رئيس الدولة والرئيس القبرصي يؤكدان أهمية العمل على ترسيخ أسباب السلام والاستقرار الإقليميين
تعدّدت في مواجهة روسيا:
العقوبات: حرب زهيدة التكلفة لم تنجح أبدًا في التاريخ...!
-- الأمل في إمكانية ظهور حركة ليبرالية جراء إفلاس الاقتصاد الروسي هو رهان محفوف بالمخاطر
-- تقوم العقوبات الاقتصادية على فكرة الحرمان المادي لإحداث التغيير السياسي، لكن المجتمعات البشرية أكثر تعقيدًا من ذلك
-- تبدو العقوبات كوسيلة لإبراز القوة دون تعريض حياة المواطنين أو الجنود للخطر
-- إنها صدمة تاريخية على المستوى السياسي والاقتصادي ولا يستطيع أحد التكهن بعواقبها
-- النتيجة السياسية لهذه الأزمة ستُقرّر على أساس العوامل العسكرية وليس الاقتصادية
في مواجهة غزو روسيا لأوكرانيا، لوّح الغرب، في الوقت الحالي، بورقة العقوبات الاقتصادية والمالية، وأعلن عن سلسلة جديدة منها. سلاح استخدم بانتظام في السنوات الأخيرة، ولا سيما من قبل الولايات المتحدة. المؤرخ والأستاذ بجامعة كورنيل بالولايات المتحدة ومؤلف بحث متميز في منشورات جامعة ييل بعنوان “السلاح الاقتصادي”، نيكولاس مولدر انغمس في تاريخ العقوبات، وملاحظته لا تتزحزح: لم تكن فاعلة أبدًا. *التهديدات التجارية والانتقام موجودة منذ العصور القديمة -حتى أن ثيوسيديدز يتتبع وجودها في الحرب البيلوبونيسية -لكنك تقول إن هذا السلاح الاقتصادي لم يستخدم على نطاق واسع الا زمن الحرب العالمية الاولى... لماذا؟
- علينا أن نعود إلى ما يصنع جوهر حقبة الزمن الجميل. تميزت سنوات ما قبل الحرب بالعولمة والاعتماد المتبادل المتزايد للاقتصادات. وهذا الترابط بالتحديد هو الذي سيدفع الحلفاء، في بداية الصراع، إلى شن حرب اقتصادية أخرى هذه المرة، وغير مسبوقة ضد ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية. وبضغط من فرنسا والمملكة المتحدة، أقام الحلفاء حصارًا، وعرقلوا تدفق السلع والطاقة والغذاء والمعلومات إلى أعدائهم. وكانت التداعيات على أوروبا الوسطى والشرق الأوسط في غاية الخطورة، حيث مات مئات الآلاف من الجوع والمرض.
اكتشفوا حينها أن الحظر سلاح قوي للغاية.
في نهاية الحرب، عند انعقاد مؤتمر السلام عام 1919، كانت هذه التجربة هي مُلهمة المنتصرين. كما أنها أثرت على عصبة الأمم الجديدة حتى أن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، أكد أن أداة العقوبات هي “أداة أقوى من الحرب المسلحة”.
إلا أن أعضاء عصبة الأمم غيروا هدفها، الذي يضع نظرية جديدة:
العقوبات الاقتصادية لم تعد سلاحًا، مثل أي سلاح آخر في الصراع، ولكنها وسيلة لمنع الحرب... وبعد عشرين عامًا، أشعل هتلر النار في أوروبا ...
*ما أوجه الشبه التي ترسمها بين عام 1920 واليوم؟
- لم تكن عصبة الأمم معنية باحترام حقوق الإنسان، ولم تكن مهتمة بالليبرالية أو القيم الديمقراطية، كانت مهتمة فقط بسلامة الحدود وحرمة المعاهدات. وهذا هو السبب في أن استخدام العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا اليوم لوقف هذه الحرب في أوكرانيا هو قريب جدًا في النهاية من الهدف الذي تخيّلته عصبة الأمم.
*تذكر أيضًا أنه عندما غزت إيطاليا موسوليني الفاشية إثيوبيا عام 1935، تم فرض العديد من العقوبات الاقتصادية، دون فرملة الدوتشي...
