ساهم في كسر قواعد السياسة التقليدية

الـ «كافاليري» رائد الشعبوية والمُطيح بماريو دراجي

الـ «كافاليري» رائد الشعبوية والمُطيح بماريو دراجي

- مهدت تلفزيوناته الأرضية للشعبوية بمساعدتها على هدم الأخلاق العامة وخفض المستوى الثقافي العام للبلاد: الخبز والألعاب ...
- طبع مردوخ الأوروبي بعمق المشهد السياسي والثقافي الإيطالي من خلال تجسيد شكل من الترامبية قبل وقتها
- مثل دونالد ترامب وقبله بفترة طويلة، ساهم سيلفيو برلسكوني إلى حد كبير في كسر قواعد السياسة التقليدية
- برلسكوني: «أقرب أصدقائي وعائلتي ... عارضوا دخولي السياسة»


   بعد ثلاثين عامًا من دخوله السياسة، طبع “مردوخ الأوروبي” بعمق المشهد السياسي والثقافي الإيطالي من خلال تجسيد شكل من “الترامبية قبل وقتها”. يعتبر أحد الثلاثة الذين “أسقطوا” ماريو دراجي، ويمكنه أن يلعب دورًا رئيسيًا في الائتلاف الجديد الناتج عن الانتخابات المبكرة في 25 سبتمبر.   في اجتماع امتدّ ثلاث وعشرون ساعة... في 4 نوفمبر 2011، اكتشف باراك أوباما مذهولًا ما عليه العائلة الأوروبية الكبرى في قصر المهرجانات في مدينة كان. مناخ من التراجيديا اليونانية: إيطاليا على حافة الهاوية، وقرر نيكولا ساركوزي وكريستين لاغارد، المدير العام لصندوق النقد الدولي آنذاك، الضغط على سيلفيو برلسكوني. “إيطاليا ليست ذات مصداقية...  لقد كانت كريستين لاغارد عنيفة جدا”، هذا ما قاله رئيس المفوضية الأوروبية السابق خوسيه مانويل باروسو.

بالنسبة لسيلفيو برلسكوني، رئيس الحكومة ثلاث مرات من 1994 إلى 2011، اقتربت ساعة النهاية. بالتأكيد، انه تمكن من الهروب من إذلال قرض من صندوق النقد الدولي، في أعقاب الأزمة اليونانية، الا ان عهد الـ “كافاليري” في قصر شيغي لم ينج من الاختبار. في 12 نوفمبر، بعد ثمانية أيام فقط من انعقاد قمة مجموعة العشرين في مدينة كان، سيطالب رئيس الجمهورية الإيطالية، جورجيو نابوليتانو، برحيله عن رئاسة الحكومة الإيطالية، ليحل محله ماريو مونتي، الملقب بـ “سوبر ماريو”. وهكذا ماتت البرلسكونية، ولم يمت الـ “كافاليري”. بل هو بعد اثنين وعشرين عامًا، ها هو جاهز للانتقام من خلال تسريع سقوط ماريو دراجي، رغم أنف أوروبا.

من الاعمال إلى السياسة
   «لم أحب السياسة أبدًا... أنا لست سياسيا محترفا. أنا رجل أعمال”، صرح بذلك، بعد الكارثة، المؤسس السابق لـ “فورزا إيطاليا” لمن سيستمع إليه، ان لم يكن ... للذين رأوه يخطب في مناضلي “يمين الوسط”، عندما ولد حزبه عام 1994، ثم أثناء ظهور التحالف الكبير “كاسا ديلي ليبيرتا” “بيت الحريات” عام 2000، مقولات خاطئة تمامًا. ومهما كانت دوافعه الأولية، لحماية نفسه من الإجراءات القانونية و”عصابة القضاة” الإيطاليين، فإن الـ “كافاليري” أصيب بفيروس السياسة بشكل واضح، حتى أنه أصبح الرائد بلا منازع للموجة الأولى من الشعبوية الحكومية في أوروبا، قبل فترة طويلة من دونالد ترامب في الولايات المتحدة.
   «أقرب أصدقائي وعائلتي ... نصحوني بألا أدخل عالم السياسة. كان الجميع ضد هذه الخطوة. وعارضت والدتي ذلك بشدة”، يبوح سيلفيو برلسكوني لكاتب سيرته الذاتية آلان فريدمان “طريقي”، منشورات ميشيل لافون، 2015».
   بعد ما يقرب من ثلاثين عامًا من دخوله عالم السياسة، يجد “مردوخ الأوروبي” صعوبة في رمي المنديل وخلع القفازات. بالنسبة لأستاذ العلوم السياسية غايل بروستيه، عضو مرصد الراديكالية السياسية التابع لمؤسسة جان جوريس، مثل دونالد ترامب وقبله بفترة طويلة، ساهم سيلفيو برلسكوني إلى حد كبير في كسر قواعد السياسة التقليدية.
   إن أوجه التشابه بين الرجلين ملفتة للنظر: كلاهما جنى ثروته في البداية في مجال العقارات، أحدهما في ضواحي ميلانو والآخر في نيويورك. ظهر الاثنان في أوقات أزمات عالمية، وقدما نفسيهما على أنهما رجلا العناية الإلهية من خلال الإحالة إلى شعارات وطنية تاريخية، “المعجزة الإيطالية الجديدة”، بالنسبة لسيلفيو برلسكوني، وعهد ريغان لدونالد ترامب.  وخصوصا، اعتمد كل منهما بشكل كبير على قوة التلفزيون لتأسيس نفوذهما. بطريقة ما، عبّد رائد البرامج الحوارية الذي قلب المشهد الإعلامي الإيطالي إلى حد كبير، الطريق لرائد تلفزيون الواقع.

