التوبيخ من بوش إلى بايدن

المأساة الأفغانية والتفكير السحري...!

المأساة الأفغانية والتفكير السحري...!

- السياسة الخارجية بعيدة كل البعد عن العلم الدقيق والاستراتيجية العسكرية كذلك
- من الواضح أن مسؤولية الدراما الحالية تقع على عاتق جميع الإدارات التي تعهدت صراعًا مسدودًا
- في معظم الحالات، لا توجد طريقة أنيقة لخسارة الحرب ولا لكسبها، وهذه الحرب لن تكون استثناء
- تأتي الانتقادات الأكثر غرابة من المسؤولين الجمهوريين المنتخبين


  خروج الولايات المتحدة من أفغانستان مأساة، لكن الانتقاد الذي يكتسح العملية غالبا ما يكون مسألة تفكير سحري.   دعونا نوضح الأمور... يعدّ انسحاب القوات الأمريكية وقوات الحلفاء من أفغانستان مأساة، وسيتعين على إدارة الرئيس بايدن أن تعطي جردة حساب على أي أخطاء قد تكون ارتكبتها في جهودها لتقليص عواقب هذا الخروج الكارثي.   بعد قولي هذا، أشير الى ان الحرب في أفغانستان خُسرت منذ فترة طويلة، وإذا أردنا توزيع التوبيخ على المشاكل التي قامت في الأسابيع القليلة الماضية، فان هذا التوبيخ سيطال الجميع، من بوش إلى بايدن، بما في ذلك أوباما وترامب “دون أن ننسى الحلفاء والحكام الفاسدين الذين تتالوا على حكم أفغانستان».

حرب خُسرت منذ أمد طويل
   لئن تم إحراز تقدم حقيقي في هذا البلد،  غير القابل للحكم، في السنوات الأولى من التدخل العسكري الغربي، فسرعان ما أصبح واضحًا، أن طالبان لن تُهزم، وأن فكرة الدولة-الأمة الموحدة والحديثة على هذه الأرض التي اخترعتها الإمبراطوريات، أرض لم تكن أكثر من مجموعة من المجتمعات المتفرقة، كانت مجرد حلم بعيد المنال.
   لم يتم تحديد المهمة بشكل جيد، ومن الواضح أن خطط الخروج كانت مرتجلة من قبل السلطات العسكرية والمدنية التي لم يكن لديها سوى فكرة غامضة للغاية عن قدرة القوات الأفغانية على مقاومة زحف طالبان.
   وكان امامنا أول الامثلة على هذه المأساة، عندما رأينا أفغانًا يائسين يلاحقون ويتمسكون بطائرات بصدد الاقلاع ليلقوا حتفهم. أصبح الأمر أكثر وضوحا الخميس، عندما أسفر هجوم إرهابي نفذته جماعة مناهضة لطالبان عن مقتل 13 جنديا أمريكيا وأكثر من 150 مدنيا أفغانيا ينتظرون مقاعد نادرة في قافلة جوية للإجلاء.
   ليس مؤكدا أن الآلاف من الأمريكيين الذين ما زالوا هناك سيجدون مكانًا في هذه القوافل في الفترة القصيرة المتفق عليها مع طالبان بعد 31 أغسطس. والأكيد أن عشرات الآلاف من الأفغان الذين يمكنهم المطالبة بشكل شرعي بوضع اللاجئ، سيتم التخلي عن مصيرهم قريبًا.

تسليط الأضواء على بايدن
   يتصاعد النقد الموجه إلى إدارة بايدن من جميع الجهات، ولكن إذا كان حتميا أن فحصا دقيقا لمجمل ما جرى سيؤدي في يوم من الأيام إلى تحديد الأخطاء في إدارة العمليات، فإن معظم هذه الانتقادات تستند إلى أشكال مختلفة من التفكير السحري. ففكرة أنه كان بإمكان الرئيس توقع كل الاحتمالات، وصد كل الهجمات، هي أيضًا فكرة سحرية. ومن الواضح، إذا قارنا الوضع على الأرض بأداء مثالي افتراضي، فسنشعر بخيبة أمل حتمًا.
   بعض الذين يقولون إن مقتل 13 أمريكيًا لا يغتفر، يؤكدون إنه كان من الأفضل للأمريكيين الإبقاء على قواتهم على عين المكان، دون تحديد المدة، كما لو أن طالبان لن تستمر في قطفهم واحدًا تلو الآخر. ويقول آخرون، إن الانسحاب كان يجب أن يتم في وقت سابق، دون تحديد ماهية تدخل العناية الإلهية التي كانت ستضمن سلامة الجميع في تلك التواريخ.
   اما أولئك الذين يزعمون أنه كان على الأمريكيين أن يخططوا للإجلاء عبر عدة مطارات بدلاً من تركيز الجهود على مطار كابول، فانهم يتغاضون عن حقيقة أن هذه الخطوة لن تؤدي إلا إلى زيادة عبء الدفاع عن تلك المواقع النائية.

