هذا هو التطهير العرقي:
الأسرار المدفونة لمقابر الإبادة الجماعية في سريبرينيتشا
- في غضون أيام قليلة، طردنا الذين كنا نعيش معهم من منازلنا، واستقروا داخلها، وسرقوا جميع ممتلكاتنا
- اليوم الجيد عندنا هو عندما تبوح الحفر بأسرارها، وعندما نجد العظام
- الاختلاف اللوني بين الأرض السائبة والأرض الأخرى يدل على أماكن المقابر الجماعية
- من الواضح أن المصالحة، أو على الأقل تهدئة المناطق، تتطلب الاعتراف بوضع الضحايا من جميع الجنسيات
«موت شخص واحد مأساة كبرى، بينما موت مليون شخص هي مجرد إحصائيات”، قال جوزيف ستالين. في البوسنة، بينما أقيمت إحياء ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية في سريبرينيتشا بين 11 و14 يوليو 2021، يواصل الرجال والنساء العمل حتى لا يصبح الذين فُقدوا في حرب يوغوسلافيا مجرد إحصاءات.ولتحقيق ذلك، يجب أن نتذكر، يجب أن نبني سلام النفوس من خلال الاعتراف بمكانة الضحايا، ويجب أن تكون المحاكم الوطنية والدولية أيضًا قادرة على التحقيق في ملفاتهم. هذه السلسلة من المهارات، التي تجمع المنظمات الدولية وجمعيات الضحايا والشرطة والقضاء، ترتكز على المهمة الدؤوبة التي تقوم بها فرق البحث عن المقابر الجماعية.
نظافة القاتل
ولعكس الديناميكية التي تقود من التراجيدي إلى الإحصاء، علينا الحفر بمعول، أو بفأس، أو بجرّافة كاتربيلر. يجب أن نجد المقابر الجماعية، الواحدة تلو الاخرى. إنها الآن قصة معروفة تم كشفها من خلال محاكمات المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.
في 10 أغسطس 1995، في البوسنة، انزعج جيش صرب البوسنة من تصريح مادلين أولبرايت، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن: “لدينا أدلة على مذابح السكان البوسنيين في منطقة سريبرينيتشا”. لا حديث حينها عن الإبادة الجماعية، لكن هذه المعلومات كانت كافية حتى يفهم صرب البوسنة أن المقابر الجماعية ستكون بمثابة دليل لمحاكمات المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. ولذلك قاموا في المنطقة، ثم في جميع أنحاء أراضي البوسنة والهرسك، بنبش الجثث من المقابر التي تسمى “الأولية” إلى مقابر أصغر توصف بأنها “ثانوية” أو حتى “من الدرجة الثالثة».
الهدف من المناورة، التي استدعت مرور شاحنات محملة بجثث متعفّنة على الطرق، هو في المقام الأول طمس الأدلة. في الواقع، تسمح صور الأقمار الصناعية الأمريكية والصور التي التقطتها طائرات التجسس القديمة U2، بتحديد مواقع بعض الحفر الأولية. ومع ذلك، من خلال الانتقال من المقابر الجماعية التي دُفن فيها أحيانًا أكثر من 600 جثة، إلى المقابر الثانوية، هناك رغبة أيضًا تكمن في خلط الرفات، وتدمير سلامة ما تبقى منها من أجل جعل عملية التعرف عليها أكثر تعقيدًا.
كانت نتيجة هذه العملية، هي تكاثر الحفر في جميع أنحاء أراضي البوسنة. “في نهاية الحرب، كان هناك 32 الفا في عداد المفقودين. تم العثور على رفات 27 ألف شخص، وتم تحديد، بين عام 1995 و2021، ولا سيما بفضل تقنية الحمض النووي التي أصبحت متاحة أكثر بعد عام 2001، تحديد أكثر من 25 ألف شخص سلّموا إلى عائلاتهم ودفنوا”، يوضح عمر ماسوفيتش، المسؤول عن المفقودين في البوسنة والهرسك، ويدير منظمة تعنى بالمفقودين في البوسنة والهرسك (معهد المفقودين). واليوم، تشير التقديرات إلى أنه لا يزال هناك ما يقارب 5 الاف إلى 8 الاف في عداد المفقودين يتحتّم العثور على رفاتهم.غالبًا ما تستند هذه التحقيقات إلى الشهادات، والالسن التي تنطلق بمرور السنين. إنه سباق مع الزمن، لأنه كلما مرت العقود، كلما قل عدد الشهود. لن يتحدث البعض أبدًا خوفًا من الانتقام أو النبذ في هذه المجتمعات الصغيرة التي تشكل قرى البوسنة والهرسك، ولا سيما تلك الموجودة في جمهورية صربسكا -أي أجزاء من الأراضي البوسنية تحت سلطة الصرب البوسنيون. والبعض الآخر يصمت تمسّكا بفكرة الأمة الصربية.وإذا كانت المعلومات كافية والملفات قوية، يأمر المدعون المحليون بإصدار تصاريح للتنقيب عن الجثث المفقودة.