«قيصر الشعبوية»
   أكثر من ذلك: “يعمل برلسكوني وترامب بنفس الطريقة: جملة، تعبير جدلي مشاكس يستقطب الاضواء عليهما، وينسف في كل مرة ما يبدو أنه إجماع في الحياة السياسية والاجتماعية حتى ذلك الحين. وبدعوى التحدث لأغلبية صامتة، فهما يحددان شروط المناقشة، حتى لو لم تكن ذات أهمية كبرى، أو ليست حاسمة بالنسبة للبلد”، يلاحظ الباحث غايل بروستيه «*».
  في بحثه عن “زمن الدولة-المؤسسة” “فايارد، 2019”، يذهب عالم الاجتماع الفرنسي بيير موسو، المتخصص في سان سيمون، إلى أبعد من ذلك: بالنسبة له، يجسد سيلفيو برلسكوني “المخلوق الرائد”، أول من قدم هذه الشخصية الجديدة لـ “رئيس-رجل أعمال”، الذي سيلهم لاحقًا دونالد ترامب وإيمانويل ماكرون، كل على طريقته الخاصة، من خلال تجسيد شكل من “القيصرية الشعبوية».
   «هذا صحيح، برلسكوني كان أول ترامبي... انه أول من لعب على شرعية الملياردير العصامي مقارنة بالشرعية السياسية التقليدية، يوافق أستاذ العلوم السياسية إيف ميني، أحد أفضل المتخصصين في الشعبوية في أوروبا، ومؤلف كتاب ‘الديمقراطيات المنقوصة’، معهد العلوم السياسية بباريس “2019”، لكنه لا يخفي أيضًا خصوصيات ظاهرة برلسكوني، التي استفادت إلى حد كبير من انهيار الديمقراطية المسيحية، وبشكل أعم، الطبقة السياسية التقليدية القديمة. بطريقة ما، تاريخيًا، تبيّن أن برلسكوني هو “نتاج مغشوش لديمقراطية فاسدة، غير فعالة، تحتضر».