غالبًا ما يتم تفسير الحرب الإيطالية الإثيوبية على أنها هزيمة للأممية في مواجهة الفاشية والإمبريالية. انهار سلاح الردع الاقتصادي عندما خاطرت إيطاليا الفاشية بالمواجهة بغزو إثيوبيا عام 1935.
وللمرة الأولى، تم فرض العقوبات الاقتصادية، وفقًا للمادة 16 من ميثاق عصبة الأمم.
الا أن بيير لافال ورئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن، كانا خائفين من أن تؤدي العقوبات المدمرة، على وجه الخصوص، إلى حرب في شمال إفريقيا.
لذلك اختارا مسار الاستجابة التدريجية.
ويشبه إلى حد ما ما يفعله بايدن اليوم مع روسيا.
راهنت عصبة الأمم على أن كعب أخيل الإيطالي هو رصيدها الضئيل نسبيًا من احتياطاتها من العملات الأجنبية والذهب لدفع ثمن وارداتها.
لذلك كان القرار قطع محرك الصادرات الإيطالية. قطعت ثلاثة أرباع دول العالم معظم علاقاتها التجارية مع شبه الجزيرة. لكن هذه الإجراءات بطيئة للغاية بحيث تعذر تنفيذها. لقد فشلوا في زعزعة استقرار نظام بينيتو موسوليني وإنقاذ إثيوبيا من الغزو والاحتلال. وراء هذا المثال، فإن مسألة معايرة العقوبات هي الرهان. إنه أمر في غاية الصعوبة، ويكاد يكون حالة بحالة ولا توجد قواعد.
قد تنتج بعض العقوبات آثارها في هذا البلد وليس في بلد آخر.
*اليوم، في مواجهة غزو أوكرانيا، يبدو أن العقوبات هي الخيار الوحيد المطروح على الطاولة للدول الغربية.
كيف تفسرون ذلك؟
- إنه سؤال جيد. يبدو الأمر كما لو أننا لم نتعلم دروس التاريخ حقًا.
ويرجع ذلك إلى عوامل اقتصادية في العالم، فضلاً عن عوامل سياسية في الغرب. لقد سئم الرأي العام في الدول الغربية التدخلات العسكرية: يكفي أن نرى كيف غادرت الولايات المتحدة أفغانستان. وهكذا تبدو العقوبات كوسيلة لإبراز القوة دون تعريض حياة المواطنين أو الجنود للخطر، إنه شكل من أشكال القوة السياسية زهيدة التكلفة.
من جهة اخرى، فإن العولمة المالية وتداخل اقتصاداتنا، تجعلان من الممكن استخدام قنوات متعددة:
إعادة تمويل الديون، والحصار التكنولوجي، والطاقة، وأصول البنوك في الخارج.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن استخدام الدولار كرادع سهل للغاية بالنظر إلى دور المال في النظام الاقتصادي الحالي.
ومع ذلك، كمـــــا أوضحت، فإن بطاريـــــــات العقوبات هذه، في السنوات الأخيرة، كانت أكثر وأكثر عــــــددًا، وأقـــــل وأقل فاعلية ...
نعم وهذا صحيح جدا. الشفافية هي أحد أسباب هذا التناقض. عندما تتخذ دولة أو مجموعة من الدول إجراءات قسرية ضد دولة أخرى، يرى الجميع النتائج. لقد طورت على مر السنين مدونة “ممارسات جيدة” للالتفاف عليها. فدول مثل روسيا، والصين، وأيضًا كوريا الشمالية، وإيران، وأفغانستان، وكوبا، قد أنشأت نوعًا من نادي “المعاقبين” الذين يمكنهم مساعدة بعضهم البعض. استفادت فنزويلا من النفط الإيراني، ويمكن استخدام العملة الصينية بدلاً من الدولار.
السبب الثاني لفقدان فعالية السلاح الاقتصادي، يتعلق بمسألة مصداقية الفعل ذاته. عندما لا يكون لدولة ما أمل حقيقي في رفع العقوبات، فلماذا تغيّر سلوكها؟ هذا هو حال إيران اليوم.
