوان الفيلم بالإنجليزية يحمل دلالة دينية مرتبطة بفكرة بعث السينما وجمالها، بينما العنوان الصيني يعبّر عن قسوة القرن العشرين. وينتهي الفيلم كما يبدأ، داخل قاعة سينما، في حركة دائرية تؤكد دورة الميلاد والانبعاث الفني. كان من المقرر أن ينتهي الفيلم بنهاية خيالية علمية، لكنه عدل عنها مفضّلاً العودة إلى الجذور، كتحية للسينما الصامتة من دون تكرارها حرفياً.
عند تطرقه إلى مرجعياته الجمالية، يتحدث بي غان عن شغفه بالسينما الصامتة، وعن شخصيات مثل باستر كيتون وتشارلي تشابلن. ويوضح أن الفيلم بدأ بفكرة بسيطة، لكنه تعقّد أثناء التنفيذ بسبب تشابك الأفكار والرموز.
 بعد تجربته السينمائية السابقة، التي أثارت جدلاً في الصين، يؤكد أن فيلمه هذا يحمل هوية واضحة: عمل فني خالص، يهدف إلى منح الراحة والعزاء للمشاهدين في عالم يتغيّر كثيراً. أما عن اللقطات الطويلة، التي أصبحت من سماته، فيصفها كوسيلة مختلفة في كل فيلم. في "كايلي بلوز" كانت عن الزمن، وفي "رحلة يوم طويل إلى الليل" كانت عن الذاكرة، أما هنا فهي عن نهاية العالم. 
يرى بي غان أن العصر الحديث يسعى للسيطرة على كل شيء، حتى على الأحلام، بينما هو يعتبر أن القبول بعدم السيطرة هو جوهر الوجود الإنساني، وأن السينما، شأنها شأن الأحلام، تجد حياتها في الغموض واللاوعي. في مقابلة مع جريدة "ليبراسيون"، يروي أن رؤيته للعالم مشبعة بنوع من البراءة، تلك التي يمتلكها الرضيع. هناك لحظة أساسية بالنسبة إليه في تاريخ السينما: ظهور القطار على الشاشة للمرة الأولى، مشهد جعل الناس يقفزون من مقاعدهم رعباً، وهذه بنظره، أجمل وأبهج فكرة يمكن أن يتخيلها عن علاقة الجمهور بالفيلم. يقول: "لكن مع مرور الزمن وتطور التقنيات السينمائية، أصبح المشاهدون مدجّنين، وأصبح من الصعب جداً أن يشعروا مجدداً تلك الدرجة من الانفعال والدهشة. لذلك أرغب في إنجاز أفلام تستعيد الإحساس البدائي الأول، أفلام تحرّك الجمهور جسدياً وتوقظ فيهم مشاعر كانت قد خمدت".