عاد للوسط وابتعد عن جناحه المتطرف:

إسبانيا: هل يقف اليمين على أبواب السلطة...؟

إسبانيا: هل يقف اليمين على أبواب السلطة...؟

-- ينوي نونييز فيجو إخراج الحزب الشعبي من فخ فوكس، وأن يصبح «البيت المشترك» للناخبين اليمينيين
-- الدرس الآخر من انتخابات 19 يونيو هو انهيار اليسار البديل
-- انتخابات 19 يونيو هي نجاح تكتيكي كامل  للحزب الشعبي... لكن هل هي نجاح استراتيجي؟
-- الأندلس بتوقفها عن كونها اشتراكية تهدد منظومة الحزب الاشتراكي الانتخابية بأكملها


   هل النجاح الباهر للحزب الشعبي الإسباني في الانتخابات الجهوية للأندلس في 19 يونيو 2022 مؤشر قاطع على حتميّة وصول اليمين إلى الحكومة الوطنية؟    هذا هو السؤال الذي يشغل بال المحللين الإسبان. يبدو أن الدورة الاشتراكية لبيدرو سانشيز باتت هشة بشكل قاطع. شعبية منتكسة، واستطلاعات رأي سيئة، وتوترات في الائتلاف الحكومي، ومخاوف بشأن تدهور اقتصادي عنيف ولا يرحم: كل الأضواء تحولت إلى اللون الأحمر. مع 24 بالمائة من الأصوات “مقارنة بـ 28 بالمائة في 2018”، و30 مقعدًا فقط من أصل 109، عانى الحزب الاشتراكي الأندلسي من انتكاسة تاريخية.

   لقد تحصل الحزب الشعبي على أكثر من 43 بالمائة من الأصوات “1.5 مليون مقابل 750 ألفًا في 2018” وفوق ذلك كله، أغلبية مطلقة من 58 مقعدًا من أصل 109، مما أعطى الرئيس المنتهية ولايته خوانما مورينو الحرية الكاملة في الحكم. إنه لا يحتاج إلى دعم فوكس المنتخب، متجنبًا اتهام اليسار بعدم وجود طوق صحي بين اليمين واليمين المتطرف في إسبانيا. ومن هذا المنطلق، فإن انتخابات 19 يونيو هي نجاح تكتيكي كامل للحزب الشعبي... لكن هل هي نجاح استراتيجي؟

الأندلس، الأرض المقدسة للاشتراكية الإسبانية
   من عام 1982 إلى عام 2018، حكم الحزب الاشتراكي أكثر مجتمعات الحكم الذاتي كثافة سكانية في إسبانيا دون انقطاع. أصبحت الأندلس معقلًا منيعًا للاشتراكية الديمقراطية، والاتحاد الاشتراكي الأندلسي الذي جاء منه فيليبي غونزاليس وألفونسو غويرا، القلب النووي للحزب. لقد تم وضع نظام حكم كامل على مراحل-من قصر سان تيلمو “مقر الرئاسة في إشبيلية” إلى أبعد القرى -تم تطبيقه تدريجياً. مزيج من الأبوية والمحسوبية، ولكن أيضًا التحديث الإداري، وأصبح الحزب الاشتراكي في المنطقة، النسخة الإسبانية للحزب الثوري المؤسسي المكسيكي، كما يقول الأندلسيون أنفسهم!

   عملت الآلة بكفاءة لفترة طويلة. من عام 1982 إلى عام 1990، حصل الحزب الاشتراكي على الأغلبية المطلقة، كما في أعوام 1996، 2000، 2004، 2008. عام 1994، في مناخ شهد تآكل حكومة غونزاليس، خسر الحزب الاشتراكي الأغلبية المطلقة لكنه ظل قادرًا على الحكم. عام 2012، وهذه حقيقة تاريخية، تفوق الحزب الشعبي على الحزب الاشتراكي “40.6 بالمائة مقابل 39.5 بالمائة” الا ان الاشتراكيين تمكنوا من الحفاظ على سيطرتهم على السلطة التنفيذية الإقليمية، تمامًا كما حدث عام 2015، على الرغم من الانخفاض الملحوظ “35.4 بالمائة”. وكان لا بد من الانتظار حتى 2018 حتى يحدث التناوب في ميزان قوى جديد غير مسبوق. في الواقع، فاز الحزب الاشتراكي بقيادة سوزانا دياز بالانتخابات “27.9 بالمائة” غير ان ائتلاف الحزب الشعبي -سيودادانوس “20.7 بالمائة و18.2 بالمائة على التوالي” تشكّل بدعم، ودون مشاركة، من نواب فوكس الاثني عشر.

