رئيس الدولة ومحمد بن راشد يبحثان جهود تعزيز التنمية الوطنية والازدهار الذي يحققه الاقتصاد الوطني
من العولمة إلى تفتّت العالم:
الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين...!
إن القرن الحادي والعشرين يسير على قدم وساق، ولكن سيكون من المجازفة تحديد آفاقه على المدى المتوسط والطويل. في بحث يثير العديد من الأسئلة بقدر ما يقدم إجابات، يحاول جان ماري جيهينو المغامرة. المؤلف، مساعد الأمين العام السابق للأمم المتحدة، والأستاذ في جامعة كولومبيا في نيويورك، في موقع جيد لقياس تغيّر العالم، واستخلاص النتائج اللازمة.
أوهام 1989
أدرك جان ماري جينو لأول مرة الأخطاء الجوهرية لجميع المراقبين، بمن فيهم هو نفسه، في تفسير أحداث عام 1989. وقد أعطى السقوط المذهل للكتلة السوفياتية ونهاية الحرب الباردة، انطباعًا خاطئًا عن الأمن للغرب: انتصرت الديمقراطية الليبرالية في العالم، وانفتح عصر سلام وازدهار من شأنه أن يسمح للأنظمة السلطوية، وحتى الصين، بالتطور نحو نظام تعددي وسلمي. وقد تغاضى هذا العمى غير المسؤول، عن الصدمات الرئيسية الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفياتي، والتحذير الذي وجهته الحكومة الصينية خلال الحملة الدموية على احتجاج تيان آن مين.
وأدت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 والحروب التي تلتها، إلى وضع حد لهذا التفاؤل الذي كان مبنياً على أوهام فقط. مع نهاية الحرب الباردة، تلاشى تماسك الغرب وحلفائه الأفارقة والآسيويين. وفي كل مكان شهد تماسك الدول، الذي نعرف إلى أي مدى يساهم في تناغم العلاقات الدولية، شكلاً من أشكال التآكل. إننا نشهد انتصار الفردية، فرد يرفض كل الحركات الجماعية.
إنه يسعى إلى مصلحته الشخصية فقط، ولم تعد تعنيه مواقف الأحزاب التي تشكل مع ذلك العمود الفقري للديمقراطيات الغربية، وتقدم المشاريع الجماعية للناخبين المسؤولين عن الاختيار بين هذه المقترحات المختلفة: “وبما ان الإطار الفكري الذي يؤطر النقاش السياسي انهار، لم يعد للناخبين في الديمقراطيات بوصلة توجّههم. وفجأة، أصبح المال اللغة المشتركة لجميع السلطات، سواء في روسيا والصين، أو في الدول الغربية.
انتصار الفرد
هذا التقدم للفردانية تحفّزه بقوة الثورة الرقمية. في فصل بعنوان “من جوتنبرج إلى الإنترنت”، يستحضر المؤلف أعمال السنوات الأخيرة التي تؤكد التأثير السياسي الحاسم للشبكات الاجتماعية.
تستخدم هذه الأخيرة البيانات المقدمة لها مجانًا من قبل المواطنين لتحفيز شغفهم بشكل أفضل. وكلما كانت الرسائل استفزازية أكثر، حصلت على رضا مستخدمي الإنترنت وقبولهم.
وبعيدًا عن تعزيز الإجماع وتعبئة الأفراد لقضايا تتعلق بالصالح العام، تشجع المنصات الرقمية المواقف المتطرفة، والتصريحات الفاحشة، وانتشار المجتمعات المنغلقة والبغيضة. إن انتخاب ترامب عام 2016 هو خير مثال على هذه الحالة، كما ان نجاحات الأنظمة السلطوية في أوروبا وآسيا تشير إلى نفس الاتجاه. ففي كل مكان، يتفوّق عنف الخطاب الذي يعبّئ متصفحي الإنترنت على حوار سلمي يميل إلى الزوال. “لقد أصبحت الديمقراطية الحديثة عملية، وآلة لاختيار القادة، ومن الواضح أن هذه الآلة تعمل بشكل سيء للغاية».
بين غافا والصين
يحاول جان ماري جيهينو تقييم عواقب هذه الاضطرابات على المستوى الجيوسياسي. إنه يتساءل عن الخيار الدراماتيكي الذي قد يُفرض على الغرب، المطالب بالتحكيم بين غافا والصين. في كلتا الحالتين، شهدنا ولادة قوى، شركات مثل غوغل أو فيسبوك، أو دول، مثل الصين، تحاول الهيمنة على العالم بفضل التحكم الحصري في البيانات. هناك صراع كبير، مختلف تمامًا عن الحرب الباردة، يلوح في الأفق بين عمالقة كلهم أمريكيين وصين، أقوى بكثير وأكثر شراسة من الاتحاد السوفياتي البائد. ويحاول المؤلف بخجل التعبير عن رغبته في أن تخرج أوروبا من خمولها وتدافع عن قيمها بقوة أكبر، دون إقناع حقيقي.
