الثقافة التونسية تودع مبدعا كبيرا ووزيرا استثنائيا

الثقافة التونسية تودع مبدعا كبيرا ووزيرا استثنائيا

ودعت تونس  بداية الأسبوع الجاري رجل الإبداع والفكر ووزير الثقافة المؤسس الأسبق “1981-1986” الأستاذ البشير بن سلامة عن عمر ناهز 92 سنة.
الراحل الكبير أضاء سنوات هذا العمر المديد بعطاء فكري وأدبي تدفق إلى أن أوقفه الموت الفاجع. وتميزت مسيرته بعطاء آخر خَلُدَ به وزيرا استثنائيا للثقافة  ، على امتداد خمس سنوات  ، أسس خلالها منجزات رائدة ضلت تضيء الثقافة التّونسية ومؤسساتها إلى اليوم . والرّاحل المُميز هو كذلك أحد المناضلين الوطنيين لدولة الاستقلال ضمن مجموعة الأوفياء للزعيم الخالد الحبيب بورقيبة على غرار الشاذلي القليبي ومحمود المسعدي وأستاذه الأبرز وصديقه الأقرب الراحل محمد مزالي، ولم يمنعه كل هذا الزخم من النشاط الوطني والنضال السياسي من تأسيس نهر الإبداع الذي تجاوز أكثر من 20 عملا في المقالة والقصة والرواية والتحقيق والترجمة ورئاسة تحرير المجلات وتأسيس النوادي والجمعيات الثقافية فكيف يمكن إذا تقديم هذه الشخصية الاستثنائية وهي ترحل عن دنيانا إلى العالم الأرحب الآخر.


مٌفرد بصيغة الجمع
يمكن وصف البشير بن سلامة بأنه مفرد بصيغة الجمع توزعت أعماله في مجالات عديدة في دروب الإبداع والحياة.
 وبالعودة إلى البدايات نقول ولد البشير بن سلامة بإحدى ضواحي العاصمة التونسية في أسرة كثيرة العدد أصيلة الساحل التونسي يوم 14 أكتوبر 1931 وقد حرص والده الضابط بالجيش الفرنسي على تعليم جميع أبنائه وتربيتهم تربية وطنية وزاول الراحل مراحل تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي والعالي بالعاصمة التونسية ليتخرج سنة 1959 مجازا في اللغة والآداب العربية  . وبالتوازي كان شغفه كبيرا بالمسرح والسينما والصحافة بحكم تردده مع والده على أحد النوادي الأدبية والذي يعرف في الثقافة التونسية “بمقهى تحت السور” بالحي الشعبي للعاصمة “باب سويقة” ،  وهو مقهى اتخذته جماعة تحمل إسمه هي جماعة تحت السور تتألف من أدباء وصحفيين وفنانين ورسامين كانت لهم مواقف تقدمية رائدة من القضايا السياسية والاجتماعية التي شغلت بال الرأي العام التونسي طيلة الثلاثينيات والأربعينيات وإلى غاية الحرب العالمية الثانية  . وقد اشتهر من بين رواد هذا النادي المقهى أبو القاسم الشابي والطاهر الحداد ومصطفى خريف ومحمود بيرم التونسي وعبد العزيز العروي والهادي الجويني وغيرهم من أعلام الفن والأدب والثقافة ويجمع نقاد ودارسو مسيرة البشير بن سلامة على أهمية تردده على هذا المقهى في تكوين ميول وملامح شخصيته التي ستَنْحَتُ مكانة مرموقة لها في مستقبل الثقافة التونسية والنضال الوطني