في بعض الأحيان تكون لعبة بوكر. عندما سافرنا إلى بانيا لوكا، وسط البوسنة وعاصمة الصرب البوسنيين منذ اتفاقيات دايتون -كانت النتيجة إنشاء ثلاث مناطق متميزة مشتركة بين الصرب والكروات والبوسنيين (نستخدم مصطلح “البوسنيون” للإشارة إلى مسلمي البوسنة) -كانت الاستطلاعات الأولى جارية لتحديد احتمالات وجود مقبرة ثانوية. وتم التخلي عن البحث في أربع وعشرين ساعة لأنه كان من غير المجدي جعل الفنيين يعملون بدرجة حرارة تصل إلى 44 درجة، وبكميات قليلة جدًا من المعلومات.
لذلك، في جنوب سراييفو، في كانتون كالينوفيك، يقودنا ساسا كولوكجيا، مدير الاتصال في اللجنة الدولية للأشخاص المفقودين، حتى نتمكن من حضور عمل الفرق المسؤولة عن الحفريات. وصلنا في الأيام الأخيرة للموقع الذي، إذا استثنينا نشر شرائط الشرطة، لا يمكن تمييزه عن عمل كبير تنجزه الاشغال العامة المدنية.
ينتظرنا على عين المكان ألمير أولوفيتش، عالم الآثار في اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، وكذلك ممثل المدعي العام وضباط الشرطة ومدير الاشغال في الموقع. يطلبون منا البقاء خلف اللافتات: “هذا مسرح جريمة! لا يمكنك الدخول كما لو كان مكانا عاديا».
قبل أيام قليلة، تم اكتشاف بقايا تسع جثث في هذا الوادي. تم إلقاؤهم هناك على الأرجح عام 1992 في بداية الحرب. أدى التحلل السريع والروائح الكريهة التي صاحبتهم إلى عودة القتلة بعد أيام قليلة بشاحنة لإلقاء التراب لإخفاء الجثث. وبعد تسعة وعشرين عامًا، في يونيو 2021، تم العثور على بقايا الرفات.
يطلب منا عالم الآثار أن نقترب ويشرح: “هل ترون هذا الاختلاف في اللون بين الأرض السائبة والأرض الأخرى؟ هذا ما يضعنا على المسار الصحيح، ويؤكد المعلومات التي في حوزتنا. توجد حفرة هنا فعلا. وجدنا بسرعة رفات تسعة أشخاص. ربما عائلة؟ ربما تم القبض على الرجال من قرية مجاورة في مقهى أو ساحة، ثم تم إحضارهم إلى هنا ليتم إعدامهم على جانب الطريق «.
سيشرح لنا عمر ماسوفيتش بعد يومين، أن عملية الإعدام هذه نفذها على الأرجح “العقارب”، وهي وحدة شبه عسكرية صربية معروفة، وكان يخشاها الجميع طوال النزاع.في الأعلى، على منحدر التل، لا يزال الرجال يحفرون. من يدري، رغم السنين، والريح والمطر والثلج وفيضانات النهر والحيوانات البرية؛ لا يزال من الممكن العثور على بعض الشظايا التي قد تكون حاسمة لإقامة الدليل، أو تسهّل تحديد الهوية.
ساسا وألمير دمثان: “يسعدنا التحدث مع المراسلين، خاصة أنه من الصعب جدًا علينا التحدث عن عملنا مع العائلة أو الأصدقاء. اليوم الجيد بالنسبة لكما، هو تحقيق سبق صحفي، أو مقابلة متفردة، أو جلسة تصوير ناجحة. اما بالنسبة لنا، اليوم الجيد هو عندما تبوح الحفر بأسرارها، وعندما نجد العظام”. في كالينوفيك، لم تكن نظافة القاتل كافية لتحويل الجثث التسع إلى مجرد إحصائية. “هذا ما ندين به للعائلات”، يختتم مضيفينا.في طريق العودة، بينما نخطط لاجتماعنا مع دراغانا فوسيتشيك المقرر في اليوم التالي، قررنا الذهاب إلى قرية كالينوفيك التي تقع على بعد حوالي عشرين كيلومترًا. نمر بطريق يتعرج على هضبة كارستية، وهي غير مزدحمة ومحاطة بمبان ما زالت تحمل ندوب الحرب.
عند الوصول إلى مدخل هذه القرية الصغيرة، من المستحيل أن تفوتك اللوحة الجدارية التي أقيمت بجوار علامة كالينوفيك. انه راتكو ملاديتش، جنرال جيش صرب البوسنة، الذي حكمت عليه المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في حكم استئنافي في 8 يونيو الماضي، بالسجن مدى الحياة بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وهو بطل هنا. وتحرص كالينوفيك على جعل هذا معروفًا من خلال هذه الصورة، ومن خلال النصب التذكاري قيد الإنشاء، والذي يقع بشكل غير متناسب في ساحة القرية تكريما لمآثره في الحرب.
سيارتنا مسجلة في فرنسا، ثلاثة منا على متنها، كل العيون تتبع مسار السيارة. نغادر في الاتجاه المعاكس لأنه، كما لو كان رمزًا ساخرًا، مسقط رأس ملاديتش هو طريق مسدود. لا توجد طرق تعبر كالينوفيك ولكن جميعها تنتهي هنا. أخبر المصور فابريس ديكونينك، الذي زار القرية في شتاء 2020، السكان أنه ليس من الجنسية الفرنسية بل البلجيكية، بهدف الحد من التوتر المحيط بعد اقتحام هذا الجيب شبه المغلق.
بعد مشاركة بضعة أكواب من الراقيا في البار الوحيد، هدأ الجو، واشارت مجموعة من الرجال الضاحكين إلى أحدهم، منزو: “لا تلتقطوا صورة له، يتم البحث عنه من قبل محكمة لاهاي!».
