الأمريكيون سيحكمون على بايدن بقسوة بعد الإذلال القومي

الأمريكيون سيحكمون على بايدن بقسوة بعد الإذلال القومي

- تنفيذ «سياسة خارجية في خدمة الطبقة الوسطى الأمريكية» هو الذي دفع بايدن لاستعجال الانسحاب
- انسحاب القوات من أفغانستان عزز بشكل خطير الانطباع بأن النخب التقليدية في البلاد ضعيفة وغير كفؤة
- الفشل الذريع لأمريكا هو أيضًا دحض لاذع لنظرية تقع في صميم سياسة جو بايدن الخارجية
- هذا الانسحاب المتسرع، سيجعل عودة الشعبويين إلى الحكم أكثر احتمالا
- يمكن أن تصبح الانتقادات أقوى إذا عاد الإرهاب الأجنبي إلى الولايات المتحدة


    إنها كارثة كبرى على الشعب الأفغاني، المدعو الآن للعيش في ظل نظام ثيوقراطي يقمع حرياته الأساسية، ويعاقب المنشقين بلا رحمة، ويضطهد النساء بفخر.
   إنها كارثة كبيرة للعديد من البلدان في المنطقة، والتي سيتعين عليها الآن التعامل مع الآثار المزعزعة للاستقرار بشدة لأزمة لاجئين هائلة جديدة.
   إنها كارثة كبرى على مصداقية الغرب، الذي ستبدو وعوده بالدفاع عن أمن الحلفاء المهددين من قبل منافسين سلطويين، مثل روسيا والصين، وعودا جوفاء أكثر.

   وهذه كارثة كبرى للولايات المتحدة، التي ستكون أقل أمانًا بكثير الآن بعد أن أطلقت طالبان سراح عدد كبير من عملاء القاعدة. لكن الفشل الذريع لأمريكا في أفغانستان هو أيضًا دحض لاذع لنظرية تقع في صميم سياسة جو بايدن الخارجية.

في السنوات الأخيرة، كان اللاعبون الرئيسيون في واشنطن قلقين بشأن نطاق انتقادات دونالد ترامب لانخراط أمريكا في الخارج -بما في ذلك وجودها في أفغانستان -وقد تصوروا “سياسة خارجية للطبقة الوسطى”. ومن أجل أن يدعم الرأي العام فكرة أن تكون أمريكا هي الضامن للنظام الدولي الليبرالي، ولمواجهة عودة الشعبويين السلطويين، مثل دونالد ترامب، إلى السلطة، أبرز مؤيدو هذه المقاربة بأن البلاد يجب أن تتخلى عن المهام التي لا تحظى بشعبية مثل تلك الجارية في أفغانستان والتركيز على الإجراءات التي تزيد دخل الأمريكيين العاديين. غبر ان التطبيق الأول لهذه السياسة فشل، وعوض ان يجعل عودة ترامب أقل احتمالية، فإن انسحاب القوات من أفغانستان عزز بشكل خطير الانطباع بأن النخب التقليدية في البلاد ضعيفة للغاية وغير كفؤة بحيث لا يمكن تكليفها بالسلطة.

   بالتأكيد كانت سياسة ترامب الخارجية عبارة عن فوضى غير متماسكة. خلال حملة عام 2016، ندد الرئيس الجمهوري السابق مرارًا بشي جين بينغ، وحذّر مرارًا وتكرارًا من الخطر الذي تشكله الصين. ثم قابل شي، وفجأة لم يستطع التوقف عن مدحه. قال ترامب عام 2018: “إنه الآن رئيس مدى الحياة، وهذا رائع”. كما شهد تقدير ترامب لرجال الدولة الآخرين، تقلبات شديدة بنفس القدر، ومن الواضح أنها تدل على شدة الإطراء الذي يتلقاه في المقابل من هؤلاء القادة.

   لكن سيكون من الخطأ التوقف عند تقلب ترامب، دون رؤية ما كانت معتقداته الأساسية عن العالم من الاتساق البارد. بشكل عام، فإن نظرته للسياسة الخارجية، مثله مثل العديد من الشعبويين الآخرين، تسترشد بثلاثة مبادئ بسيطة: أولاً، يعتقد أنه يجب على القادة السياسيين في جميع الأوقات أن يضعوا المصلحة الذاتية المباشرة لبلدهم فوق كل الاعتبارات الأخرى. ثانياً، يعتقد أن المصلحة الوطنية الأمريكية نادراً ما تخدمها ارتباطات مكلفة أو طويلة في دول أجنبية. وثالثًا، يرى أن السعي وراء تلك المصلحة الذاتية غالبًا ما يتطلب من الولايات المتحدة كسر القواعد الرسمية وغير الرسمية للسياسة الدولية.