لا يمكن للولايات المتحدة أن تعد برفع موثوق للعقوبات، لأن الجمهوريين قد يفوزون في انتخابات عام 2024. وحتى إذا توسط بايدن في صفقة مع إيران، فإن انتخابات عام 2024 قد تحمل الى البيت الابيض رئيسًا أمريكيًا سيدمر هذه المعاهدة مرة أخرى، مثلما فعل ترامب. وبالتالي فالمشكلة هي قدرة الغرب، والذي يجب أن يكون في نفس الوقت براغماتيا ومحترما لالتزاماته.
*كانت روسيا خاضعة لعقوبات اقتصادية منذ عام 2014. هل ساعدت هذه الإجراءات؟
- من المهم التمييز بين التأثيرات الاقتصادية والفعالية السياسية. كانت الآثار الاقتصادية لهذه العقوبات حقيقية: منذ عام 2014، أدت إلى إبطاء نمو الاقتصاد الروسي وإضعاف العملة. ودخل المواطن الروسي العادي في حالة ركود. لكن روسيا تكيّفت، ووجدت احتياطيات مالية وفيرة، وروجت للزراعة ذات الاكتفاء الذاتي، وابتكرت وسائل بديلة للدفع.
ليست كل الدول قادرة على التكيّف مع العقوبات، لكن هذه ظاهرة لوحظت كثيرًا في الماضي. فعلت كوريا الشمالية ذلك، وفي مواجهة الحظر الدولي في ظل نظام الفصل العنصري والتهديد بنقص النفط، قامت جنوب إفريقيا بتصنيع النفط على نطاق واسع من الفحم، وهي عملية طورتها ألمانيا النازية. خصوصا، من وجهة نظر سياسية، كانت هذه العقوبات عديمة الفائدة تمامًا -بل إنها جاءت بنتائج عكسية.
*تقول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إنهما يريدان ضرب روسيا بشدة. ما أنواع العقوبات التي تعتقد أنها ستكون الأكثر فعالية؟
- أعتقد أن النتيجة السياسية لهذه الأزمة ستُقرّر على أساس العوامل العسكرية وليس الاقتصادية. وهذا أمر مأساوي حقًا. أنا قلق للغاية، لأن الروس بدأوا الحرب بوضوح، وسوف يريدون الفوز بأكبر قدر ممكن.
عند نقطة معيّنة، ربما يتوقفون ويستأنفون المفاوضات، ويقدمون تنازلات ما من أجل تخفيف العقوبات.
إنه تخميني. لكن في الوقت الحالي، ما يمكن أن يوقف بوتين حقًا، أي عزل روسيا عن بقية العالم، سيكون مدمرًا جدا بالنسبة لأوروبا بحيث يبدو من المستحيل تطبيقه سياسيًا. إن قطع كل تدفق للنفط والغاز سيكون له تأثير بلا شك، لكنه مؤلم للغاية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وخاصة بالنسبة لألمانيا وإيطاليا، اللتين تعتمدان بشدة على روسيا... دون الحديث عن التضخم.
إذا قمت بإخراج الإنتاج الروسي من سوق الهيدروكربون العالمي، فسوف يرتفع سعر النفط بشكل كبير، مما سيكون له تأثير اقتصادي ضخم. لقد نجح الرئيس إيمانويل ماكرون في استعادة الاقتصاد الفرنسي بنسبة 7 بالمائة عام 2021، وهو بلا شك أكثر تفاؤلاً. لكن تخيل العواقب السياسية للارتفاع الحاد في أسعار الطاقة، التي تعاني اصلا من ضغوط. لقد رأينا، مع أزمة السترات الصفراء، ما يمكن أن يؤدي إليه هذا اجتماعيا.
لا شك في أن بعض العقوبات فعالة على المدى الطويل، مثل حرمان روسيا من أشباه الموصلات. لكن هذا لن يكون له آثار فورية.