الأحياء والأموات
بعيدًا عن مجرمي الحرب الصرب في كالينوفيك، نلتقي في توزلا بدراجانا فوسيتش، وهي أيضا صربية. ترأس دراجانا مشروع بودرينجي للتعرف على الضحايا في توزلا. في هذا المركز يتم حفظ البقايا البشرية الموجودة في المقابر في منطقة سريبرينيتشا.
تتمثل وظيفتها في التعرّف على العظام والشعر والأسنان والأظافر والأشياء الموكلة إليها. وتم توظيفها في اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بصفتها فاحصة طبية لوضع الألقاب على رفات البشر. كيف لا تفكر عندما تقابل هذه المرأة لأول مرة في قصيدة بريمو ليفي، جيش الموتى عبثا؟إنها في نفس الوقت أمينة المحفوظات المصنوعة من الصدأ والعظام، والتي تتحدث عن الأسرار المدفونة في الأراضي البوسنية.
طيلة ستة عشر عامًا، تقوم هذه الطبيبة صاحبة المصافحة القوية والنظرة المغلقة، بتجميع أجزاء من الجسم حتى تتمكن العائلات من استعادة ما يكفي من الاعضاء لإعادة بناء الجسم بالكامل. تنتظر بعض هذه العائلات سنوات قبل أن تتقبل حقيقة أنه لن يكون لديها أكثر من كتف أو قدم الابن أو الزوج، لدفنها تحت التراب.قبل عام 2001، كانت عملية تحديد الهوية تتم عن طريق فصيلة الدم أو الأشياء الموجودة في الحفر. ومنذ أن اتاحت التقنيات الجديدة المتعلقة بأبحاث الحمض النووي تحديدًا أكثر موثوقية وأسرع، يمكن لـ دراجانا فوسيتشيك، الاعتماد على أكبر قاعدة بيانات حمض نووي في العالم مخصصة حصريًا لعملية تحديد الهوية.ان الموت موجود في كل مكان داخل مشروع بودرينجي للتعرف على المفقودين في توزلا. على الطاولات المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ، وفي الصناديق التي تحتوي على أغراض المتوفى الشخصية،
وفي العديد من أكياس الجثث التي تملأ الخزائن. هذا الوجود المطلق للمعاناة والموت، لا يغير بأي حال من الأحوال المزاج الجيد لدراجانا وساسا. لقد اعتادتا المشي بين الهياكل العظمية، وتحرصان أكثر من أي شيء آخر على الا تضيفا الدراما إلى الدراما. “نحن نعمل مع الموتى، ولكن ما يهمنا هو الأحياء...!”، هذه عبارة نسمعها كثيرًا في تحقيقنا عن طرق البوسنة الملعونة.الأحياء هم عائلات الضحايا والناجين. يمر عمل تحديد الهوية والذاكرة من خلال الاستفسارات التي تكون اللجنة الدولية لشؤون المفقودين مسؤولة عنها. ماثيو هوليداي، الدبلوماسي الذي يرأس برنامج الأشخاص المفقودين في البلقان للجنة الدولية لشؤون المفقودين، يصر على هذه النقطة: “مهمتنا فريدة، لأننا نضمن الارتباط بين الدول والكيانات الوطنية ولكننا أيضًا محققون. إن عملنا يجعل من الممكن جلب عناصر إلى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، لا جدال فيه من حيث النوعية والكمية. ومن وجهة النظر هذه، نساعد أيضًا في إعاقة الروايات التعديلية الحالية والمستقبلية «.
من الواضح أن المصالحة، أو على الأقل تهدئة المناطق، تتطلب الاعتراف بوضع الضحايا من جميع الجنسيات، دون أي استثناء. ولا يقول أحمد جرايتش، رئيس جمعية أسر المفقودين في زفورنيك، أي شيء آخر: “كل ما نقوم به، عملنا منذ أكثر من عشرين عامًا، يتعلق بجميع العائلات، سواء كانت بوسنية أو صربية أو كرواتية أو من الأقليات.»
ان الاستماع إلى أحمد جزء من الرحلة في نهاية الليل. ربما قرأنا عشرات الكتب أو المقالات عن الإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة، وشاهدنا شهادات المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، تبقى روايته غطس في الهاوية.
منذ بداية الحرب، دفع اختفاء عائلات بأكملها أحمد إلى الاحتفاظ بحسابات كان يعلم أنها ستستخدم يومًا ما لإثبات الحقائق. دفاتر المحاسبات هذه لا تستثني الجنود الشباب في جيش صرب البوسنة، “الأمهات الصرب يعانين بقدر ما تعاني الأمهات البوسنيات».
ومع ذلك، فقد تركزت غالبية الانتهاكات بحق مسلمي البوسنة. “الصرب الذين كانوا يعيشون في المنازل المجاورة لمنزلي سلّحتهم الميليشيات شبه العسكرية، وتم إعدادهم نفسياً من قبل دعاية رادوفان كاراديتش. حدث كل هذا بسرعة كبيرة، وفي غضون أيام قليلة قام الأشخاص الذين كنا نعيش معهم بطردنا من منازلنا، واستقروا داخلها، وسرقوا جميع ممتلكاتنا. هذا هو، التطهير العرقي، تقوم القوات شبه العسكرية بإعدامنا، ويحل الجيران محلنا «.