المناضل الوطني
منذ الوهلة الأولى التي تعرف فيها الشاب البشير بن سلامة على الزعيم الحبيب بورقيبة خلال زيارته لمدينة قصور الساف  ، مسقط رأس العائلة  ، سنة 1950 ثم ثانية بالعاصمة في الأيام الأولى من سنة 1952 في اجتماع شعبي عقده الزعيم بورقيبة فور عودته من باريس لعرض تطور المفاوضات التونسية الفرنسية الخاصة بالاستقلال وتحشيده الجماهير للكفاح المسلح إثر الرد السلبي الرسمي لفرنسا ممثلة في وزير خارجيتها “روبار شومان” والرافض قطعيا لمبدأ استقلال تونس خارج السيادة المزدوجة مما جعل بورقيبة ورفاقه يعلنون الكفاح المسلح لتشتعل شرارة ثورة يناير 1952 وهي تضل أهم الثورات الوطنية من أجل استقلال البلاد. وانطلاقا من هذه الأحداث ومن تعرفه المباشر على الزعيم بورقيبة بدأت المسيرة النضالية للبشير بن سلامة.

محمد مزالي و المنعرج الحاسم
تعتبر شخصية محمد مزالي أبرز الشخصيات التي أثرت تأثيرا مباشرا في مسيرة البشير بن سلامة بل لعلها أسست لمنعرج هام في حياته ، فقد كان مزالي أستاذا للفلسفة  للبشير بن سلامة بالمدرسة الصادقية بتونس العاصمة وهو العائد من فرنسا من جامعة السربون حاملا للإجازة في الفلسفة، وتوطدت العلاقة بين التلميذ والأـستاذ لتصبح حميميّة ممتدة دون انقطاع ، متميزة بوفاء نادر للتلميذ تجاه أستاذه  ، وقد اثمرت هذه العلاقة في بداياتها التأسيس المشترك سنة 1955 لمجلة “الفكر” الرائدة التي سيصبح بن سلامة مع تقلد أستاذه لمهام في الدولة رئيسا لتحريرها منذ مطلع الستينات إلى غاية احتجاب المجلة عن الصدور إثر إقالة الأستاذ المزالي من منصبه كوزير أول يوم 8 يوليو 1986.
تميزت كذلك هذه العلاقة الأدبية والفكرية بنضال سياسي وحزبي مشترك ضد الاستعمار الفرنسي بداية ثم في مراحل تأسيس الدولة الوطنية بُعيد الاستقلال سنة 1956 ، وقد شغل الراحل على امتداد سنوات طوال مسؤوليات ومهام كبرى في هذه الدولة الفتية توجت بتقلده لمهام وزارة الثقافة سنة 1981 في حكومة صديقه وداعمه الأستاذ محمد المزالي.

بن سلامة الوزير الاستثنائي
بدأت مسؤوليات البشير بن سلامة كوزير للثقافة مع مطلع العام 1981 لتستمر إلى 1986 وتميزت هذه المسيرة بعطاء استثنائي جعل الوزير من أبرز من تقلدوا مهام هذه الوزارة ولعله أهم وزير بعد الوزير المؤسس الأستاذ الشاذلي القليبي وتبقى منجزاته شاهدة على هذه المسيرة الاستثنائية إلى اليوم ومنها المسرح الوطني التونسي وأيام قرطاج المسرحية والمعهد العالي للموسيقى وصندوق التنمية الثقافية ودار الكتب الوطنية علاوة على مجمل الجوائز التي بعثها في مختلف مجالات الإبداع والعدد الأوفر من المجلات التي تأسست في عهده ومنها  مجلة “شعر” و “فنون “ و “فضاءات مسرحية  “وغيرها، كما كان البشير بن سلامة مؤسسا لمعرض تونس الدولي للكتاب  ،الذي يعتبر من أبرز ما أنجز وفي عهده  ، كذلك خرجت الثقافة التونسية إلى الفضاءات العربية والدولية كما شهدت قطاعات الترجمة والطباعة والنشر ازدهارا لم تشهده من قبل.

