«الباتريوت» تصل أوكرانيا.. هل يُعيد البيت الأبيض رسم خط النار الأوروبي؟
وصلت أول بطارية من منظومة «باتريوت» إلى أوكرانيا ضمن حزمة مساعدات أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مما يشير إلى انتقال الدعم العسكري الغربي إلى مرحلة جديدة، تتجاوز مجرد الدور الدفاعي إلى إعادة تنظيم قواعد التسليح والنفوذ داخل أوروبا.
لا تُرسل هذه الخطوة رسائل إلى موسكو فقط، بل تحمل أيضًا إشارات داخل المعسكر الغربي مفادها ضرورة تحميل الدول الأوروبية جزءًا أكبر من المسؤولية، ليس فقط عبر دعم التمويل، بل من خلال تسليم أنظمة دفاع جوي من مخزونها إلى أوكرانيا مقابل صفقات مستقبلية مع واشنطن. تزامن وصول البطارية مع تكرار طلبات كييف للحصول على مزيد من أنظمة الدفاع الجوي، وسط تأكيدات بأن الحاجة الفعلية تتجاوز 10 بطاريات «باتريوت» لتغطية المدن والبنى التحتية الحيوية. أفادت صحيفة «التلغراف» بأن أول بطارية «باتريوت SAM» وصلت إلى أوكرانيا قادمة من ألمانيا، كجزء من السلسلة الواعدة من الشحنات التي أعلن عنها ترامب. ووفقًا للصحيفة، أعلن ترامب في 13 يوليو عن حزمة مساعدات عسكرية قيمتها 10 مليارات دولار لأوكرانيا، وبعدها بأيام وصلت منظومات «باتريوت» إلى الميدان، نتيجة اتفاقيات بين الولايات المتحدة وألمانيا. استُغِل هذا التطور من قبل البيت الأبيض والبنتاغون لإقناع الدول الأوروبية بمخاطرة إرسال مخزوناتها المتوفرة إلى كييف، مع وعد أمريكي بإعادة تزويد هذه الدول لاحقًا. وأكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وجود خطة لشراء 10 أنظمة «باتريوت»، ويعمل مع الشركاء على تأمين التمويل، حيث تم تمويل ثلاث وحدات بالفعل، ويأملون أن تغطي المساعدات الغربية الباقي. كما أوضح السفير الأمريكي لدى الناتو ماثيو ويتكر، خلال نهاية الأسبوع، أن الولايات المتحدة تعمل على توجيه الأسلحة إلى أوكرانيا بسرعة ضمن خطة ترامب، التي تقضي بأن تقوم الدول الأوروبية بشراء هذه الأسلحة وتسليمها إلى كييف. ووفقًا لما نُشر، فقد توصل ترامب إلى اتفاق مع رئيس الناتو مارك روته يقضي بأن تشتري الدول الأوروبية، وعلى رأسها أنظمة باتريوت، لتوجيهها إلى أوكرانيا. جنرال أليكسوس غرينكويتش، قائد قوات الناتو في أوروبا، أكّد أن الاستعدادات جارية لإرسال أول دفعة من أنظمة «باتريوت» إلى أوكرانيا في إطار هذه الخطة.
تحوّل استراتيجي ورمزي
يرى الخبراء أن وصول أول بطارية «باتريوت SAM» إلى أوكرانيا يمثل نقطة تحول رمزية واستراتيجية في الدعم الأمريكي لكييف، خاصة في ظل تبني إدارة ترامب نهجًا أكثر تشددًا تجاه التمدد الروسي في أوروبا الشرقية. وتشير تحليلات نقلتها «إرم نيوز» إلى أن الخطوة تعكس رغبة واضحة في ترميم خطوط الردع الغربية وإعادة ترتيب التوازن العسكري في الجبهة الأوروبية عبر توظيف أسلحة دقيقة في مواجهة النفوذ الروسي المتزايد. كما تشير إلى أن اختيار ألمانيا كمصدر لتوريد البطارية يعكس بُعدًا سياسيًا هامًا يسلط الضوء على دور واشنطن في توجيه التحالفات الأوروبية وفق مصلحة الدفاع الغربية.
