نظام سياسي عفا عليه الزمن:

الأوهام الضائعة لأمريكا الديمقراطية...!

الأوهام الضائعة لأمريكا الديمقراطية...!

-- قد تكون عودة الحزب الديمقراطي للسلطة في يناير الماضي مجرد سراب
-- الوضع الراهن يناسب الحزب الجمهوري تمامًا ويخدم دونالد ترامب
-- لقد تحول الحزب الديمقراطي إلى تيار سياسي يستهدف حصريا جمهور الناخبين الميسورين
-- يضاعف الحزب الجمهوري المعارك الثقافية، ويعجز الديمقراطيون على الرد وعكس الهجوم


   في بحث نُشر في أكتوبر، تساءل محللان فرنسيان عما إذا لا يزال بإمكان المعسكر الديمقراطي التأثير على سياسة الولايات المتحدة.
   الانتصار على دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، واختطاف الأغلبية بصعوبة جدا في مجلسي الكونجرس، واللقاحات المتوفرة بأعداد كبيرة وللجميع، الانتعاش الاقتصادي، وانخفاض حاد في معدل البطالة، والحد من فقر الطفولة، وتقدم تشريعي مهمّ: بعد أربع سنوات مضطربة تخللتها أزمة صحية كبيرة وهجوم على مبنى الكابيتول، أصبح لدى أمريكا الديمقراطية أخيرًا ما تحتفل به وتطمئن اليه. وفي كل الاحوال، هذا هو شعور أولئك الذين يتأمّلون الواجهة ولكنهم لا يدخلون المبنى.

 فـــــي الداخـــــل، هنــــاك المزيـــــد والمزيــد من الشـــــروخ، وأســــاسات في حالة متقدمة من التداعي.
منهكة، يهاجمها حزب جمهوري ذو ميول سلطوية، ومحاصرة من قبل جماعات ضغط قوية، وتنهشها نظريات المؤامرة، أصبحت الديمقراطية الأمريكية محاصرة.
وفي هذا السياق، قد تكون عودة الحزب الديمقراطي للسلطة في يناير الماضي مجرد سراب، أو في أفضل الأحوال، الأمل الأخير في تجديد ديمقراطي.
 وبعد عام واحد من الانتخابات الرئاسية، قام كريستوف لو باوتشر وكليمان بيرو، المتخصصان في الولايات المتحدة، بالوصول الى هذه الملاحظة في كتابهما “الأوهام الضائعة لأمريكا الديموقراطية”، الذي صدر 14 أكتوبر 2021 عن منشورات فنديميار.

لنجعل السلطوية
 عظيمة مرة أخرى
     كان بإمكان دونالد ترامب إحباط التوقعات والفوز بولاية ثانية لو لم يصرّ على إنكار خطورة الأزمة الصحية الى درجة اثارة السخرية منه في عدة مرات خلال خطاباته.
   عاجز على ارتداء زي أب الأمة وإظهـــــار التعاطــــف، لجأ المليارديــــر النيويوركـــي مـــــرة أخــــــرى إلى الافراط والمزايـــــدة في محاولــــــــة لإخفــــاء عدم كفاءته.
 لكن الرئيس الخامس والأربعين، لم يحسن هذه المرة، قياس حجم الصدمة المرتبطة بعواقب الوباء على الشعب الأمريكي.
   مدركا أنه بصدد التراجع، اختار دونالد ترامب تملق أسوأ نظريات المؤامرة ليتجنّب القيام بمراجعة جذرية قد يرى فيها هجوما على كبريائه ورجولته، ولكن على المستوى الانتخابي، كانت ستؤتي ثمارها.
 وطيلة عدة أشهر، كان مقتنعًا باتهام الديمقراطيين -دون دليل -بتنظيم عملية تزوير ضخمة في الانتخابات.

