لم تعد الحديقة الخلفية لواشنطن

أمريكا الجنوبية، أرض غزو جديدة للصين...!

أمريكا الجنوبية، أرض غزو جديدة للصين...!

-- رسالة إلى الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي تقول: «يمكننا إيجاد تمويل آخر إذا لم تعيدا جدولة ديوننا»
-- في قائمة هذا التقارب الصيني الأرجنتيني: الوعد بالانضمام إلى مجموعة البريكس
-- لئن بدا أن بروكسل تفقد الاهتمام اليوم بهذا الرهان البعيد، فـــإن الولايــات المتحــدة تعتبـره الآن تهديــدًا
-- ساهمت السياسة الدبلوماسية-الصحية في التوسع الصيني، لكن هذه الأخيرة تراهن أساسا على التجارة


  يجعلنا سحر الجغرافيا السياسية أحيانًا ننسى المسافات. إن الـ 19 ألف كيلومتر التي تفصل بين العاصمة الأرجنتينية وبكين تعادل مجموع رحلة بين بوينس آيرس وباريس واخرى بين بوينس آيرس وواشنطن. ومع ذلك، فإن الأرجنتين لم تبد قط قريبة جدًا من الصين مثلما هي اليوم.

إذا كانت الرحلات الرسمية الأخيرة للحكومة البيرونية قد نقلت كبار المسؤولين في الدولة الأمريكية الجنوبية إلى الولايات المتحدة كجزء من إعادة التفاوض بشأن الدين الوطني مع صندوق النقد الدولي، فكل الأنظار الآن على الجمهورية البعيدة، الآسيوية.    مدفوعة بالديون ونقص العملات الدولية، تحافظ الأرجنتين على الماعز والملفوف. ذات يوم، وقف وزير الخارجية، سانتياغو كافيرو، مبتسمًا إلى جانب نظيره الصيني. في اليوم التالي أو نحو ذلك، جاء دور وزير الاقتصاد الأرجنتيني، سيرجيو ماسا، ليكسب ودّ كريستالينا جورجيفا، مديرة صندوق النقد الدولي.

براغماتية استراتيجية
    كما كتبنا في بداية الحرب في أوكرانيا، يعيد جزء من أمريكا اللاتينية الصلة بالموقف القديم المتمثل في حياد أو براغماتية “العالم الثالث”، على النحو الذي حدده ألفريد سوفي عام 1952. اي بمعنى، “ما يسمى بأسلوب الأمم المتحدة، البلدان المتخلفة “. لنضيف، مواصلة لفكرة الديموغرافي الفرنسي: “غير منحازة” على محور الشرق والغرب و”بحثًا عن تمويل” لتنميتها.
   أمريكا اللاتينية، أو بشكل أكثر دقة أمريكا الجنوبية، لم تعد الحديقة الخلفية لواشنطن. معظم البلدان في المخروط الجنوبي، الذي يمتد من كولومبيا إلى الأرجنتين، تعطي الأولوية الآن لعلاقاتها التجارية مع الصين. من جانبها، لم تقل الولايات المتحدة كلمتها الأخيرة، لا سيما في أمريكا الوسطى، وخاصة في المكسيك، الدولة الذي تحتكر 70 بالمائة من تجارة واشنطن اللاتينية.

    وإذا كانت الأرجنتين بعيدة عن مسك المصالح الصينية حصريا في المنطقة، فهي واحدة من الدول التي كثفت علاقاتها في الأشهر الأخيرة. على قائمة هذا التقارب الصيني الأرجنتيني: الوعد بالانضمام إلى مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، مع ترشح سبق ان وافق عليه العملاق الآسيوي. وبهذه الطريقة، تعمل بوينس آيرس على تعزيز علاقاتها مع بكين، التي أصبحت هذا العام الشريك التجاري الأول، قبل جارتها البرازيلية.

   «يرقى المشروع الأرجنتيني للانضمام الى البريكس هذا إلى التأكيد العملي لموقف الرئيس فرنانديز، الذي يميل إلى التقارب مع الصين، يلخص كريستوف فينتورا، مدير الأبحاث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، إنه أيضًا وسيلة لتوجيه رسالة إلى الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي تقول: “يمكننا إيجاد تمويل آخر إذا لم تعيدا جدولة ديوننا”. هذا ليس بالأمر الهين، لأن الأرجنتين هي الدولة التي حصلت على أكبر مبلغ ممنوح من صندوق النقد الدولي، مع القرض الممنوح عام 2018.

فصل جديد في السرديّة الصينيّة
   العلاقات بين بكين والمخروط الجنوبي سبق ان شهدت ارتفاع نسقها، وذلك منذ حوالي عشرين عامًا. لكن جائحة كوفيد-19 زادتها اتساعا. نهاية عام 2021، كان البعض يتحدث عن آثار “دبلوماسية كوفيد” التي تعتمدها بكين في منطقة تأخرت فيها كثيرًا اللقاحات، وأخرى كالكمامات الجراحية، من الغرب.
   ساهمت السياسة الدبلوماسية-الصحية في التوسع الصيني، لكن هذه الأخيرة لا تزال تسترشد بشكل أساسي بالرهانات التجارية. هذا ما يتم مناقشته، خاصة على القناة الأرجنتينية الخاصة تي ان، التي تعارض الحكومة البيرونية. ردا على سؤال طرح بشكل مباشر وخام، “طريق الحرير، اتفاقيات خطيرة؟”، أظهر المتخصصون المدعوون توازنا. وتم تقديم العديد من الحجج حول فرص التنمية تتعارض مع “مخاطر إمبريالية جديدة”، التي اقترحتها مقدمة البرنامج.