إلى كل من يعتقد أن هذه الآلية من دولة أخرى وزمان آخر، يجيب أحمد بإيجاز: “نشأت في يوغوسلافيا، كانت حينها مجموعة من الجمهوريات وفسيفساء من القوميات، خاصة في البوسنة! لم نسأل أنفسنا قط في المدرسة، ثم في وقت لاحق في العمل، ما إذا كان صديقنا مسلمًا أم صربيًا أم كرواتيًا أم مجريًا... السؤال لم يطرح لأنه لم يخطر ببال أحد «.
يتوقف أحمد، توقف فرضه عليه مترجمنا بصعوبة. ثم يواصل، رافعا صوته، وهو يدق الطاولة، “حدثت المحنة عندما بدأ السياسيون يلعبون بالسرديات التي تعارض بين ‘نحن’ و ‘هم’... سيطر الخوف على الجميع، وبسرعة كبيرة الحرب والمجازر والحفر».
في إحدى هذه المقابر، وسط 678 جثة أخرى، تعرّف أحمد على والده. وفي وقت لاحق، سيعلم أن أعمامه وأبناء عمومته قد تم إعدامهم أيضًا خلال عمليات القتل الجماعي التي تم التخطيط لها في جميع البلدات والقرى الواقعة على طول نهر درينا، هذا النهر الذي يمثل الحدود بين البوسنة وصربيا.
دعمت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بشكل طبيعي، إنشاء نصب كاليسيا التذكاري الذي يديره أحمد. “بمجرد تحديد هيئة التعرّف في توزلا، يمكننا دفن موتانا هنا. الألم لن يختفي أبدًا، ولكن مع هذا المكان، أصبحنا مجتمعًا مرة أخرى، وهذا أمر مهم، لأن الكثيرين مثلي لم يعد لديهم أي فرد من أفراد الأسرة ليتناول القهوة معه».إن قلق جميع باحثي المقابر الجماعية وجمعيات الضحايا والمنظمات الدولية شامل، لأنه كلما مرّ الوقت، كلما قلّ احتمال العثور على آخر المفقودين. عمر ماسوفيتش، في مكتب معهد المفقودين في سراييفو، على قناعة بانه “لا يزال هناك مقبرة رئيسية واحدة على الأقل بعدد كبير من الجثث يمكن العثور عليها بالقرب من سريبرينيتشا. ربما اثنتان أو حتى ثلاثة، لكن الوقت ينفد وأولئك الذين يعرفون، في الوقت الحالي، لا يتكلمون “. سيتم تقاسم هذا التأكيد من قبل جميع محاورينا.يرتبط تاريخ المقابر الجماعية البوسنية بوضع منهجي وهو القضاء على مسلمي البوسنة والهرسك. نحن ندرك جيدًا مثل هذه النظم البيئية التي شهد القرن العشرين ازدهارها: مبانٍ مخصصة لفرز البشر، وأماكن الإعدام الجماعي، ومعسكرات الاعتقال، وغرف التعذيب... قصص مروعة تفسر ما لا يوصف.
كان فابريس ديكونينك، الذي قابلناه مرة أخرى في سراييفو، عائداً من إحدى رحلاته العديدة إلى بوسانسكا كرايينا في شمال غرب البوسنة، حيث أقيم معسكر أومارسكا الرهيب. كان يعمل في مشروع تصوير فوتوغرافي وفيديو منذ عدة سنوات حول أماكن الذاكرة في المنطقة. وعاد إلى توماسيكا، وهو منجم سابق، بداخله مئات الجثث المتراكمة.
أخبره صديقه “سفابو”، من قدماء اللواء السابع عشر في الجيش البوسني، كيف يصل إلى هناك: “المكان اليوم أعجوبة، وكأن الطبيعة عملت على محو جرائم الرجال. لكن في ذهابي إلى هناك، رأيت أنه كان عليّ المرور أمام قرية صغيرة مكونة من ستة أو سبعة منازل. الشاحنات التي قامت بالدوران لإلقاء الجثث المعذبة في هذه الحفرة مرت بالضرورة من أمام منازلهم. لم يتكلموا قط، لكن بعد فترة من انتهاء الحرب، اشتكوا للبلدية، لأن المياه التي خرجت من صنابيرهم كانت تفوح منها رائحة الجثث «.إن الاقتراب من القبور في البوسنة والهرسك، هو بمثابة لمس، بأطراف الأصابع، لآليات الإبادة الجماعية، والمخاوف الكبيرة الموجودة فينا. الخوف من “الآخر” أو أن نرى عودة سمّ القومية، ومسألة العرق. في هذا البلد الواقع في قلب البلقان، والذي نراه على أنه الثقب الأسود لأوروبا، أرض الصراعات الدائمة والعنف المستشري، رأينا جزءً من وجه القرن العشرين.
كنا نخشى أيضًا أن يظل هذا الوجه الذي يتقدم في السن قادرًا على رسم خط بين “نحن” و “هم”، هنا والآن.
ولن ننسى أيضًا كلمات دراجانا، “أتساءل دائمًا، لماذا الذين لم يتألموا هم الذين ينشرون الكراهية الأعظم ...؟”. وكلمات أحمد “لا أحد يحب بيته كما أحب بيتي! كان هذا صحيحًا من قبل ولا يزال كذلك، لأنني ما زلت ألتقي بأشخاص رائعين هناك، مهما كانت جنسياتهم”. أو ايضا، أقوال فابريس نقلاً عن سفابو: “بالطبع يوجد اليوم صرب من بين أصدقائي».