لذلك فأنا متشائم للأسف بشأن هذه العقوبات المعلنة. بالطبع علينا أن نفعل كل شيء مع بوتين، لكنه سيكون مؤلمًا جدا بالنسبة لنا. إنها صدمة تاريخية على المستوى السياسي والاقتصادي ولا يستطيع أحد التكهن بعواقبها.
*من خلال عزل روسيا، الا نخاطر بإعادة توحيد الشعب الروسي حول نظام بوتين؟
- كان هذا هو الحال عام 2014، لكن لدي انطباع بأن الروس اليوم يشككون أكثر فأكثر في فكرة الحرب. تم قمع احتجاجات صغيرة، ومن المرجح أن تنخفض شعبية بوتين.
لكن السؤال كيف يمكن لهذا الاستياء وخيبة الأمل لدى المواطن الروسي العادي، أن يضعا حداً للنظام، مع العلم أن الانتخابات لم تعد تؤدي إلى تغيير الحكومة.
أنا أعارض بشدة بوتين، لكن التاريخ علمنا أيضًا أن عواقب الثورة في روسيا يمكن أن تكون خطيرة، وأنها لا تسير دائمًا في الاتجاه الذي يريده الغرب. في كل الاحوال، للمساعدة في نمو حركة مناهضة للحرب في روسيا، من المهم الحفاظ على التواصل مع السكان المدنيين، ومساعدة أولئك الذين يحتاجون إلى اللجوء للغرب.
ربما لا يكون إثارة أزمة اقتصادية خطيرة هو أفضل وسيلة لدعم هذه الحركات ولا حقوق الإنسان بشكل عام في هذا البلد. إن الأمل في إمكانية ظهور حركة ليبرالية جراء إفلاس الاقتصاد الروسي هو رهان محفوف بالمخاطر.
*استهداف الأوليغارشية الروسية ومنعها من التمتع بأصولها في أوروبا، هل يمكن أن ينجح؟
- الخبراء الروس منقسمون حول هذا الموضوع. يعتقد البعض أن الأوليغارشية يمكن أن تمارس ضغوطًا على بوتين. في حين يعتقد البعض الآخر أن نظام بوتين هو سياسة أولاً، ثم اقتصاد لاحقا.
لقد رأينا أنه لم يتردد في معاقبة ميخائيل خودوركوفسكي وغيره من الأوليغارش الليبراليين. إن نظرته للعالم تتمحور حول الأمن، وحتى الأوليغارش هم مجرد أتباع له. لديه جيش قوي، والمليارديرات لا يملكون سوى المال واليخوت والفيلات في موناكو.
*خلاصة كتابك أن السجل التاريخي للعقوبات الاقتصادية ليس إيجابيا...
- العقوبات الاقتصادية ليست فقط وسيلة للديمقراطيات الليبرالية لاستغلال موقعها في الاقتصاد العالمي، بل هي أيضًا عملية إسقاط لقيمها. نأمل في كثير من الأحيان أن تفكر الدول الأخرى بنفس الطريقة المادية التي نفكر بها، مع مراعاة المكاسب والخسائر. إنه منطق نفعي للغاية. نقول لأنفسنا أننا إذا هددنا الدول بخسائر كبيرة محتملة، فإنها ستفعل ما نريد، ولكن غالبًا ما يتناقض التاريخ مع هذه الرؤية الخاصة بالإنسان الاقتصادي.
الدول مثل الأفراد لا تتبع دائمًا منطقًا عقلانيًا، ولديها أيضًا نخوة وطنية وتماسك ثقافي ودوافع أيديولوجية ويمكن أن تصبح متطرفة.
البضائع المادية ليست هدفها الوحيد. أعتقد أن هذا ضعف نظري متأصل في العقوبات الاقتصادية التي تقوم على فكرة أن كل ما يتطلبه الأمر هو الحرمان المادي لإحداث التغيير السياسي، الا ان المجتمعات البشرية أكثر تعقيدًا من ذلك.
*إذن أنت متشائم جدا ...
- أقول أنا واقعي. عندما تنظر إلى التاريخ، ترى أن العقوبات الاقتصادية هي أدوات معقدة للغايـــة يجب التعامل معها بعناية على أساس كل حالة على حدة.