   ويعتبر موقف ترامب تجاه أفغانستان خير مثال على هذه الرؤية. خلال حملته الانتخابية الأولى، كثيرا ما انتقد المهمة هناك. وحسب رايه، فإن جهود الحلفاء كانت مكلفة للغاية من حيث الأرواح والاموال. كما قال في تغريدة “علينا مغادرة أفغانستان على الفور ... إعادة بناء الولايات المتحدة أولاً”. (بمجرد أن تولى منصبه، حنث ترامب بوعده. ورغم أنه حرّك بعض اليات انسحاب أمريكا من أفغانستان، إلا أن مجموعة صغيرة، ولكنها مهمة، من القوات الأمريكية ظلت في مكانها طوال فترة ولايته).

   منزعجا بشدة من صعود ترامب، استجاب الاستبلشمنت التقليدي في واشنطن تدريجياً لبعض انتقاداته. ولطالما كانت المؤسسات الفكرية قلقة بشأن عدم شعبية “النظام الدولي الليبرالي” ونقص الدعم الشعبي للانخراط الأمريكي في الخارج. ويبدو أن نجاح ترامب يثبت أن الطرق القديمة أصبحت غير مستدامة... فما العمل اذن؟
   شعر كبار المسؤولين في السياسة الخارجية أن السؤال الذي فرضه ترامب هو كيفية الحفاظ على القواعد الدولية الأساسية التي تضمن ازدهار أمريكا دون تأجيج رد فعل شعبوي عنيف يهدد بتدمير تحالفات البلاد وبقاء مؤسساتها على حد السواء.

  العديد من مسؤولي السياسة الخارجية في إدارة بايدن -منهم وزير الخارجية أنطوني بلينكين ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان -اجمعوا على إجابة خاصة على هذا السؤال. لقد أصبح الناخبون على قناعة بأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة قد فشلت في خدمة المصلحة الوطنية للأمة. وخلصوا إلى أنه للتنافس مع ترامب، يجب على الديمقراطيين إنهاء الوجود غير الشعبي للقوات في الخارج، وإعادة التفكير في الالتزامات الدولية للبلاد لخدمة المصالح الاقتصادية للناخبين.

   ابعد ما تكون عن كونها مجرد شعار، فإن فكرة “السياسة الخارجية للطبقة الوسطى”، شكلت بعمق السياسة الخارجية التي اتبعها جو بايدن خلال الأشهر السبعة الأولى من رئاسته،
وأدت الى النجاحات الدولية الاولى لإدارته، مثل سلسلة الاتفاقيات التي تضمن حدًا أدنى لمعدل الضريبة للشركات العالمية الكبرى، وتفسّر بعض الإجراءات التي قد تبدو مربكة، مثل محاولات الإدارة الأخيرة دفع أوبك لزيادة حصصها من إنتاج النفط. نعم، إنها تفسر أيضًا، تصميم بايدن على الخروج من أفغانستان بسرعة غير مسؤولة.

   في استطلاعات الرأي، ساندت أغلبية واضحة من الأمريكيين دائمًا سحب القوات من أفغانستان، ومن وجهة نظر “السياسة الخارجية للطبقة الوسطى”، كان هذا نموذجا لحالة سهلة. من خلال سحب القوات، يمكن للسيد بايدن أن يثبت أنه مستعد للإذعان للرأي العام في مسائل السياسة الخارجية، وأنه لن يتورط في مغامرات خارجية مكلفة، وأنه سيعيد تركيز جهود أمريكا على المبادرات التي تجلب فوائد ملموسة للأمريكيين العاديين.
   غير ان هذا الانسحاب المتسرّع، إلى جانب كونه كارثة إنسانية، لا يلبي الهدف: فهو سيجعل عودة الشعبويين أكثر احتمالا.

   ومن المرجح أن تظل صور طائرات الهليكوبتر التي تنقذ دبلوماسيين أمريكيين من سفارة كابول، وصور أفغان معلقة خارج طائرات النقل الأمريكية في محاولة يائسة للهروب من طالبان في الذاكرة إلى الأبد. إنها ترمز إلى حقبة جديدة من الضعف لأمريكا، وستؤثر بشكل كبير على حصاد السياسة الخارجية لبايدن. ويبدو أن العديد من الديمقراطيين يختلفون مع هذا التشخيص.