البشير بن سلامة الكاتب و المؤلف
تميزت شخصية البشير بن سلامة علاوة على نضاله الوطني وزخم مسؤولياته السياسية والإدارية بعطائه في مجالات الفكر والإبداع الذي لم ينقطع إلى الأشهر الأخيرة من حياته. لقد تنوع هذا العطاء الغزير في فنون شتى للقصة والرواية والمسرح والمقالة والترجمة ومن أهم مؤلفاته  ترجمته بالاشتراك مع أستاذه وصديقه محمد المزالي “ تاريخ إفريقيا الشمالية “ لشارل أندري جوليان (1969) و “سليمان القانوني “ لأندري كلو (1991) ومن أعماله الباقية كتابه  “ اللغة العربية ومشاكل الكتابة “ (1971) وروايته  “ “عائشة (1982)  .وقد تلت هذه الرواية ثلاثيته  “عادل  “ و “الناصر “  و “عابرة هي الأيام  « .
اهتم البشير بن سلامة  أيضا بدراسة مقومات وخصائص الشخصية التونسية وبالنظرية التاريخية وأبعادها في الكفاح التحريري التونسي وله من الأعمال مُصنفه  “نظرية التطعيم الإيقاعي في اللغة العربية “ و “السياسة الثقافية في تونس”، ويمكن القول أن مذكراته التي صدرت في مجلدين بعنوان “وعابرة هي الأيام” (1914) قد توجت مجمل أعماله التي تجاوزت العشرين عملا والتي طبعت ونشرت وتوزعت في تونس وفي عواصم عربية عديدة مما جعل صاحبها مرجعا أساسا في واقع ومكونات الثقافة التونسية.

بورقيبة و حساسيته إزاء بن سلامة
رغم نجاحاته في مجمل المسؤوليات التي تقلدها في العهد البورقيبي فإن المجاهد الأكبر ، كما كان يناديه التونسيون ،  الحبيب بورقيبة كانت له علاقة غير عادية بوزيره للثقافة لكون هذا الأخير ،  كما يقول المقربون من بورقيبة  ، يُذكِره كل ما رآه بغريمه في السياسة والنضال صالح بن يوسف نظرا للشبه الفيزيولوجي بينهما  .
 كذلك لم تسلم هذه الشخصية المتميزة بعد رحيل المزالي إلى المنفى  ،بداية من 1986 ،
 من ظلم تعرض له في العهدي البورقيبي واستمر مع  حكم بن علي وذلك بسبب وفائه منقطع النظير لصديقه وأستاذه محمد مزالي  ،ولكن الرجل ظل على هذا الوفاء معتكفا في بيته مشغولا بأعماله الفكرية رغم ما تعرض له من إقصاء وضغوط وحرمان من حقه المكتسب في العيش والحياة ويذكر مقربون له أنه ظل على هذا الوفاء للزعيم الوطني بورقيبة ولصديقه الشخصي المزالي إلى آخر ايامه كما لم تنقطع علاقته بدائرة أصدقائه المقربين والذين أسسوا معه اتحاد الكتّاب وأثثوا بعطائهم مجلة الفكر التي كان يرأس تحريرها ..سيظل ذكر البشير بن سلامة  خالدا في الثقافة التونسية بمآثره ومنجزاته التي أعطاها لهذه الثقافة  ، ولبلاده تونس  ، التي أحبها وأسهم في تحريرها من الاستعمار ومن الجهل ونشر صورتها وإبداعها في أصقاع كثيرة من العالم.

Daftar Situs Ladangtoto Link Gampang Menang Malam ini Slot Gacor Starlight Princess Slot
https://ejournal.unperba.ac.id/pages/uploads/sv388/ https://ejournal.unperba.ac.id/pages/uploads/ladangtoto/ https://poltekkespangkalpinang.ac.id/public/assets/scatter-hitam/ https://poltekkespangkalpinang.ac.id/public/assets/blog/sv388/ https://poltekkespangkalpinang.ac.id/public/uploads/depo-5k/ https://smpn9prob.sch.id/content/luckybet89/