وفي كل الأحوال، لا ينبغي أن تحل محل العلاقات الدبلوماسية... فإلى جانب الدبلوماسية، يمكن للعقوبات أن تؤدي إلى نتائج، لكن في كثير من الحالات، يُطلب منها الكثير.
-- تقوم العقوبات الاقتصادية على فكرة الحرمان المادي لإحداث التغيير السياسي، لكن المجتمعات البشرية أكثر تعقيدًا من ذلك
-- تبدو العقوبات كوسيلة لإبراز القوة دون تعريض حياة المواطنين أو الجنود للخطر
-- إنها صدمة تاريخية على المستوى السياسي والاقتصادي ولا يستطيع أحد التكهن بعواقبها
-- النتيجة السياسية لهذه الأزمة ستُقرّر على أساس العوامل العسكرية وليس الاقتصادية
في مواجهة غزو روسيا لأوكرانيا، لوّح الغرب، في الوقت الحالي، بورقة العقوبات الاقتصادية والمالية، وأعلن عن سلسلة جديدة منها. سلاح استخدم بانتظام في السنوات الأخيرة، ولا سيما من قبل الولايات المتحدة. المؤرخ والأستاذ بجامعة كورنيل بالولايات المتحدة ومؤلف بحث متميز في منشورات جامعة ييل بعنوان “السلاح الاقتصادي”، نيكولاس مولدر انغمس في تاريخ العقوبات، وملاحظته لا تتزحزح: لم تكن فاعلة أبدًا. *التهديدات التجارية والانتقام موجودة منذ العصور القديمة -حتى أن ثيوسيديدز يتتبع وجودها في الحرب البيلوبونيسية -لكنك تقول إن هذا السلاح الاقتصادي لم يستخدم على نطاق واسع الا زمن الحرب العالمية الاولى... لماذا؟
- علينا أن نعود إلى ما يصنع جوهر حقبة الزمن الجميل. تميزت سنوات ما قبل الحرب بالعولمة والاعتماد المتبادل المتزايد للاقتصادات. وهذا الترابط بالتحديد هو الذي سيدفع الحلفاء، في بداية الصراع، إلى شن حرب اقتصادية أخرى هذه المرة، وغير مسبوقة ضد ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية. وبضغط من فرنسا والمملكة المتحدة، أقام الحلفاء حصارًا، وعرقلوا تدفق السلع والطاقة والغذاء والمعلومات إلى أعدائهم. وكانت التداعيات على أوروبا الوسطى والشرق الأوسط في غاية الخطورة، حيث مات مئات الآلاف من الجوع والمرض.
اكتشفوا حينها أن الحظر سلاح قوي للغاية.
في نهاية الحرب، عند انعقاد مؤتمر السلام عام 1919، كانت هذه التجربة هي مُلهمة المنتصرين. كما أنها أثرت على عصبة الأمم الجديدة حتى أن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، أكد أن أداة العقوبات هي “أداة أقوى من الحرب المسلحة”.
إلا أن أعضاء عصبة الأمم غيروا هدفها، الذي يضع نظرية جديدة:
العقوبات الاقتصادية لم تعد سلاحًا، مثل أي سلاح آخر في الصراع، ولكنها وسيلة لمنع الحرب... وبعد عشرين عامًا، أشعل هتلر النار في أوروبا ...
*ما أوجه الشبه التي ترسمها بين عام 1920 واليوم؟
- لم تكن عصبة الأمم معنية باحترام حقوق الإنسان، ولم تكن مهتمة بالليبرالية أو القيم الديمقراطية، كانت مهتمة فقط بسلامة الحدود وحرمة المعاهدات. وهذا هو السبب في أن استخدام العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا اليوم لوقف هذه الحرب في أوكرانيا هو قريب جدًا في النهاية من الهدف الذي تخيّلته عصبة الأمم.
*تذكر أيضًا أنه عندما غزت إيطاليا موسوليني الفاشية إثيوبيا عام 1935، تم فرض العديد من العقوبات الاقتصادية، دون فرملة الدوتشي...