قدرات محدودة أمام التهديدات
ويرى الخبير العسكري العميد نضال زهري، أن منظومة «باتريوت» تعد من أبرز أنظمة الرصد الجوي عبر تقنية «المصفوفات المرحلية» التي تمنحها قدرة تتبع دقيقة. لكنه أشار في تصريح لـ»إرم نيوز» إلى أن التحدي الحقيقي يكمن في الصواريخ الاعتراضية، التي لا تتجاوز سرعتها 5 ماخ، في حين تصل سرعات الصواريخ الروسية فائقة الصوت إلى 16 ماخ، وطائرات مثل «سوخوي 35» تصل إلى نحو 8 ماخ، مما يقلل من فاعلية «باتريوت» أمام هذه التهديدات. وأضاف أن الولايات المتحدة بدأت بالفعل في تحديث قدراتها الدفاعية من خلال منظومة «ثاد»، وتتجه نحو تطوير منظومة جديدة تُعرف باسم «القبة الماسية»، تعترف بمحدودية أداء «باتريوت» في التعامل مع التهديدات الحديثة. وحذر زهري من أن التركيز المفرط لأنظمة «باتريوت» في نقطة واحدة من أوروبا يعرض أمن القارة للخطر، خاصة مع استمرار تحويل تلك المنظومات إلى أوكرانيا. وأوضح أن قدرة «باتريوت» على اعتراض طائرات ميغ القديمة لا تشكل تحولًا حقيقيًا في المعادلة العسكرية، إذ إن الروس يميلون لاستخدام هذه الطائرات لجدوى التكلفة مقارنة بطائرات «سوخوي» الأكثر تطورًا. وأشار إلى أن مخزون هذه الأنظمة داخل أوروبا محدود، وأن إنتاجها الجديد يحتاج وقتًا، بينما يتجه الأمريكيون نحو تحديث ترسانتهم الدفاعية وتقليص الاعتماد على «باتريوت»، حيث أصبحت منظومات «ثاد» وغيرها الخيار الأكثر واقعية لمواجهة التهديدات الحديثة. ولفت إلى أن الدول الأوروبية بدأت مطلع العام خطوات تعويض النقص الناتج عن نقل بطاريات الدفاع الجوي إلى أوكرانيا، رغم التكلفة الباهظة التي تُقدّر بـ 2 مليار دولار تقع على عاتق بلدان القارة. ورأى أن هذا يعكس استراتيجية المجمع الصناعي العسكري الأمريكي لخلق تبعية طويلة الأجل لشراء الأسلحة الأمريكية حتى بعد انتهاء الحرب.
على المستوى العملياتي، بيّن زهري أن إرسال بطاريات «باتريوت» إضافية إلى أوكرانيا لن يحدث فرقًا كبيرًا، نظرًا لوجود عدد كبير منها بالفعل في الميدان، وبفاعلية محدودة ضد الصواريخ الروسية المتطورة.
وحذر من أن تشغيل هذه الأنظمة دون تنسيق فني دقيق قد يؤدي إلى تعارض مع سلاح الجو الأوكراني، ما يجبر الطائرات المحلية على الحد من نشاطها. وذكر أن الخطط الأمريكية لبقاء منظومة «باتريوت» حتى عام 2040 تبدو غير واقعية، مرجحًا استبعادها من الخدمة قبل 2030، وأن بيعها لأوروبا يُشبه تصريف معدّات عسكرية باتت متقادمة.
من جانبه، يرى المحلل في الشؤون الروسية، محمود الأفندي، أن التركيز الإعلامي على «باتريوت» في المرحلة الحالية يعكس بشكل أكبر توظيفًا سياسيًا أكثر من كونه قرارًا عمليًا فعالًا.
وأوضح لـ»إرم نيوز» أن الحديث عن تعهد ترامب بتزويد أوكرانيا بـ17 بطارية «باتريوت» لا يستند إلى واقع عملي، لعدم وجود سوى حوالي 160 بطارية حول العالم، معظمها داخل الولايات المتحدة والشرق الأوسط، فيما تنتج المصانع الأمريكية بطاريات معدودة سنويًا.
وأشار إلى أن أوكرانيا تلقت خلال سنوات الحرب نحو 20 بطارية، وقد دُمّرت معظمها، ولم يتبق سوى أربع بطاريات فعالة حاليًا في الميدان.
ورأى أن الوعود الجديدة لا تغيّر الواقع بشكل كبير، بل تعكس تراجع الدعم الغربي وتحول أوكرانيا من دولة تتلقّى تجهيزات متتابعة من أنظمة متطورة، إلى أخرى تعتمد على وعود فردية محدودة وتتحمل التزامات تمويل كلفة تسليمها بالكامل أوروبا.
ويخلص الأفندي إلى أن هذا التراجع يمثل انسحابًا تدريجيًا من الملف الأوكراني، ويظهر نجاح استراتيجية روسيا في حرب استنزاف استمرت ثلاث سنوات، خلفت إنهاكًا في قدرات أوروبا وحلف الناتو، حتى أصبح الحديث يقتصر على بطارية دفاع جوي واحدة في الوقت الحالي.
وأكد أن نطاق تغطية بطارية «باتريوت» يُقدّر بـ400–500 كيلومتر مربع، ما يثير تساؤلات جدية حول جدواها العملياتية في هذا التوقيت.
ويشير التقييم إلى أن الواقع الحالي يعيد أوكرانيا إلى نقطة الصفر، أو ربما ما دونها، بعد أن كان الغرب يراهن على الحسم السريع، فلم يجد إلا تباطؤًا في الإمدادات، تراجعًا في التغطية الجوية، واعتمادًا أكبر على الدول الأوروبية لتحمّل الفاتورة السياسية والعسكرية نيابة عن الولايات المتحدة.