 وقبل إعلان الفوز ليلة 3 نوفمبر، نظم معركة قانونية سخيفة بهدف الحصول على اعتراف بما لا يزال يعتبره الى اليوم “كذبة كبرى».
   وبما أن هذا الهجوم غير المسبوق على الديمقراطية الأمريكية انتهى بالفشل، فقد استغل الرئيس مكانته كرمز محافظ لدفع مؤيديه لغزو مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021، يوم التصديق على نتائج الانتخابات.
   وبعد الهروب من المساءلة بفضل جبن الحزب الجمهوري، الذي تعرض لضغوط شديدة، قام دونالد ترامب منذئذ بسطو سلطوي وشامل على عائلته السياسية، مبعدا واحدًا تلو الآخر، جميع المعارضين الداخليين من أجل تعبيد الطريق لمحاولة تمرد جديدة في صورة الفشل عام 2024.
   والأسوأ من ذلك، أن توالي الأكاذيب قد غُرس داخل الناخبين الجمهوريين، الى درجة أن الكثير منهم يعتبر جو بايدن رئيسًا غير شرعي.
   إن فشل الستين استئنافًا في المحاكم، ورفض المحكمة العليا الذهاب في اتجاه ترامب، لم يغيّرا شيئًا.

نظام سياسي
 عفا عليه الزمن
   في بلد مشهور بمؤسساته القوية والعريقة، يبدو هذا الوضع غير مفهوم.
ومع ذلك، أصبح كل هذا ممكنًا بفضل نظام سياسي أصبح، إلى حد كبير، في غير صالح الديمقراطيين، لأنه لم يأخذ في الاعتبار التطورات الجغرافية والديمغرافية في العقود الماضية.
   ورغم أن برنامجهم يحظى بدعم ضئيل، إلا أن الجمهوريين يستمدون منه فائدة لا يمكن إنكارها.
“إنهم في طريقهم لاحتكــــار السلطة لعقد من الزمان، مع انهم يدافعون عن المصالـــــح الاقتصاديــــــة للأوليغارشية بدعــــــــــم أقليــــــــــــة من الناخبـــــــين”، يوضــــــــــح كريستوف لو باوتشـــــر.

   قوي في الولايات الأقل كثافة سكانية وفي المناطق الريفية، يصمد الحزب القديم الكبير، (كنية الحزب الجمهوري)، ويحقق انتصارات كبيرة.
 فبفضل المجمّع الانتخابي، تمكن جــورج دبليو بـــوش ودونالد ترامب من الوصول إلى البيت الأبيض بأصوات أقل من معارضيهما.
فرغم خسارته بأكثر من 8 ملايين صوت عام 2020 أمام جو بايدن، كان بإمكان ترامب الفوز بـ 50 ألف صوت إضافي فقط موزعة على أربع ولايات رئيسية.

   وبفضل تركيبة مجلس الشـــــــيوخ (مقعدين لكــــــل ولاية)، يتمتع الجمهوريون بقـــــــدرة تنافســــــية عالية ويفوزون بانتظام بالأغلبية.
يتمتع سكان وايومنغ البالغ عددهم 600 ألف نسمة، بنفس الوزن السياسي الذي يتمتع به سكان كاليفورنيا البالغ عددهم 40 مليون نسمة.
 هذا هو السبب في أن الديمقراطيين يسيطرون الآن على مجلس الشيوخ بصوت واحد، رغم أن السيناتورات الديمقراطيين يمثلون عشرات الملايين من السكان أكثر من نظرائهم الجمهوريين.
   أضف إلى ذلك إجراء العرقلة البرلمانية، التي تتطلب ستين صوتًا للالتفاف عليها، بالإضافة إلى الثقل السياسي لجماعات الضغط، ونفهم حينها سبب تسمية مجلس الشيوخ الأمريكي بالمقبرة التشريعية. يصعب في مثل هذه الظروف تحريك الخطوط، وتقليل التفاوتات، والعمل من أجل المناخ، وتنظيم حمل السلاح، وحماية حق التصويت، أو إدانة الرئيس الذي حرّض أنصاره على مهاجمة معبد الديمقراطية الأمريكية. ان الوضع الراهن يناسب الحزب الجمهوري تمامًا ويخدم حركة دونالد ترامب.