الحزبية قبل كل شيء
   تأتي الانتقادات الأكثر غرابة من المسؤولين الجمهوريين المنتخبين الذين يفترضون، عمومًا، أنه كان لإدارة ترامب خطة مضمونة لإجراء هذا الانسحاب بسلاسة ودون عوائق. ماذا كانت خطتهم؟ لغز.
   في الواقع، يُنظر على نطاق واسع إلى الصفقة المتسرعة التي أبرمها وزير الخارجية السابق مايك بومبيو مع طالبان، في يناير 2020، على أنها مقدمة للكارثة التي نشهدها اليوم. ويمكن قول نفس الشيء، على الأرجح، عن الانسحاب الضخم للقوات الأمريكية عام 2020، والذي أقلّ ما يقال فيه أنه كان يجب تنسيقه وتنظيمه بطريقة تجعل المغادرة النهائية أقل صعوبة.

     والأمر الأكثر غرابة في انتقاد الجمهوريين لبايدن، هو وعدهم ببدء إجراءات العزل إذا استحوذوا على الأغلبية في مجلس النواب. هل طُلب عزل جيرالد فورد عندما فرّ من سايغون؟ أو رونالد ريغان عقب تفجير بيروت عام 1983؟ هل نحتاج إلى التذكير بأن المؤسسين قد حظروا صراحة استخدام إجراءات الإقالة لمعاقبة الأخطاء أو الإدارة السيئة؟ كما أنه قوي بعض الشيء، الإعلان بأنّ الرئيس بايدن يستحق المساءلة لأنه خسر، بحسب الزعيم الجمهوري كيفن مكارثي، “ثقة الشعب”، في حين أن نسبة تأييده، رغم انخفاضها، لا تزال تتجاوز أعلى درجة حققها سلفه في أربع سنوات (وفق معدل الاستطلاعات).

   كان هناك زمن في الولايات المتحدة تنتهي فيه الصراعات الحزبية على الحدود، ويسود فهم مشترك للمصلحة الوطنية على الحزبية في السياسة الخارجية. تلك الحقبة قد ولت، وكل شيء أصبح موضوعا لتغذية الانقسامات الحزبية.
   من الواضح أن مسؤولية الدراما الحالية تقع على عاتق جميع الإدارات التي تعهدت صراعًا مسدودًا،
 غير ان الجمهوريين لن يوقفهم شيء لتسجيل نقاط سياسية سهلة من خلال التشديد على أن العبء كله يجب أن يتحمله بايدن (وأوباما أيضًا، بالطبع). فهل الضرر الذي لحق بايدن جراء هذه الأزمة لا يمكن إصلاحه؟ من السابق لأوانه معرفة ذلك، لكن من المؤكد أن رهانات أخرى ستتغلب بحلول نوفمبر 2024 في أذهان الناخبين.

انتقادات سهلة
    أخيرًا، هذه الأزمة هي أيضًا فرصة للعديد من المعلقين ليصبّوا جام غضبهم تجاه جميع إجراءات السياسة الخارجية الأمريكية، والتي تعتبر، بحكم تعريفها، سيئة. كما أنه من السهل الإعلان، إثر قر ارات كانت لها عواقب غير منتظرة وغير متوقعة، أن هناك خيارات “عقلانية” كان من الممكن اتخاذها، وكانت ستؤدي إلى تراكم مستمر للنجاح، لو استمع القادة فقط إلى حكمة هؤلاء الخبراء الذين يقدمون لهم اليوم نصائحهم الحكيمة، بعد عقود.

   إن السياسة الخارجية بعيدة كل البعد عن العلم الدقيق، والاستراتيجية العسكرية كذلك. ومن السهل جدًا على خبراء الصالون إلقاء اللوم على القوات الأمريكية في فشل عملية الانسحاب، ولكن عندما نتوقف لنفكر في الأمر قليلاً، فإن حقيقة القدرة على إجلاء ما يقرب من 150 ألف شخص الى اليوم، في ظروف معادية، وحيث من السهل تصور المزيد من السيناريوهات المروعة، يعتبر في حدّ ذاته إنجازا. انه لتخيّل سيناريو يمكن أن يغادر فيه جميع الأجانب والأفغان الراغبين في المغادرة بسلام وأمان، يجب أن نلجأ إلى التفكير السحري.
  وكما قال جنرال الاتحاد، ويليام تيكومسيه شيرمان، عن الحرب الأهلية، “الحرب هي الجحيم”. لا توجد طريقة أنيقة لخسارة الحرب “ولا لكسبها، في معظم الحالات” ... وهذه الحرب لن تكون استثناء.

*أستاذ العلوم السياسية -مركز الدراسات والبحوث الدولية في جامعة مونريال لتنمية المعرفة حول الرهانات الدولية