من غير المرجح أن يؤدي هذا الصدام بين الصين والولايات المتحدة، إلى حرب كما عرفناها في القرن العشرين. في المقابل، تتزايد الصراعات منخفضة الحدة ويتواصل الإرهاب. وحسب تعبير المؤلف، “تسللت الحرب إلى السلام”.
والنتيجة السياسية لهذا الوضع، تتمثل في الحاجة المتزايدة لحماية السكان الذين يستمرون في مطالبة الدولة ويريدون العيش في مجتمع خالٍ من المخاطر. من هنا، فإن التمييز بين الجغرافيا السياسية والسياسة الداخلية يتلاشى. فالإرهاب يأتي في آن واحد من مكان آخر ومن هنا، وتتعثّر الحكومات، التي أضعفتها هذه التهديدات الآتية من كل مكان، في إرضاء جمهور تزداد المطلبية عنده وبات أقل ثقة في طبقته السياسية.
ومع ذلك، فإن هذه الصورة الواضحة والمتشائمة، تترك القارئ على جوعه. يبدو أن جان ماري جيهينو قد جرفته الاضطرابات التي يصفها، والتي تشير جميعها إلى اتجاه عالم مفتّت وعنيف، مختلف تمامًا عن المشهد المتجمد لعصر الحرب الباردة وعصر الهيمنة الأمريكية. لكنه يحاول، في الفصول الأخيرة من الكتاب، رسم مسارات تغيير لإنقاذ الديمقراطية التقليدية المعرضة للخطر.
وفي مواجهة تجاوزات الولايات المتحدة التي لم تخرج حقًا من عهد ترامب، والصين التي تجمع بين النجاح الاقتصادي والسيطرة الأكثر إحكامًا على مواطنيها، يؤمن المؤلف بدور لأوروبا. إنه يعترف أنها تبدو في بعض النواحي كمستعمرة أمريكية لأنها سجينة التوجهات الثقافية والتجارية ما وراء الأطلسي، وهي تأثيرات تعززها قوة المنصات الرقمية الكبيرة المنتشرة في القارة العجوز دون أي منافسة حقيقية. كما يؤكد أيضا عدم قدرة أوروبا على رسم حدودها من الشرق، مما يجعلها كلًا غير متجانس، مع خطوط غير واضحة، وهو ما يتناقض مع العمالقة الأمريكيين أو الصينيين.
دور أوروبا
ومع ذلك، يعتقد جان ماري جيهينو، أنه يمكن لأوروبا أن تؤكد ذاتها بفضل تنظيمها المتفرد، بشرط ألا تقدم نفسها كنموذج وتحترم تاريخ المجتمعات الوطنية الأخرى في آسيا أو إفريقيا. إنه يتخذ موقفا واضحا ضد مشروع اتحاد أوروبي مركزي نسبيا مع شكل من أشكال حكومة. ومن وجهة نظره، من المثالية تصوّر أنّ الدول الأوروبية يمكن أن توافق، كما كان الحال في الولايات المتحدة، على التخلي عن جزء كبير من سيادتها لصالح سلطة مخولة لاتخاذ القرار نيابة عنها. ويشدد على أنه: “لا ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يرى استمرار وجود فسيفساء من الدول القومية على أنه فشل بل دليل على نجاحه وعلامة على الحكمة. «
المناقشات الأخيرة داخل أوروبا حول التعدي على حقوق الدول، والدور الذي تعتبره بعض الهيئات القضائية الأوروبية مسيئًا، تنصف حذر جان ماري جيهينو. ومع ذلك، يمكن التساؤل عن قدرة الكل، الذي يعترف بطبيعته المتباينة، على الدفاع عن مواقف يصعب تحديدها وتعريفها في مواجهة دول -قارة مثل الصين والولايات المتحدة، أو مع العمالقة الرقميين الذين لديهم موارد وثروة بلد كبير.
في النهاية، دعوة جان ماري غيهينو من أجل التعددية التي من شأنها أن تكون دواء لانتصار الفرد الذي “بجعل كل واحد منا مركز العالم ويقذفنا بين العدمية والتعصب”، تجد صعوبة في أن تقنع.
ان هذا الكتاب المحفز، الذي تغذّيه خبرة طويلة لموظف دولي واجه الصراعات الرئيسية لعالم متداعٍ، يستمد قيمته من استحضاره للواقع المزعج اليوم، أكثر من الاقتراحات، السخية بالتأكيد، الداعية الى حكمة الجماعات السياسية التي “يجب أن تظل متعددة، وأن تعترف بداخلها بالشرعيات المتنافسة”، وهي مقترحات لا تحظى بفرصة تذكر في أن يتبناها الحكام على جانبي الأطلسي.
جان ماري جيهينو، “القرن الحادي والعشرون الأول، من العولمة إلى تفتّت العالم”، فلاماريون، 2021
*الرئيس السابق لـ “ويست فرانس ملتيميديا” والأستاذ السابق في كلية الصحافة بمدرسة العلوم السياسية بباريس.