أوروبا تواجه أزمة وجودية

المعركة الحقيقية في شوارع برلين وباريس وروما لا في كييف

المعركة الحقيقية في شوارع برلين وباريس وروما لا في كييف


منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، بدا المشهد وكأن أوروبا تخوض معركتها الكبرى على أطراف كييف وخاركيف، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا؛ فالمعركة الحقيقية لم تعُد تدور على جبهات القتال الأوكرانية بقدر ما تدور في شوارع برلين وباريس وروما، حيث يتصارع الرأي العام الأوروبي بين الخوف من التورُّط المباشر في الحرب، والرغبة في الدفاع عن مبادئ الأمن القاري.
وبحسب صحيفة «فورين بوليسي»، فإن الأوروبيين يرفعون شعار “السلام عبر القوة”، لكنهم يعيشون تناقضًا واضحًا بين الخطاب السياسي والواقع الشعبي؛ إذ تقول الحكومات إنها تُدافع عن وجود القارة، فيما ينظر المواطن العادي إلى أوكرانيا كأرضٍ بعيدةٍ لا تستحق التضحية بالأبناء، كما أن المشهد في مقاهي باريس أو في محطات المترو ببرلين يعكس بوضوحٍ أن المعركة الكبرى لم تعُد عسكريةً بقدر ما أصبحت سياسية واجتماعية «كيف يُمكن إقناع الأوروبيين بقبول فكرة أن أمنهم يبدأ من كييف؟»
من جهته قال زميل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية رافائيل لوس: «هذا هو السؤال الأساسي»؛ فالأوروبيون لا يُريدون الموت من أجل أوكرانيا».
منذ ثلاث سنوات، ضخّت أوروبا ملياراتٍ من الأسلحة في أوكرانيا، وفرضت حزمًا متكررة من العقوبات، لكنها ظلَّت مترددة في اتخاذ الخطوة الأصعب «إرسال الجنود».
وحتى حين طُرِحت فكرة “القوة الأوروبية الضامنة للسلام”، كان الجواب الشعبي والسياسي في معظم الدول هو الرفض؛ إذ لا أحد يُريد أن يرى توابيت عائدةً من الجبهة، ولا أحد يُريد أن يتحمل كلفة مواجهةٍ مباشرة مع موسكو.
ويرى التقرير أن البرلمان الألماني في برلين يعيش أزمة هوية؛ فألمانيا، التي حملت لعقود إرثًا ثقيلًا من الحرب، تجِد نفسها ممزقةً بين واجب الدفاع عن أوروبا وبين ذاكرةٍ تاريخية تجعل فكرة إرسال الجنود شبه محرمة، كما أن السياسيين الألمان يتحدَّثون عن “التزامات الحلف” و”واجبات الأمن المشترك”، لكن في الشارع الألماني يغلب صوت «لا للحرب مهما كان الثمن»، وهذا الانقسام يُعطِّل القرار ويجعل برلين حبيسة تناقضاتها.
كما أن مدير مكتب بروكسل وخبير الشؤون الروسية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، أندريه هارتل، شدَّد على أن «فكرة إرسال قوات لم تُدرس جيدًا، لا أعتقد أن البرلمان الألماني سيُوافق عليها».
أما في باريس، فالصورة مختلفة لكنها لا تقل تعقيدًا؛ فالرئيس إيمانويل ماكرون يطرح نفسه كزعيمٍ أوروبي قادر على الدفع بفكرة “القوة المستقلة”، لكنه يُواجه معارضةً داخلية واسعة، في الأحياء الشعبية، حيث ارتفاع أسعار الطاقة وغلاء المعيشة يضغطان على الناس، يجِد المواطن الفرنسي صعوبةً في فهم لماذا يجب أن تذهب أمواله أو ربَّما حياة أبنائه إلى حرب خارجية، كما أن كثيرين يرون أن الأولويات يجب أن تكون داخل فرنسا، لا على حدود أوكرانيا.
وبحسب مراقبين فإن هذه الهوة بين الشارع وصناع القرار هي التي تُحدِّد اليوم مستقبل الموقف الأوروبي؛ فالخبراء يتحدثون عن “ائتلاف الراغبين”، وهو تحالفٌ دولي محدود قد يُرسل قواتٍ رمزيةً إلى أوكرانيا، لكن من دون غطاءٍ شعبي واسع، ستظلُّ هذه الفكرة مجرد ورقة ضغطٍ سياسية، وفي الحقيقة تخشى الحكومات الأوروبية ردَّ الفعل الداخلي أكثر من خوفها من ردّ بوتين. الأمر لا يقتصر على السياسة فحسب، بل يمتد إلى البعد الإنساني، وبرغم أن ملايين الأوكرانيين وجدوا ملاذًا في العواصم الأوروبية، لكن التعاطف الشعبي معهم بدأ يفتر.
في البداية، استُقبل اللاجئون بالترحيب والاحتواء، لكن مع مرور الوقت واشتداد الأزمات الاقتصادية، بدأ الأوروبيون ينظرون إلى المسألة بشكلٍ مختلف «إلى أيِّ مدى يمكن استمرار هذا التضامن؟»
وتجدر الإشارة إلى أن الملف الاقتصادي يُعقِّد المعادلة أكثر؛ فأوروبا قلَّصت اعتمادها على الغاز الروسي، لكنها دفعت الثمن بارتفاع أسعار الطاقة، ما جعل النقاش حول أوكرانيا يرتبط مباشرةً بجيوب الناس، وفي المقاهي الباريسية أو المتاجر الألمانية، يُسأل السؤال نفسه «لماذا يجب أن ندفع نحن ثمن حربٍ لا نملك قرارها؟»
المفارقة أن الحديث عن “السلام عبر القوة” أصبح وسيلةً لتأجيل الإجابة عن هذه الأسئلة، فكلُّ حزمة عقوباتٍ جديدة تُقدَّم على أنها خطوةٌ إضافية نحو ردع روسيا، لكن الأرقام على الأرض تقول غير ذلك؛ فروسيا ما زالت صامدة، وأوكرانيا لا تزال تنزف، وبينما تزداد الضغوط الأميركية على الأوروبيين ليتحملوا مسؤولياتهم، يبقى الشارع الأوروبي بعيدًا عن القبول بفكرة التورُّط المباشر.
ونظرًا لأن هذه المعركة معركة شرعية قبل أن تكون معركة دبابات، وإذا لم تفُز الحكومات الأوروبية بقلوب وعقول شعوبها، فلن تستطيع أبدًا أن تخوض حربًا بالوكالة أو بالنيابة، لذلك، فإن مستقبل الحرب لا يُرسَم على حدود أوكرانيا فحسب، بل في انتخابات البرلمان الألماني، وفي احتجاجات باريس، وفي استطلاعات الرأي من وارسو إلى روما.
المشهد إذًا أوضح مما يبدو؛ فإذا سقطت كييف، قد يُواصل الأوروبيون حياتهم كما هي، كما قال أحد الدبلوماسيين، لكن إذا فقدت الحكومات الأوروبية شرعيتَها الداخلية، فلن تُنقذَها أيُّ شعاراتٍ عن “السلام عبر القوة”، فالمعركة الحقيقية اليوم ليست في كييف، بل في شوارع برلين وباريس.