غالبًا ما يتم تفسير الحرب الإيطالية الإثيوبية على أنها هزيمة للأممية في مواجهة الفاشية والإمبريالية. انهار سلاح الردع الاقتصادي عندما خاطرت إيطاليا الفاشية بالمواجهة بغزو إثيوبيا عام 1935.
وللمرة الأولى، تم فرض العقوبات الاقتصادية، وفقًا للمادة 16 من ميثاق عصبة الأمم.
الا أن بيير لافال ورئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن، كانا خائفين من أن تؤدي العقوبات المدمرة، على وجه الخصوص، إلى حرب في شمال إفريقيا.
لذلك اختارا مسار الاستجابة التدريجية.
ويشبه إلى حد ما ما يفعله بايدن اليوم مع روسيا.
راهنت عصبة الأمم على أن كعب أخيل الإيطالي هو رصيدها الضئيل نسبيًا من احتياطاتها من العملات الأجنبية والذهب لدفع ثمن وارداتها.
لذلك كان القرار قطع محرك الصادرات الإيطالية. قطعت ثلاثة أرباع دول العالم معظم علاقاتها التجارية مع شبه الجزيرة. لكن هذه الإجراءات بطيئة للغاية بحيث تعذر تنفيذها. لقد فشلوا في زعزعة استقرار نظام بينيتو موسوليني وإنقاذ إثيوبيا من الغزو والاحتلال. وراء هذا المثال، فإن مسألة معايرة العقوبات هي الرهان. إنه أمر في غاية الصعوبة، ويكاد يكون حالة بحالة ولا توجد قواعد.
قد تنتج بعض العقوبات آثارها في هذا البلد وليس في بلد آخر.
*اليوم، في مواجهة غزو أوكرانيا، يبدو أن العقوبات هي الخيار الوحيد المطروح على الطاولة للدول الغربية.
كيف تفسرون ذلك؟
- إنه سؤال جيد. يبدو الأمر كما لو أننا لم نتعلم دروس التاريخ حقًا.
ويرجع ذلك إلى عوامل اقتصادية في العالم، فضلاً عن عوامل سياسية في الغرب. لقد سئم الرأي العام في الدول الغربية التدخلات العسكرية: يكفي أن نرى كيف غادرت الولايات المتحدة أفغانستان. وهكذا تبدو العقوبات كوسيلة لإبراز القوة دون تعريض حياة المواطنين أو الجنود للخطر، إنه شكل من أشكال القوة السياسية زهيدة التكلفة.
من جهة اخرى، فإن العولمة المالية وتداخل اقتصاداتنا، تجعلان من الممكن استخدام قنوات متعددة:
إعادة تمويل الديون، والحصار التكنولوجي، والطاقة، وأصول البنوك في الخارج.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن استخدام الدولار كرادع سهل للغاية بالنظر إلى دور المال في النظام الاقتصادي الحالي.
ومع ذلك، كمـــــا أوضحت، فإن بطاريـــــــات العقوبات هذه، في السنوات الأخيرة، كانت أكثر وأكثر عــــــددًا، وأقـــــل وأقل فاعلية ...
نعم وهذا صحيح جدا. الشفافية هي أحد أسباب هذا التناقض. عندما تتخذ دولة أو مجموعة من الدول إجراءات قسرية ضد دولة أخرى، يرى الجميع النتائج. لقد طورت على مر السنين مدونة “ممارسات جيدة” للالتفاف عليها. فدول مثل روسيا، والصين، وأيضًا كوريا الشمالية، وإيران، وأفغانستان، وكوبا، قد أنشأت نوعًا من نادي “المعاقبين” الذين يمكنهم مساعدة بعضهم البعض. استفادت فنزويلا من النفط الإيراني، ويمكن استخدام العملة الصينية بدلاً من الدولار.
السبب الثاني لفقدان فعالية السلاح الاقتصادي، يتعلق بمسألة مصداقية الفعل ذاته. عندما لا يكون لدولة ما أمل حقيقي في رفع العقوبات، فلماذا تغيّر سلوكها؟ هذا هو حال إيران اليوم.