هذا ما لا يمكن أن تخبرنا به الإحصائيات.
- اليوم الجيد عندنا هو عندما تبوح الحفر بأسرارها، وعندما نجد العظام
- الاختلاف اللوني بين الأرض السائبة والأرض الأخرى يدل على أماكن المقابر الجماعية
- من الواضح أن المصالحة، أو على الأقل تهدئة المناطق، تتطلب الاعتراف بوضع الضحايا من جميع الجنسيات
«موت شخص واحد مأساة كبرى، بينما موت مليون شخص هي مجرد إحصائيات”، قال جوزيف ستالين. في البوسنة، بينما أقيمت إحياء ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية في سريبرينيتشا بين 11 و14 يوليو 2021، يواصل الرجال والنساء العمل حتى لا يصبح الذين فُقدوا في حرب يوغوسلافيا مجرد إحصاءات.ولتحقيق ذلك، يجب أن نتذكر، يجب أن نبني سلام النفوس من خلال الاعتراف بمكانة الضحايا، ويجب أن تكون المحاكم الوطنية والدولية أيضًا قادرة على التحقيق في ملفاتهم. هذه السلسلة من المهارات، التي تجمع المنظمات الدولية وجمعيات الضحايا والشرطة والقضاء، ترتكز على المهمة الدؤوبة التي تقوم بها فرق البحث عن المقابر الجماعية.
نظافة القاتل
ولعكس الديناميكية التي تقود من التراجيدي إلى الإحصاء، علينا الحفر بمعول، أو بفأس، أو بجرّافة كاتربيلر. يجب أن نجد المقابر الجماعية، الواحدة تلو الاخرى. إنها الآن قصة معروفة تم كشفها من خلال محاكمات المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.
في 10 أغسطس 1995، في البوسنة، انزعج جيش صرب البوسنة من تصريح مادلين أولبرايت، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن: “لدينا أدلة على مذابح السكان البوسنيين في منطقة سريبرينيتشا”. لا حديث حينها عن الإبادة الجماعية، لكن هذه المعلومات كانت كافية حتى يفهم صرب البوسنة أن المقابر الجماعية ستكون بمثابة دليل لمحاكمات المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. ولذلك قاموا في المنطقة، ثم في جميع أنحاء أراضي البوسنة والهرسك، بنبش الجثث من المقابر التي تسمى “الأولية” إلى مقابر أصغر توصف بأنها “ثانوية” أو حتى “من الدرجة الثالثة».
الهدف من المناورة، التي استدعت مرور شاحنات محملة بجثث متعفّنة على الطرق، هو في المقام الأول طمس الأدلة. في الواقع، تسمح صور الأقمار الصناعية الأمريكية والصور التي التقطتها طائرات التجسس القديمة U2، بتحديد مواقع بعض الحفر الأولية. ومع ذلك، من خلال الانتقال من المقابر الجماعية التي دُفن فيها أحيانًا أكثر من 600 جثة، إلى المقابر الثانوية، هناك رغبة أيضًا تكمن في خلط الرفات، وتدمير سلامة ما تبقى منها من أجل جعل عملية التعرف عليها أكثر تعقيدًا.
كانت نتيجة هذه العملية، هي تكاثر الحفر في جميع أنحاء أراضي البوسنة. “في نهاية الحرب، كان هناك 32 الفا في عداد المفقودين. تم العثور على رفات 27 ألف شخص، وتم تحديد، بين عام 1995 و2021، ولا سيما بفضل تقنية الحمض النووي التي أصبحت متاحة أكثر بعد عام 2001، تحديد أكثر من 25 ألف شخص سلّموا إلى عائلاتهم ودفنوا”، يوضح عمر ماسوفيتش، المسؤول عن المفقودين في البوسنة والهرسك، ويدير منظمة تعنى بالمفقودين في البوسنة والهرسك (معهد المفقودين). واليوم، تشير التقديرات إلى أنه لا يزال هناك ما يقارب 5 الاف إلى 8 الاف في عداد المفقودين يتحتّم العثور على رفاتهم.غالبًا ما تستند هذه التحقيقات إلى الشهادات، والالسن التي تنطلق بمرور السنين. إنه سباق مع الزمن، لأنه كلما مرت العقود، كلما قل عدد الشهود. لن يتحدث البعض أبدًا خوفًا من الانتقام أو النبذ في هذه المجتمعات الصغيرة التي تشكل قرى البوسنة والهرسك، ولا سيما تلك الموجودة في جمهورية صربسكا -أي أجزاء من الأراضي البوسنية تحت سلطة الصرب البوسنيون. والبعض الآخر يصمت تمسّكا بفكرة الأمة الصربية.وإذا كانت المعلومات كافية والملفات قوية، يأمر المدعون المحليون بإصدار تصاريح للتنقيب عن الجثث المفقودة.
في بعض الأحيان تكون لعبة بوكر. عندما سافرنا إلى بانيا لوكا، وسط البوسنة وعاصمة الصرب البوسنيين منذ اتفاقيات دايتون -كانت النتيجة إنشاء ثلاث مناطق متميزة مشتركة بين الصرب والكروات والبوسنيين (نستخدم مصطلح “البوسنيون” للإشارة إلى مسلمي البوسنة) -كانت الاستطلاعات الأولى جارية لتحديد احتمالات وجود مقبرة ثانوية. وتم التخلي عن البحث في أربع وعشرين ساعة لأنه كان من غير المجدي جعل الفنيين يعملون بدرجة حرارة تصل إلى 44 درجة، وبكميات قليلة جدًا من المعلومات.
