"أوراق ميتة" لكوريسماكي.. فيلمٌ قاسٍ، رغم إيقاعه "الهادئ"

"أوراق ميتة" للفنلندي آكي كوريسماكي (1957) ينال "جائزة لجنة تحكيم" الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي. فيلمٌ قاسٍ، رغم إيقاعه "الهادئ" في سرد تفاصيله وتصوير فضاءاته المفتوحة على قهرٍ، يُعبَّر عنه بصمتٍ ورويّة، وبملامح توهم الناظر إليها بأنّ صاحبها/صاحبتها غير خاضِعَين لأنماطٍ مختلفة من التسلّط والتألّم والخيبة وانسداد أفق عيشٍ وعلاقات. حبٌّ ينشأ بين شاب وشابة، لكنّ ثقل اليوميّ وفراغه، ومتاهة الانغلاق في بؤر غير مفتوحةٍ على خلاصٍ وتنفّس، أقدر على تحطيم الجميل. أمْ أنّ هذا احتيال سينمائي/حياتي على تمكّن الجميل، أو بعضه، من غلبةٍ خفرة، لا أكثر؟
 
الحبّ، إذْ ينسج لانفعاله وحيويته خيوطاً ترسم شيئاً من حكاية الشابين، يترافق، وإنْ مواربةً، مع اشتغالٍ لكوريسماكي حاضرٍ في ثلاثية سابقة على "أوراق ميتة"، الذي يعتبره نقّادٌ عديدون امتداداً لها، مع ارتكازٍ واضحٍ على ثنائية الحبّ والقهر العمّالي، إنْ يصحّ تعبيرٌ كهذا. فالثلاثية و"أوراق ميتة" مهمومةٌ كلّها بتبيان الانكسار والتهميش والتعذيب، المعنوي أساساً، لفئات بشرية تخضع لشرطٍ سلطوي، يتمثّل بمتحكّمٍ بعملٍ يحتاج إليه أفرادٌ كثيرون.
"ثلاثية العمّال" مؤلّفة من "ظلال في الجنّة" (1986) و"أرِيال" (1988) و"تطابق فتاة المصنع" (1990)، والأخير ترجمة حرفية للعنوان الفنلندي ("فتاة أعواد الكبريت" بحسب العنوان الفرنسي).
 
في أول الثلاثية، حكاية نيكاندر (ماتّي بيلّونبّا)، جامع القمامة المُغرم بإيلونا (كاتي أوتينن)، العاملة في سوبرماركت، ستُطرَد منه لسرقتها صندوق مال، من دون أنْ تدري ماذا ستفعل به، فيُقرِّر إعادته سرّاً، لتجنيبها الطرد. إمعانٌ في كشف يوميات عيشٍ في قهرٍ وارتباكٍ وفقر، يترافق وسرداً مبطّناً لتفاصيل حبٍّ غير مكتمل، فالانفصال بينهما حاصلٌ، ورغم هذا يجهد نيكاندر في استعادتها.
 
قسوة اليوميّ، في العيش والبيئة والعمل والعلاقات، تحضر في "أرِيال". إقفال منجمٍ يؤدّي إلى انتحار عاملٍ فيه، فيُقرّر ابنه تايستو (تورو بايالا)، العامل فيه أيضاً، مغادرة البلدة إلى هلسنكي. رحلةٌ مليئة بتحدّيات ومخاطر، إذْ يتعرّض للسرقة والعنف الماديّ، ويعمل سرّاً في الميناء، ويُسجن بعد اتّهام أحدهم إياه بالاعتداء عليه. أما الثالث، فيسرد قصّة إيريس (أوتينن)، العاملة في مصنع لأعواد الكبريت، التي تتعرّض لضغوط وأذيّةٍ من عائلتها أولاً، ومن شابٍ تعتبره فارس أحلامها.
 
اختصاراتٌ كهذه تكتفي بإضاءة جوانب درامية أساسية في أفلام الثلاثية، تمهيداً لمعاينة "أوراق ميتة"، الذي يُختزل بالتالي: أنْسا (ألْما بويسْتي) شابّة عزباء تعيش في هلسنكي. تعمل في سوبرماركت وفقاً لـ"عقد صفر ساعة"، الذي تعتمده دول في الاتحاد الأوروبي، بينها المملكة المتحدة وفرنسا، والذي ينصّ على عدم تحديد ساعات العمل، ولا الحدّ الأدنى لمدّة العمل، ويفرض على العامل أنْ يتقاضى أجره وفقاً لساعات عمله، وأنْ يقدر على التواجد في مكان عمله في أي وقتٍ. أنْسا مُكلّفةٌ بتخزين الرفوف، وإزالة المواد مُنتهية الصلاحيّة منها. تُطرد لأخذها مادة غذائية مُنتهية الصلاحية. تعثر على عملٍ في مطبخ حانة، ثم أمينة مستودع. ذات ليلةٍ، تلتقي هولابّا (يوسي فاتانن) في حانة "كارايوكي"، الذي يُسبِّب إدمانُه على الكحول طردَه من مهنٍ عدّة.خطّان متوازيان إلى حدّ كبير: كشف جانبٍ حادٍّ في يوميات أفرادٍ، يعانون أهوال عيش في نظامٍ متسلّط وقاهِر؛ ومحاولة إيجاد فسحة مُريحة، يُفترض بـ"الحبّ" أنْ يصنعها.

"بناء علاقة" بين أنْسا وهولابّا غير سهلٍ، فالضغوط وفيرة. لكنّ حيويةَ حبٍّ ربما تُفيد في تهدئة الأحوال. أسلوب كوريسماكي في تبيان معالم هذين الخطّين ومساراتهما، متطابقٌ مع أفعالٍ سابقة له، فالإيقاع يُفترض به أنْ يكون "بطيئاً"، ليدلّ على خرابٍ يعتمل في نفوسٍ وحياةٍ وعلاقاتٍ، وفي رغباتٍ تريد خلاصاً سيكون مُعطّلاً.مفردة "بطء" غير هادفةٍ إلى إدانة الإيقاع، بل إلى نقيض هذا تماماً، واستخدامها متأتٍ من خلوّ اللغة العربية ممّا يُعبِّر، فعلياً، عن المقصود: ارتباكُ ذات وتفكير ونمط عيش، وروتين باهت يصنع حياة، وتكرار مملّ لتفاصيل غير متغيّرة، وثباتٌ يُحْدِث ضغطاً يُراد له (الضغط) أنْ يجعل مُتابِعَ هذا كلّه يشعر فعلياً بما يعيشه الثنائي أنْسا وهولابّا، تحديداً.
لكنْ، يبقى هذا كلّه أقلّ أهمّية، إزاء "متعة" مُشاهدة فيلمٍ لآكي كوريسماكي.
 

Daftar Situs Ladangtoto Link Gampang Menang Malam ini Slot Gacor Starlight Princess Slot