   في أزمة عامة للنظام الحزبي الإسباني، أخرت الأندلس عقوبة الحزب الاشتراكي، ولكن انتهى به الأمر إلى جنيها. وتجدر الإشارة الى إن المناخ السياسي والقضائي قد تدهور بشكل كبير. كان على الحزب الاشتراكي أن يواجه اتهامات خطيرة باختلاس الأموال المخصصة لمكافحة البطالة، وكان على الرئيسين الأندلسيين السابقين مانويل تشافيس وخوسيه أنطونيو غرينان، مواجهة محاكمات مطولة وأحكام قاسية للغاية.
   على الصعيد السياسي، تبنى الاتحاد الاشتراكي الأندلسي، عام 2017، قضية زعيمته سوزانا دياز في الانتخابات التمهيدية التي واجهت فيها بيدرو سانشيز. لكن الأخير خرج فائزا بأصوات الناشطين ضد الجهاز. لم يتردد في تطهير الحزب الاشتراكي الأندلسي الى ان حصل على رأس سوزانا دياز. علاوة على ذلك، حتى في هذه الأيام، يُلقي أنصار سانشيز باللوم على إرث دياز في النتيجة الانتخابية السيئة في 19 يونيو، في مناورة فجة إلى حد ما!

   إذا كان تشكيل حكومة يمين الوسط، عام 2018، يمكن أن يمثل انتكاسة واضحة للاشتراكيين، فإن ذاك النجاح بدا مؤقتًا فقط. فـ “خوانما مورينو” يحكم بدون أغلبية مطلقة وتحت رحمة حزب فوكس. ومع ذلك، فإن نجاح مورينو، الأكبر مما توقعته استطلاعات الرأي، غيّر الوضع، وزاد من أزمة الاشتراكية الأندلسية.   لقد كانت الدوائر الانتخابية الأندلسية الثماني تشكّل مخزونًا أساسيًا من الأصوات والمقاعد لـ الحزب الاشتراكي. في نوفمبر 2019، فاز الاشتراكيون بـ 25 مقعدًا من أصل 61 مقعدًا في المنطقة “43 في أكتوبر 1982!”. ومن الواضح أن الحزب الشعبي سيكون في موقع قوة للانتخابات المقبلة: من خلال وجود حكومة إقليمية، سيكون قادرًا على تعزيز وجوده، وبالتالي إضعاف الحزب الاشتراكي على المدى الطويل.
   ان الأندلس بتوقفها عن كونها اشتراكية، تهدد النظام الانتخابي للحزب الاشتراكي بأكمله. لم تعد الأرض المقدسة للاشتراكية الإسبانية موجودة...

الحزب الشعبي الوسطي، سلاح مضاد لـ “فوكس”؟
   عندما بدأت شائعات حل البرلمان الأندلسي بالانتشار في نهاية عام 2021، كان الفريق المسؤول للحزب الشعبي هو فريق بابلو كاسادو. وفي أذهان هؤلاء القادة، يتعلق الأمر بوضع موانع وحواجز انتخابية لإنهاك الحزب الاشتراكي وحكومة سانشيز. وكان من الضروري أيضًا الاستفادة من نقاط ضعف سيودادانوس لاستعادة جمهوره الانتخابي، واستعادة الحزب الشعبي لموقع المهيمن داخل اليمين.
   لم تنجح الخطة بالكامل في قشتالة وليون: احتاج الحزب الشعبي إلى فوكس للحكم، وتم تشكيل ائتلاف بدخول ثلاثة أعضاء من فوكس إلى السلطة التنفيذية الإقليمية. ولكن في غضون ذلك، تم طرد بابلو كاسادو وأمينه العام تيودورو غارسيا إيجيا، وأطلق مؤتمر الحزب الشعبي في أبريل لقب الزعيم الجديد، على الجاليكي ألبرتو نونيز فيجو.

   وسطيّ المزاج، وبعد فوزه بأربع أغلبيات مطلقة في غاليسيا “2009، 2013، 2016، 2020”، يجسد نونييز فيجو كلاً من قوة البارونات الإقليمية وإعادة الحزب الشعبي للوسط. انه ينوي إخراج الحزب من فخ فوكس. ومشروعه، هو أن يكون الحزب الشعبي “البيت المشترك” للناخبين اليمينيين، وهو لا يتردد في الإشارة إلى خلافاته مع فوكس وهي خلافات أساسية.
  على المستوى السياسي، يؤيد الحزب الشعبي أوروبا ويؤيد نظام الحكم الذاتي، بينما فوكس متشكك في أوروبا، وسيادي، ويدعو إلى تطبيق المركزية مجددا. ثقافيًا، لا يريد فيجو أن ينتقل إلى يمين رجعي، بينما لا يتردد سانتياغو أباسكال، زعيم فوكس، في الحديث عن “حرب ثقافية”. والدليل، انه في الحملة الأندلسية، دعا جيورجيا ميلوني، زعيمة فراتيلي ديتاليا، لإلقاء خطاب كبير انقلب ضد مروجيه. فمن خلال انتقاد الإجهاض، وثقافة الموت في الغرب، وبتناول كل موضوعات الثورة المحافظة، أوقفت صعود فوكس في استطلاعات الرأي.