لأمريكا الديمقراطية
 ما يدعو للذعر
   إن المصيدة تغلق ببطء ولكن بثبات على الديموقراطيين. في الولايات التي يسيطر عليها، يضاعف الحزب الجمهوري، زاعما محاربة التزوير الانتخابي، مشاريع القوانين لتقييد وصول الأقليات والطبقات الشعبية إلى التصويت.
 في نفس الوقت، تبدو عملية التلاعب بالدوائر الانتخابية، وهي عملية إعادة توزيع انتخابية تحدث كل عشر سنوات بعد التعداد السكاني، أشبه ما تكون بذبح حزبي متطرف.

 وقد تحكم على الديمقراطيين بخسارة مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي المقبلة.
   وبمساعدة جيدة من قبل وسائل الإعلام المحافظة، يضاعف الحزب الجمهوري المعارك الثقافية من خلال المغالاة أو اختلاق الذعر الأخلاقي من عدم، عبر إدانة “الووكي” و”نظرية العرق النقدي”، ونتيجة لكل هذا تفاقمت الانقسامات بين الأمريكيين.
   في مواجهة ذلك، يبدو أن الديمقراطيين عاجزون على الرد وعكس الهجوم. “بعد الإخفاق في تنفيذ الإصلاحات المؤسسية الضرورية، حسب تحليل كريستوف لو باوتشر، سيتعين على جو بايدن أن يفوز بفارق كبير في انتخابات التجديد النصفي ليأمل في الاحتفاظ بأغلبية”. إنها مهمة باتت أكثر تعقيدًا بعد أن تخلى عن أقسام كاملة من برنامجه خلال العملية التشريعية التي ستؤدي إلى التصويت على مشروعه الاستثماري الكبير “إعادة البناء بشكل أفضل».

   إن تصنيف الحزب الجمهوري باعتباره الجاني الوحيد سيكون غير عادل. بعد التخلي عن الإرث السياسي لفرانكلين روزفلت وليندون جونسون طيلة عدة عقود، يجد الديمقراطيون صعوبة لإعادة الطبقة العاملة والشعبية الأساسية في الولايات الرئيسية إليهم.
 ومن خلال المراهنة بكل شيء على الجانب المجتمعي، وعلى جزء متزايد من تصويت الأقليات، تحول الحزب الديمقراطي إلى تيار سياسي يتوجه حصريًا نحو جمهور ناخب حضري ميسور.
   حتى باراك أوباما، الذي أعطى الأمل للمواطن الأمريكي العادي، لم ينجح في عكس هذه الديناميكية. ويبدو أن جو بايدن، الذي تم اختياره في غياب الافضل، أدرك الحاجة إلى تغيير البرامج السياسية.

ولكن، في سياق صعب بشكل خاص، وبدون أذرع حرة في الكونغرس، فإن عمله محدود ويمكن أن يخيّب الآمال.
   ورغم هذه الصورة القاتمة للقوة الاولى في العالم، يظهر بصيص من الأمل. تم تجديد الحركات الاجتماعية وتكييفها مع القرن الحادي والعشرين: في السنوات الأخيرة، تمكنت حركة شروق الشمس، أو حياة السود مهمة، أو مسيرة من أجل حياتنا، أو حتى المسيرة النسائية، من حشد الجماهير لقيادة المعارك السياسية أو التنديد بفشل الحكام. .

   ويمر الحزب الديمقراطي بتغييرات كبيرة: الرغبة في السير على خطى الصفقة الجديدة أو المجتمع الكبير، جيل جديد من الممثلين المنتخبين الملتزمين الموجودين في الكونجرس والهيئات السياسية المحلية، والعديد من المناقشات الاستراتيجية والبرامجية المثيرة.
   هل سيكون كل هذا كافياً لمواجهة العاصفة الرجعية القادمة؟ ألم تتخلف أمريكا الديمقراطية كثيراً عن الركب؟ أسئلة، في الوقت الحالي دون إجابة، تستحق أن تُطرح وتسمح لنا بالتفكير في مستقبل الولايات المتحدة، منارة العالم الغربي، التي تنتهي تطوراتها دائمًا بعبور المحيط الأطلسي والتأثير على القارة العجوز.