لذلك، في جنوب سراييفو، في كانتون كالينوفيك، يقودنا ساسا كولوكجيا، مدير الاتصال في اللجنة الدولية للأشخاص المفقودين، حتى نتمكن من حضور عمل الفرق المسؤولة عن الحفريات. وصلنا في الأيام الأخيرة للموقع الذي، إذا استثنينا نشر شرائط الشرطة، لا يمكن تمييزه عن عمل كبير تنجزه الاشغال العامة المدنية.
ينتظرنا على عين المكان ألمير أولوفيتش، عالم الآثار في اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، وكذلك ممثل المدعي العام وضباط الشرطة ومدير الاشغال في الموقع. يطلبون منا البقاء خلف اللافتات: “هذا مسرح جريمة! لا يمكنك الدخول كما لو كان مكانا عاديا».
قبل أيام قليلة، تم اكتشاف بقايا تسع جثث في هذا الوادي. تم إلقاؤهم هناك على الأرجح عام 1992 في بداية الحرب. أدى التحلل السريع والروائح الكريهة التي صاحبتهم إلى عودة القتلة بعد أيام قليلة بشاحنة لإلقاء التراب لإخفاء الجثث. وبعد تسعة وعشرين عامًا، في يونيو 2021، تم العثور على بقايا الرفات.
يطلب منا عالم الآثار أن نقترب ويشرح: “هل ترون هذا الاختلاف في اللون بين الأرض السائبة والأرض الأخرى؟ هذا ما يضعنا على المسار الصحيح، ويؤكد المعلومات التي في حوزتنا. توجد حفرة هنا فعلا. وجدنا بسرعة رفات تسعة أشخاص. ربما عائلة؟ ربما تم القبض على الرجال من قرية مجاورة في مقهى أو ساحة، ثم تم إحضارهم إلى هنا ليتم إعدامهم على جانب الطريق «.
سيشرح لنا عمر ماسوفيتش بعد يومين، أن عملية الإعدام هذه نفذها على الأرجح “العقارب”، وهي وحدة شبه عسكرية صربية معروفة، وكان يخشاها الجميع طوال النزاع.في الأعلى، على منحدر التل، لا يزال الرجال يحفرون. من يدري، رغم السنين، والريح والمطر والثلج وفيضانات النهر والحيوانات البرية؛ لا يزال من الممكن العثور على بعض الشظايا التي قد تكون حاسمة لإقامة الدليل، أو تسهّل تحديد الهوية.
ساسا وألمير دمثان: “يسعدنا التحدث مع المراسلين، خاصة أنه من الصعب جدًا علينا التحدث عن عملنا مع العائلة أو الأصدقاء. اليوم الجيد بالنسبة لكما، هو تحقيق سبق صحفي، أو مقابلة متفردة، أو جلسة تصوير ناجحة. اما بالنسبة لنا، اليوم الجيد هو عندما تبوح الحفر بأسرارها، وعندما نجد العظام”. في كالينوفيك، لم تكن نظافة القاتل كافية لتحويل الجثث التسع إلى مجرد إحصائية. “هذا ما ندين به للعائلات”، يختتم مضيفينا.في طريق العودة، بينما نخطط لاجتماعنا مع دراغانا فوسيتشيك المقرر في اليوم التالي، قررنا الذهاب إلى قرية كالينوفيك التي تقع على بعد حوالي عشرين كيلومترًا. نمر بطريق يتعرج على هضبة كارستية، وهي غير مزدحمة ومحاطة بمبان ما زالت تحمل ندوب الحرب.
عند الوصول إلى مدخل هذه القرية الصغيرة، من المستحيل أن تفوتك اللوحة الجدارية التي أقيمت بجوار علامة كالينوفيك. انه راتكو ملاديتش، جنرال جيش صرب البوسنة، الذي حكمت عليه المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في حكم استئنافي في 8 يونيو الماضي، بالسجن مدى الحياة بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وهو بطل هنا. وتحرص كالينوفيك على جعل هذا معروفًا من خلال هذه الصورة، ومن خلال النصب التذكاري قيد الإنشاء، والذي يقع بشكل غير متناسب في ساحة القرية تكريما لمآثره في الحرب.
سيارتنا مسجلة في فرنسا، ثلاثة منا على متنها، كل العيون تتبع مسار السيارة. نغادر في الاتجاه المعاكس لأنه، كما لو كان رمزًا ساخرًا، مسقط رأس ملاديتش هو طريق مسدود. لا توجد طرق تعبر كالينوفيك ولكن جميعها تنتهي هنا. أخبر المصور فابريس ديكونينك، الذي زار القرية في شتاء 2020، السكان أنه ليس من الجنسية الفرنسية بل البلجيكية، بهدف الحد من التوتر المحيط بعد اقتحام هذا الجيب شبه المغلق.
بعد مشاركة بضعة أكواب من الراقيا في البار الوحيد، هدأ الجو، واشارت مجموعة من الرجال الضاحكين إلى أحدهم، منزو: “لا تلتقطوا صورة له، يتم البحث عنه من قبل محكمة لاهاي!».