   ان الارتهان لـ “فوكس”، هو أفضل طريقة لتعبئة الناخبين اليساريين: يعرف فيجو تمامًا كيف سيستخدم الحزب الاشتراكي، في حملة وطنية، وبنشر الخطب اللاذعة لبوديموس والأحزاب الإقليمية، تلك الحجة لتخويف الناخبين. غير ان الحزب الشعبي الجديد يعتزم الفوز بالانتخابات وهو في الوسط “حوالي 150 ألف ناخب اشتراكي صوتوا للحزب الشعبي في الأندلس في 19 يونيو الماضي».
   حتى الآن، هذه المعادلة هي المعادلة الصحيحة: في كل من مدريد في مايو 2021 والأندلس، حقق الحزب الشعبي إنجازًا يتمثل في القدرة على الاستغناء عن دعم فوكس. فهل سيحدث نفس الشيء خلال الانتخابات العامة المقرر إجراؤها عام 2023 على أبعد تقدير؟ هل ستؤيد الأزمة الاقتصادية الحزب الشعبي الذي انتصر في 1996 و2011 بفضل الوعد بسياسة الانتعاش؟

   حتى الآن تحقق الناخبون من صحة خط فيجو، لكن يجب الحذر من المبالغة في تقدير التغيير: ان نجاحات مدريد والأندلس، تدين بالكثير للسياق الإقليمي، ولشخصية المرشحين إيزابيل دياز أيوسو في العاصمة، وخوانما مورينو بونيلا في إشبيلية. فمن خلال التصويت بكثافة للحزب الشعبي، هل صوت المدرديون والأندلسيون لشارة الحزب أو لزعيمين يتمتعان بشعبية كبيرة ومختلفين تمامًا؟ مهما كانت الإجابة على هذا السؤال، فمن الواضح أن الحزب الشعبي يقنع في منطقتين مختلفتين اجتماعيا تمامًا. ومن هنا تأتي أهمية هذه المعاقل الإقليمية، مجتمعًا تلو الآخر، في بناء أغلبية انتخابية وطنية.

عودة الثنائية الحزبية
   الدرس الآخر من انتخابات 19 يونيو، هو انهيار اليسار البديل. منقسمون، وخاضوا المنافسة تحت قائمتين. حصلت تيريزا رودريغيز، الزعيمة التاريخية لبوديموس في الأندلس، على 4 فاصل 6 بالمائة “مقعدين” بينما أدخلت الحزب في البرلمان عام 2015 بنسبة 15 بالمائة من الأصوات و15 مقعدًا، وحصلت عام 2018 على 16 بالمائة من الأصوات.
   نافستها حركة “من اجل الأندلس” “7.7 بالمائة و5 مقاعد”، وهكذا دفعت تيريزا رودريغيز نقدًا انقسام اليسار. ويؤدي هذا إلى تعقيد المشهد البانورامي لليسار “الراديكالي” الإسباني. فمنذ رحيل بابلو إغليسياس من الحكومة في مارس 2021 لتجربة حظه في الانتخابات الإقليمية في مدريد، تعمل يولاندا دياز، نائب رئيس الحكومة وعضو الحزب الشيوعي، على إعادة تقديم عرض جديد. إنها تصطدم بمقاومة بوديموس “التاريخي”، ولا سيما إيرين مونتيرو وأيوني بيلارا، أعضاء الحكومة أيضًا. وهذا الارتباك الذي يعاني منه اليسار الراديكالي يعاقب آفاقه الانتخابية.

   علاوة على ذلك، فإن الاختلافات التي ظهرت داخل الحكومة نفسها “هكذا أثارت قمة الناتو في مدريد مظاهرات شارك فيها بعض المسؤولين الحكوميين، بينما كانت رئاسة الحكومة تنوي إنجاحها دبلوماسيًا!” أضعفت تماسك المشروع العام لليساريين. على بيدرو سانشيز مواجهة اهتراء السلطة، وكذلك تفكك مشروعه الأول المتمثل في تجميع اليسار المتعدد.
   في ظل هذه الظروف، تُظهر الأحزاب التقليدية القديمة قدرتها على الصمود. يتمتع كل من الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي بمرحلات مؤسسية بفضل وجودهما المحلي، والتي تعيدهما تدريجياً كبدائل حكومية وحيدة.

   من المقرر إجراء الانتخابات العامة في نوفمبر 2023 على أبعد تقدير، خمسة عشر شهرًا يمكن أن تغيّر الكثير من التوازنات في عالم غير مستقر من حولنا. وبين التضخم الذي يهدد البيوت، والشكوك الجيوسياسية “التي ازدادت في إسبانيا بسبب التحول الدبلوماسي المغربي والأزمة مع الجزائر”، لا يزال المحيط متقلبا، الا ان الانطباع السائد هو بالفعل نهاية دورة وإعادة تأهيل انتخابي جارية للحزب الشعبي.

مؤرخ، أستاذ كرسي
في  معهد
كوندورسيه بباريس