السلطة الرابعة
   بالتأكيد أن “ سوا إيميتنزا” “أول كنية تاريخية له، مزيج من جلالة ومرسل” انطلق لأول مرة في السياسة لحماية إمبراطوريته السمعية والبصرية ميدياسيت-فينفاست. وأفضل طريقة للدفاع هي الهجوم. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن ينسى أنه أنشأ إمبراطوريته التلفزيونية من خلال الاستفادة من ثغرة للاستيلاء على قنوات التلفزيون المحلية من أجل إحداث شبكة وطنية، ناهيك عن “الفوز بالجائزة الكبرى” لإنشاء ميلانو 2 على أرض غير حضرية في ضواحي العاصمة اللومباردية.
   في النهاية، تمكّن الـ “كافاليري” من الاستفادة من عملية “الأيدي النظيفة” التي كان هدفها تفكيك نظام الفساد الذي أثر على جميع الأحزاب السياسية في أوائل التسعينات. وقد لعب بمهارة على انهيار النظام من خلال انتقاد جميع المؤسسات الإيطالية والبيروقراطية والخدمات الضريبية والتقاليد السياسية. حتى لو كان ذلك يعني نسيان تأثير “معلمه” التاريخي في السياسة، بيتينو كراكسي، الزعيم السابق للحزب الاشتراكي الإيطالي الذي كان اشتراكيًا بالاسم فقط، وأنهى أيامه في تونس، بعد إدانته بخمس سنوات سجنا بتهمة الفساد والتمويل غير المشروع للأحزاب. وحتى الثعلب الذكي مثل فرانسوا ميتران، اغرته الابتسامة المدمرة لـ “سوا إيميتنزا” أثناء إطلاق أول قناة خاصة في فرنسا، الخامسة، في فبراير 1986، مع الملياردير الفرنسي، جيروم سيدو.
   بعد ثلاثين عامًا، أصبح الإرث السياسي للـ “كافاليري” أكثر من هش. فحيث يمكن أن نتوقّع شكلاً من أشكال الاضطراب الإيجابي من رجل أعمال ناجح، فإن السجل أكثر من هزيل من حيث الإصلاحات الهيكلية، ناهيك عن مكافحة البيروقراطية ... أو التهرب الضريبي.
 “لقد مهدت أجهزة تلفزيونه الخاصة الطريق للشعبوية من خلال المساعدة في هدم الأخلاق العامة، وخفض المستوى الثقافي العام للبلد: الخبز والألعاب ...»
   «عموما، سجله كارثي: لقد قاتل بالخصوص من اجل حماية مصالحه الذاتية، وحصاده صفر فيما يتعلق بالإصلاحات الهيكلية”، يحكم بصرامة إيف ميني، “لأنه حتى القنوات التلفزيونية العامة بدأت تعمل على غرار النموذج البرلسكوني”. ومن أهم فضائله التاريخية: دعمه لترشيح ماريو دراجي لرئاسة البنك المركزي الأوروبي، عشية مغادرته، عام 2011. ولكن بعد عام ونصف من دعم تعيينه كرئيس للوزراء، طعنه اليوم مع “أصدقاء موسكو».

الـ “كافاليري” يعود إلى صهوته
   حتى الآن، عمل البطريرك بشكل أساسي على القضاء، بالتعاقب، على خلفائه المحتملين مع استثناء ملحوظ لـ “فتاة الاستعراض” السابقة، مارا كارفاغنا. فقط الرئيس السابق للحكومة، ماتيو رينزي، ولويجي دي مايو، الذي انفصل مؤخرا عن حركة 5 نجوم في يونيو 2022، يسبحان بصعوبة في “مستنقع الوسط”. لكن الوريثة الروحية الحقيقية لسيلفيو برلسكوني التي يمكن أن تحمل شعلة الـ “كافاليري” على اليمين، هي جيورجيا ميلوني، وزيرة الشباب السابقة “عام 2008”، التي تترأس الآن حزب فراتيلي دي إيطاليا اليميني المتطرف، الذي أصبح واحدا من القوتين الرئيسيتين مع الحزب الديمقراطي.
   على أي حال، إن سيلفيو برلسكوني، البالغ من العمر 85 عامًا، بعيد كل البعد عن قول كلمته الأخيرة على الساحة السياسية ولا على الأزمة الأخيرة.
   غداة استقالة ماريو دراجي في مواجهة ابتزاز حركة 5 نجوم، أصدر مع صديقه ماتيو سالفيني، في إعلان مشترك صدر من سردينيا في 17 يوليو، “نهاية ميثاق الثقة الذي دعّم دراجي”.
ولم يتردد في تشكيل تحالف مع حزب فراتلي ديتاليا اليميني المتطرف بزعامة جيورجيا ميلوني “وزيرة الشباب السابقة في 2008”،
 ورابطة ماتيو سالفيني في ضوء الانتخابات المبكرة المقبلة المقرر إجراؤها في 25 سبتمبر، دون استبعاد تقديم ترشّحه لمجلس الشيوخ.
 ومرشحهم لـ “بالاسيو شيغي”، قصر الحكومة، يمكن أن يكون الرئيس السابق للبرلمان الأوروبي، أنطونيو تاجاني، مخلوق برلسكوني 100 بالمائة. خلال ثلاثة أسابيع، امتطى الـ “كافاليري” مجددا صهوته... أمام دهشة أوروبا كلها...
------------------------------
«1» غايل بروستيه “هكذا غيّر ترامب وبرلسكوني حياتنا السياسية” ، سليت اف ار، 18 مارس 2021.