   على ثقة من أن سقوط كابول لن يكلفهم ثمناً باهظاً، قال مسؤولون كبار في إدارة بايدن للصحفيين الأحد  الماضي إن “الأمريكيين يؤيدون عودة القوات”. لكن إذا كان معظم المواطنين يؤيدون فعلا عودة القوات إلى أوطانهم، فان ذلك كان قبل أن يدركوا مدى سوء مثل هذه السياسة، ومن المرجح أنهم سيحكمون على بايدن بقسوة لمشاهد الإذلال الوطني التي يتم تناقلها حاليا على التلفزيون، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.

   حتى الآن، لم يجد انتقاد عدم كفاءة بايدن، صدى خارج وسائل الإعلام اليمينية، ولم يكن لدى الناخبين سبب وجيه للاعتقاد بأنه غير قادر على حكم البلاد، لكن مقاطع الفيديو من أفغانستان تقدم الآن خط هجوم من المؤكد أن يشتد في الأشهر القادمة.

  ويمكن أن تصبح هذه الانتقادات أقوى إذا عاد الإرهاب الأجنبي إلى الولايات المتحدة. وبحسب التقارير الأولية، فقد أطلقت طالبان سراح عدد كبير من عناصر القاعدة. ويمكن للجماعة ان تسمح مرة أخرى للخلايا الإرهابية بإنشاء مناطق تدريب أو اللجوء إلى البلد الذي تسيطر عليه الآن.
   بحلول خريف عام 2022 أو 2024، من المحتمل أن يكون العديد من الأمريكيين قد نسوا كل شيء عن الشعب الأفغاني. لكن الانطباع بالضعف وعدم الكفاءة لدى إدارة بايدن، من المرجح أن يستمر. وبالنسبة لشعبوي مثل ترامب، الذي طالما خاض حملته الانتخابية على أساس قدرته على استعادة القوة الأمريكية الى جانب الوعد بتقليص الالتزامات الخارجية للبلاد، فإن ذلك يفتح ثغرة كبيرة.

    كان من المفترض أن يُظهر انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان أنّ إدارة بايدن قد استمعت إلى مخاوف الناخبين. وبدلاً من ذلك، ها هو يغذّي فكرة إفلاس النخب التي يصنع منها الرجال الشعبويون الاقوياء عسلهم.
كما يعلّمنا أن إجماع الطبقة السياسية على كيفية الرد على ما يمثله ترامب انتهى الى فشل ذريع.

    لا، السياسة الخارجية ليست الأداة الأكثر فعالية لرفع أجور عمال الصلب في ميشيغان أو الممرضات في جورجيا. كانت الفكرة القائلة بأن الحكومة يمكن أن تستمد ما يكفي من مفاوضات مجموعة الثماني أو الأمم المتحدة لتحسين رفاهية المواطن الأمريكي العادي قصد تغيير تصويتهم، مجرد حلم بعيد المنال.

   لكن سقوط كابول يوضح عيبًا آخر في هذا المنطق. من الممكن أن يزعم الأمريكيون، في استطلاعات الرأي، أنهم يفضلون سياسة خارجية لصالح المصالح الوطنية وتساعد على تحسين مستوى معيشتهم، لكنهم يميلون إلى الحكم على قادتهم بقسوة إذا أساءت أفعالهم للبلاد بشكل كبير، أو فشلت في توفير الحماية المناسبة لهم. واتضح أن ما هو مطلوب لتفادي كل هذه المزالق، هو بالضبط ما يعتبره العديد من الناخبين بعيدًا تمامًا عن الدفاع عن مصالحهم المباشرة.

   هذا لا يعني أنّ على القادة الأمريكيين تجاهل الرأي العام أو الانخراط في مغامرة عسكرية مثل تلك التي أضعفت موقف البلاد في العقود الأخيرة. لكن من حق الناخبين معرفة الحقيقة... والحقيقة هي أن المصلحة الذاتية لأمريكا تتطلب أيضًا أن تُظهر الدولة ولاءً كبيرًا لحلفائها، وتتخذ غالبًا قرارات مؤلمة لإحباط مخططات أخطر القوى في العالم، من خلال القيام بما هو ضروري، على سبيل المثال، ضمان عدم سيطرة طالبان على أفغانستان وقتل العديد من أقوى الاوفياء لأمريكا.
   حتى بعد الصور الدراماتيكية من كابول، سيستمر العديد من الناخبين الأمريكيين في تجاهل هذا الارتباط.
 لكنه درس يجب أن يتذكره قادة أمريكا إذا أرادوا تجنب المزيد من الإذلال الذي يمثل خطورة على المستقبل.
-------------------------
أستاذ العلوم السياسية في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور. من مؤلفاته كتاب “الشعب ضد الديمقراطية»