لا يمكن للولايات المتحدة أن تعد برفع موثوق للعقوبات، لأن الجمهوريين قد يفوزون في انتخابات عام 2024. وحتى إذا توسط بايدن في صفقة مع إيران، فإن انتخابات عام 2024 قد تحمل الى البيت الابيض رئيسًا أمريكيًا سيدمر هذه المعاهدة مرة أخرى، مثلما فعل ترامب. وبالتالي فالمشكلة هي قدرة الغرب، والذي يجب أن يكون في نفس الوقت براغماتيا ومحترما لالتزاماته.
*كانت روسيا خاضعة لعقوبات اقتصادية منذ عام 2014. هل ساعدت هذه الإجراءات؟
- من المهم التمييز بين التأثيرات الاقتصادية والفعالية السياسية. كانت الآثار الاقتصادية لهذه العقوبات حقيقية: منذ عام 2014، أدت إلى إبطاء نمو الاقتصاد الروسي وإضعاف العملة. ودخل المواطن الروسي العادي في حالة ركود. لكن روسيا تكيّفت، ووجدت احتياطيات مالية وفيرة، وروجت للزراعة ذات الاكتفاء الذاتي، وابتكرت وسائل بديلة للدفع.
ليست كل الدول قادرة على التكيّف مع العقوبات، لكن هذه ظاهرة لوحظت كثيرًا في الماضي. فعلت كوريا الشمالية ذلك، وفي مواجهة الحظر الدولي في ظل نظام الفصل العنصري والتهديد بنقص النفط، قامت جنوب إفريقيا بتصنيع النفط على نطاق واسع من الفحم، وهي عملية طورتها ألمانيا النازية. خصوصا، من وجهة نظر سياسية، كانت هذه العقوبات عديمة الفائدة تمامًا -بل إنها جاءت بنتائج عكسية.
*تقول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إنهما يريدان ضرب روسيا بشدة. ما أنواع العقوبات التي تعتقد أنها ستكون الأكثر فعالية؟
- أعتقد أن النتيجة السياسية لهذه الأزمة ستُقرّر على أساس العوامل العسكرية وليس الاقتصادية. وهذا أمر مأساوي حقًا. أنا قلق للغاية، لأن الروس بدأوا الحرب بوضوح، وسوف يريدون الفوز بأكبر قدر ممكن.
عند نقطة معيّنة، ربما يتوقفون ويستأنفون المفاوضات، ويقدمون تنازلات ما من أجل تخفيف العقوبات.
إنه تخميني. لكن في الوقت الحالي، ما يمكن أن يوقف بوتين حقًا، أي عزل روسيا عن بقية العالم، سيكون مدمرًا جدا بالنسبة لأوروبا بحيث يبدو من المستحيل تطبيقه سياسيًا. إن قطع كل تدفق للنفط والغاز سيكون له تأثير بلا شك، لكنه مؤلم للغاية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وخاصة بالنسبة لألمانيا وإيطاليا، اللتين تعتمدان بشدة على روسيا... دون الحديث عن التضخم.
إذا قمت بإخراج الإنتاج الروسي من سوق الهيدروكربون العالمي، فسوف يرتفع سعر النفط بشكل كبير، مما سيكون له تأثير اقتصادي ضخم. لقد نجح الرئيس إيمانويل ماكرون في استعادة الاقتصاد الفرنسي بنسبة 7 بالمائة عام 2021، وهو بلا شك أكثر تفاؤلاً. لكن تخيل العواقب السياسية للارتفاع الحاد في أسعار الطاقة، التي تعاني اصلا من ضغوط. لقد رأينا، مع أزمة السترات الصفراء، ما يمكن أن يؤدي إليه هذا اجتماعيا.
لا شك في أن بعض العقوبات فعالة على المدى الطويل، مثل حرمان روسيا من أشباه الموصلات. لكن هذا لن يكون له آثار فورية.
لذلك فأنا متشائم للأسف بشأن هذه العقوبات المعلنة. بالطبع علينا أن نفعل كل شيء مع بوتين، لكنه سيكون مؤلمًا جدا بالنسبة لنا. إنها صدمة تاريخية على المستوى السياسي والاقتصادي ولا يستطيع أحد التكهن بعواقبها.