الأحياء والأموات
بعيدًا عن مجرمي الحرب الصرب في كالينوفيك، نلتقي في توزلا بدراجانا فوسيتش، وهي أيضا صربية. ترأس دراجانا مشروع بودرينجي للتعرف على الضحايا في توزلا. في هذا المركز يتم حفظ البقايا البشرية الموجودة في المقابر في منطقة سريبرينيتشا.
تتمثل وظيفتها في التعرّف على العظام والشعر والأسنان والأظافر والأشياء الموكلة إليها. وتم توظيفها في اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بصفتها فاحصة طبية لوضع الألقاب على رفات البشر. كيف لا تفكر عندما تقابل هذه المرأة لأول مرة في قصيدة بريمو ليفي، جيش الموتى عبثا؟إنها في نفس الوقت أمينة المحفوظات المصنوعة من الصدأ والعظام، والتي تتحدث عن الأسرار المدفونة في الأراضي البوسنية.
طيلة ستة عشر عامًا، تقوم هذه الطبيبة صاحبة المصافحة القوية والنظرة المغلقة، بتجميع أجزاء من الجسم حتى تتمكن العائلات من استعادة ما يكفي من الاعضاء لإعادة بناء الجسم بالكامل. تنتظر بعض هذه العائلات سنوات قبل أن تتقبل حقيقة أنه لن يكون لديها أكثر من كتف أو قدم الابن أو الزوج، لدفنها تحت التراب.قبل عام 2001، كانت عملية تحديد الهوية تتم عن طريق فصيلة الدم أو الأشياء الموجودة في الحفر. ومنذ أن اتاحت التقنيات الجديدة المتعلقة بأبحاث الحمض النووي تحديدًا أكثر موثوقية وأسرع، يمكن لـ دراجانا فوسيتشيك، الاعتماد على أكبر قاعدة بيانات حمض نووي في العالم مخصصة حصريًا لعملية تحديد الهوية.ان الموت موجود في كل مكان داخل مشروع بودرينجي للتعرف على المفقودين في توزلا. على الطاولات المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ، وفي الصناديق التي تحتوي على أغراض المتوفى الشخصية،
وفي العديد من أكياس الجثث التي تملأ الخزائن. هذا الوجود المطلق للمعاناة والموت، لا يغير بأي حال من الأحوال المزاج الجيد لدراجانا وساسا. لقد اعتادتا المشي بين الهياكل العظمية، وتحرصان أكثر من أي شيء آخر على الا تضيفا الدراما إلى الدراما. “نحن نعمل مع الموتى، ولكن ما يهمنا هو الأحياء...!”، هذه عبارة نسمعها كثيرًا في تحقيقنا عن طرق البوسنة الملعونة.الأحياء هم عائلات الضحايا والناجين. يمر عمل تحديد الهوية والذاكرة من خلال الاستفسارات التي تكون اللجنة الدولية لشؤون المفقودين مسؤولة عنها. ماثيو هوليداي، الدبلوماسي الذي يرأس برنامج الأشخاص المفقودين في البلقان للجنة الدولية لشؤون المفقودين، يصر على هذه النقطة: “مهمتنا فريدة، لأننا نضمن الارتباط بين الدول والكيانات الوطنية ولكننا أيضًا محققون. إن عملنا يجعل من الممكن جلب عناصر إلى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، لا جدال فيه من حيث النوعية والكمية. ومن وجهة النظر هذه، نساعد أيضًا في إعاقة الروايات التعديلية الحالية والمستقبلية «.
من الواضح أن المصالحة، أو على الأقل تهدئة المناطق، تتطلب الاعتراف بوضع الضحايا من جميع الجنسيات، دون أي استثناء. ولا يقول أحمد جرايتش، رئيس جمعية أسر المفقودين في زفورنيك، أي شيء آخر: “كل ما نقوم به، عملنا منذ أكثر من عشرين عامًا، يتعلق بجميع العائلات، سواء كانت بوسنية أو صربية أو كرواتية أو من الأقليات.»
ان الاستماع إلى أحمد جزء من الرحلة في نهاية الليل. ربما قرأنا عشرات الكتب أو المقالات عن الإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة، وشاهدنا شهادات المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، تبقى روايته غطس في الهاوية.
منذ بداية الحرب، دفع اختفاء عائلات بأكملها أحمد إلى الاحتفاظ بحسابات كان يعلم أنها ستستخدم يومًا ما لإثبات الحقائق. دفاتر المحاسبات هذه لا تستثني الجنود الشباب في جيش صرب البوسنة، “الأمهات الصرب يعانين بقدر ما تعاني الأمهات البوسنيات».
ومع ذلك، فقد تركزت غالبية الانتهاكات بحق مسلمي البوسنة. “الصرب الذين كانوا يعيشون في المنازل المجاورة لمنزلي سلّحتهم الميليشيات شبه العسكرية، وتم إعدادهم نفسياً من قبل دعاية رادوفان كاراديتش. حدث كل هذا بسرعة كبيرة، وفي غضون أيام قليلة قام الأشخاص الذين كنا نعيش معهم بطردنا من منازلنا، واستقروا داخلها، وسرقوا جميع ممتلكاتنا. هذا هو، التطهير العرقي، تقوم القوات شبه العسكرية بإعدامنا، ويحل الجيران محلنا «.