   وهكذا، فإن تقدم الصين على المسرح العالمي يتم أخذه من مسافة بعيدة. بالنسبة للباحث فرناندو بيدروسا، “طريق الحرير” قبل كل شيء سرديّة. “القوى العظمى بحاجة إلى سرديّات، يتابع مدير مجموعة الدراسات الآسيوية في جامعة بوينس آيرس، كان الاتحاد السوفياتي أرض المساواة بين العمال، والمملكة المتحدة أرض التجارة، والولايات المتحدة أرض الديمقراطية، وهنا تقدم الصين سرديتها الخاصة في غزوها للهيمنة على العالم. “هذه السردية” تدور حول التجارة والتعاون والسلام العالمي ...».

   لم يتم بناء تقاسم المنافع الصيني -اللاتيني هذا في يوم واحد. ولاستعادة تاريخ هذه العلاقة، يجب أن نعود إلى دخول العملاق الآسيوي إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. “منذئذ، تكثفت التبادلات بينهما. في نفس العام، تأثرت الولايات المتحدة بالهجمات على مركز التجارة العالمي وتعثرت في العراق وأفغانستان، وبالتوازي، تخلّت عن أمريكا اللاتينية. دفعت احتياجات الصين من المواد الخام والموارد الطبيعية الأخرى إلى الاقتراب من المنطقة، التي أصبحت الدائرة الثانية للمزوّدين بعد إفريقيا. في المقابل: تزخر الصين بشركات المنتجات الاستهلاكية، التي أصبحت في المتناول أكثر: التلفزيون، والهاتف الذكي، والثلاجة ... “، حسب تحليل فينتورا.

   النتيجة: منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تفوقت الصين على أوروبا وأصبحت ثاني أكبر شريك تجاري لأمريكا اللاتينية. ولئن بدا أن بروكسل تفقد الاهتمام اليوم بهذا الرهان البعيد، فإن الولايات المتحدة ترى فيه الآن تهديدًا. وقد دعا السناتور الجمهوري ماركو روبيو مؤخرا، إلى “مزيد اليقظة” بشأن هذه المسألة. وأثناء وجودها في بوينس آيرس، شاركت الجنرال في الجيش الأمريكي لورا ريتشاردسون أيضًا مخاوفه، مشيرة إلى محطة الفضاء الصينية في باجادا ديل أغريو في نيوكوين (شمال باتاغونيا).

تعاون أم استغلال؟
   في الأرجنتين، يتقاسم آخرون هذه المخاوف القادمة من الشمال. هذا هو حال ميلكو شفارتزمان، المتخصص في الحفاظ على البيئة البحرية، الذي تعاون بشكل ملحوظ مع الأمم المتحدة ومنظمة السلام الأخضر: “الأرجنتين في حالة من الخضوع للصين. القاعدة العسكرية الصينية في باجادا ديل أغريو هي مثال على ذلك «.

   يتعلق موضوع دراسة شفاتزمان بأحد أهم جوانب التجارة الصينية في أمريكا الجنوبية: استغلال الموارد الطبيعية، في هذه الحالة تلك المستمدة من المحيط الأطلسي. يقف ما لا يقل عن 400 قارب صيني قبالة ساحل باتاغونيا، على حدود المياه الإقليمية الأرجنتينية. حدّ يُنتهك بانتظام لنهب قاع البحر، وبالتالي النيل من السيادة الوطنية الأرجنتينية.
     الشركات الصينية، التي تعتمد بشكل مباشر على الدولة، في مفاوضات دائمة لإنشاء بنى تحتية جديدة لصيد الأسماك، مثل تلك الموجودة في ميناء مونتيفيديو (أوروغواي). وجود ملوث بالعديد من تقارير الادانة فيما يتعلق بالظروف المعيشية لأطقم السفن وصيد الأنواع المعرّضة للخطر.

   إلى جانب المساهمة اللوجيستية، “التي من شأنها دعم استغلال موارد الثروة السمكية، تخدم البنى التحتية استراتيجية جيوسياسية لوجود إقليمي”، وفق المبلّغ عن المخالفات. للاقتراب من منطقة الصيد، في جنوب المحيط الأطلسي، الأسطول الصيني يستقر بكل سرور في كومودورو ريفادافيا (تشوبوت، باتاغونيا).
   ويخلص شفارتزمان، إلى أن “جميع البلدان ضحايا ومسؤولة في نفس الوقت. تشترك دول أمريكا الجنوبية في هذا الارتهان للشريك التجاري، لكن يتفاعل كل منها بطريقة مختلفة “. على سبيل التوضيح، يأسف الأرجنتيني لأن بلاده لم تحاسب الأسطول الصيني أبدًا، في حين أن الإكوادور تمكنت من إبعاده 80 ميلًا بحريًا (حوالي 148 كيلومترًا) من حدود مياهها الإقليمية.

   دليل على ديناميكية هذا التعاون المتنامي، تتنوع المصالح الصينية في أمريكا الجنوبية. بالإضافة إلى الموارد الطبيعية والمواد الخام، هناك إنتاجات جديدة، خارجية هذه المرة، مثل مزارع الخنازير الضخمة -وهو موضوع تتصدره الأرجنتين أيضًا. ومثل الإفراط في استغلال الموارد السمكية، يلقي إنتاج الخنازير بظلال عوامل بيئية خارجية سلبية. وبين احتياجات التمويل والحفاظ على البيئة، تدفع العلاقة مع الصين أمريكا الجنوبية الى السباحة في مياه عكرة.