*من خلال عزل روسيا، الا نخاطر بإعادة توحيد الشعب الروسي حول نظام بوتين؟
- كان هذا هو الحال عام 2014، لكن لدي انطباع بأن الروس اليوم يشككون أكثر فأكثر في فكرة الحرب. تم قمع احتجاجات صغيرة، ومن المرجح أن تنخفض شعبية بوتين.
لكن السؤال كيف يمكن لهذا الاستياء وخيبة الأمل لدى المواطن الروسي العادي، أن يضعا حداً للنظام، مع العلم أن الانتخابات لم تعد تؤدي إلى تغيير الحكومة.
أنا أعارض بشدة بوتين، لكن التاريخ علمنا أيضًا أن عواقب الثورة في روسيا يمكن أن تكون خطيرة، وأنها لا تسير دائمًا في الاتجاه الذي يريده الغرب. في كل الاحوال، للمساعدة في نمو حركة مناهضة للحرب في روسيا، من المهم الحفاظ على التواصل مع السكان المدنيين، ومساعدة أولئك الذين يحتاجون إلى اللجوء للغرب.
ربما لا يكون إثارة أزمة اقتصادية خطيرة هو أفضل وسيلة لدعم هذه الحركات ولا حقوق الإنسان بشكل عام في هذا البلد. إن الأمل في إمكانية ظهور حركة ليبرالية جراء إفلاس الاقتصاد الروسي هو رهان محفوف بالمخاطر.
*استهداف الأوليغارشية الروسية ومنعها من التمتع بأصولها في أوروبا، هل يمكن أن ينجح؟
- الخبراء الروس منقسمون حول هذا الموضوع. يعتقد البعض أن الأوليغارشية يمكن أن تمارس ضغوطًا على بوتين. في حين يعتقد البعض الآخر أن نظام بوتين هو سياسة أولاً، ثم اقتصاد لاحقا.
لقد رأينا أنه لم يتردد في معاقبة ميخائيل خودوركوفسكي وغيره من الأوليغارش الليبراليين. إن نظرته للعالم تتمحور حول الأمن، وحتى الأوليغارش هم مجرد أتباع له. لديه جيش قوي، والمليارديرات لا يملكون سوى المال واليخوت والفيلات في موناكو.
*خلاصة كتابك أن السجل التاريخي للعقوبات الاقتصادية ليس إيجابيا...
- العقوبات الاقتصادية ليست فقط وسيلة للديمقراطيات الليبرالية لاستغلال موقعها في الاقتصاد العالمي، بل هي أيضًا عملية إسقاط لقيمها. نأمل في كثير من الأحيان أن تفكر الدول الأخرى بنفس الطريقة المادية التي نفكر بها، مع مراعاة المكاسب والخسائر. إنه منطق نفعي للغاية. نقول لأنفسنا أننا إذا هددنا الدول بخسائر كبيرة محتملة، فإنها ستفعل ما نريد، ولكن غالبًا ما يتناقض التاريخ مع هذه الرؤية الخاصة بالإنسان الاقتصادي.
الدول مثل الأفراد لا تتبع دائمًا منطقًا عقلانيًا، ولديها أيضًا نخوة وطنية وتماسك ثقافي ودوافع أيديولوجية ويمكن أن تصبح متطرفة.
البضائع المادية ليست هدفها الوحيد. أعتقد أن هذا ضعف نظري متأصل في العقوبات الاقتصادية التي تقوم على فكرة أن كل ما يتطلبه الأمر هو الحرمان المادي لإحداث التغيير السياسي، الا ان المجتمعات البشرية أكثر تعقيدًا من ذلك.
*إذن أنت متشائم جدا ...
- أقول أنا واقعي. عندما تنظر إلى التاريخ، ترى أن العقوبات الاقتصادية هي أدوات معقدة للغايـــة يجب التعامل معها بعناية على أساس كل حالة على حدة.
وفي كل الأحوال، لا ينبغي أن تحل محل العلاقات الدبلوماسية... فإلى جانب الدبلوماسية، يمكن للعقوبات أن تؤدي إلى نتائج، لكن في كثير من الحالات، يُطلب منها الكثير.