إلى كل من يعتقد أن هذه الآلية من دولة أخرى وزمان آخر، يجيب أحمد بإيجاز: “نشأت في يوغوسلافيا، كانت حينها مجموعة من الجمهوريات وفسيفساء من القوميات، خاصة في البوسنة! لم نسأل أنفسنا قط في المدرسة، ثم في وقت لاحق في العمل، ما إذا كان صديقنا مسلمًا أم صربيًا أم كرواتيًا أم مجريًا... السؤال لم يطرح لأنه لم يخطر ببال أحد «.
يتوقف أحمد، توقف فرضه عليه مترجمنا بصعوبة. ثم يواصل، رافعا صوته، وهو يدق الطاولة، “حدثت المحنة عندما بدأ السياسيون يلعبون بالسرديات التي تعارض بين ‘نحن’ و ‘هم’... سيطر الخوف على الجميع، وبسرعة كبيرة الحرب والمجازر والحفر».
في إحدى هذه المقابر، وسط 678 جثة أخرى، تعرّف أحمد على والده. وفي وقت لاحق، سيعلم أن أعمامه وأبناء عمومته قد تم إعدامهم أيضًا خلال عمليات القتل الجماعي التي تم التخطيط لها في جميع البلدات والقرى الواقعة على طول نهر درينا، هذا النهر الذي يمثل الحدود بين البوسنة وصربيا.
دعمت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين بشكل طبيعي، إنشاء نصب كاليسيا التذكاري الذي يديره أحمد. “بمجرد تحديد هيئة التعرّف في توزلا، يمكننا دفن موتانا هنا. الألم لن يختفي أبدًا، ولكن مع هذا المكان، أصبحنا مجتمعًا مرة أخرى، وهذا أمر مهم، لأن الكثيرين مثلي لم يعد لديهم أي فرد من أفراد الأسرة ليتناول القهوة معه».إن قلق جميع باحثي المقابر الجماعية وجمعيات الضحايا والمنظمات الدولية شامل، لأنه كلما مرّ الوقت، كلما قلّ احتمال العثور على آخر المفقودين. عمر ماسوفيتش، في مكتب معهد المفقودين في سراييفو، على قناعة بانه “لا يزال هناك مقبرة رئيسية واحدة على الأقل بعدد كبير من الجثث يمكن العثور عليها بالقرب من سريبرينيتشا. ربما اثنتان أو حتى ثلاثة، لكن الوقت ينفد وأولئك الذين يعرفون، في الوقت الحالي، لا يتكلمون “. سيتم تقاسم هذا التأكيد من قبل جميع محاورينا.يرتبط تاريخ المقابر الجماعية البوسنية بوضع منهجي وهو القضاء على مسلمي البوسنة والهرسك. نحن ندرك جيدًا مثل هذه النظم البيئية التي شهد القرن العشرين ازدهارها: مبانٍ مخصصة لفرز البشر، وأماكن الإعدام الجماعي، ومعسكرات الاعتقال، وغرف التعذيب... قصص مروعة تفسر ما لا يوصف.
كان فابريس ديكونينك، الذي قابلناه مرة أخرى في سراييفو، عائداً من إحدى رحلاته العديدة إلى بوسانسكا كرايينا في شمال غرب البوسنة، حيث أقيم معسكر أومارسكا الرهيب. كان يعمل في مشروع تصوير فوتوغرافي وفيديو منذ عدة سنوات حول أماكن الذاكرة في المنطقة. وعاد إلى توماسيكا، وهو منجم سابق، بداخله مئات الجثث المتراكمة.
أخبره صديقه “سفابو”، من قدماء اللواء السابع عشر في الجيش البوسني، كيف يصل إلى هناك: “المكان اليوم أعجوبة، وكأن الطبيعة عملت على محو جرائم الرجال. لكن في ذهابي إلى هناك، رأيت أنه كان عليّ المرور أمام قرية صغيرة مكونة من ستة أو سبعة منازل. الشاحنات التي قامت بالدوران لإلقاء الجثث المعذبة في هذه الحفرة مرت بالضرورة من أمام منازلهم. لم يتكلموا قط، لكن بعد فترة من انتهاء الحرب، اشتكوا للبلدية، لأن المياه التي خرجت من صنابيرهم كانت تفوح منها رائحة الجثث «.إن الاقتراب من القبور في البوسنة والهرسك، هو بمثابة لمس، بأطراف الأصابع، لآليات الإبادة الجماعية، والمخاوف الكبيرة الموجودة فينا. الخوف من “الآخر” أو أن نرى عودة سمّ القومية، ومسألة العرق. في هذا البلد الواقع في قلب البلقان، والذي نراه على أنه الثقب الأسود لأوروبا، أرض الصراعات الدائمة والعنف المستشري، رأينا جزءً من وجه القرن العشرين.
كنا نخشى أيضًا أن يظل هذا الوجه الذي يتقدم في السن قادرًا على رسم خط بين “نحن” و “هم”، هنا والآن.
ولن ننسى أيضًا كلمات دراجانا، “أتساءل دائمًا، لماذا الذين لم يتألموا هم الذين ينشرون الكراهية الأعظم ...؟”. وكلمات أحمد “لا أحد يحب بيته كما أحب بيتي! كان هذا صحيحًا من قبل ولا يزال كذلك، لأنني ما زلت ألتقي بأشخاص رائعين هناك، مهما كانت جنسياتهم”. أو ايضا، أقوال فابريس نقلاً عن سفابو: “بالطبع يوجد اليوم صرب من بين أصدقائي».
هذا ما لا يمكن أن تخبرنا به الإحصائيات.