المطلوب اتخاذ قرارات استراتيجية
النقاط العشر حول الدفاع الأوروبي عام 2022...!
-- سيكون التحدي الأكبر أمام الاتحاد هو تحديد دوره ومستوى مشاركته في إدارة الأزمات بما يتجاوز استقرار الدول الهشة
-- حتى الدول التي تتردد بشدة في استخدام مصطلح الاستقلالية، تؤكد حاجة الاتحاد إلى زيادة قدرته على العمل في عديد المجالات
-- تحول منطق التعاون عبر الأطلسي في مجال الأمن والدفاع من تقاسـم الأعباء إلى تقاسم المسؤولية
-- هل لدى الاتحاد الأوروبي، الذي يريد أن يكون قوة جيوسياسية ومعيارية في الوقت نفسه ، أفق عسكري أيضًا؟
-- إن الأزمة الأوكرانية هي الاختبار الأول للاتحاد من أجل إظهار رغبته في تكريس أقواله بخطوات ملموسة
توقعت الروزنامة ذلك. وجاءت الأحداث لتطرق الباب قبل ذلك بقليل.
عام 2022، سيتعين على الأوروبيين التأقلم مـــع عــــودة الحـــرب. فمــــا وراء الخطب والقمم والبوصلـة، المفيـــدة في تحديــــد موقــف مشـترك، يقـــف الاتحـــــاد عنــد نقطـــة تحـول:
هل حان أخيرًا الوقت لاتخاذ قرارات استراتيجية؟ 10 نقاط لرسم الإجابة.
1 -سيضطر الاتحاد الأوروبي إلى إعادة التفكير في الحرب في أوروبا
حتى قبل التطورات الجيوسياسية الأخيرة، كان جليّا أن عام 2022 سيكون عامًا حافلًا بالأمن والدفاع الأوروبيين: سلسلة من القمم الرئيسية -قمة الدفاع الأوروبي في تولوز، ومنتدى الأمن في الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وقمة الاتحاد والبلقان المقررة في مايو -بالإضافة إلى اعتماد البوصلة الاستراتيجية في مارس، كل هذا من المفترض أن يعطي دفعة جديدة للدفاع الأوروبي، مع السماح للفاعلين الأوروبيين بتحديد استراتيجياتهم وأدواتهم.
لقد حولت الأزمة الأوكرانية هذه الممارسة السياسية إلى ضرورة ملموسة، حيث إنها لا تجبر الدول الأوروبية فقط على تحديد دورها في الصراع، ولكنها توضح أيضًا أن الاتحاد يجب أن يختار موقعه في رقعة الشطرنج الجيوسياسية للقارة. ولئن كان يُنظر دائمًا إلى روسيا على أنها تهديد وشريك في نفس الوقت للاتحاد، فإن أي مسالة تتعلق بالأمن والدفاع الجماعي تتمّ معالجتها من قبل الناتو، بسبب افتقار الاتحاد إلى القدرات الحاسمة -بينما يقتصر العمل العسكري للاتحاد أكثر على إدارة الأزمات في أفريقيا. بينما يوضح عدم الاستقرار في شرق القارة الأوروبية، أن الرهانات الأمنية لا تقضي فقط بجهود التخفيف من الأثر الأمني لعدم الاستقرار الدولي في القارة، بل تظهر بوضوح أن احتمال نشوب حرب في أوروبا أمر حقيقي. وهذا يتطلب درجة جديدة من التوقع الاستراتيجي من الدول الأعضاء في الاتحاد، ويفترض أيضًا توفّر القدرة على تقديم جواب على سؤال رئيسي: هل لدى الاتحاد الأوروبي، الذي يريد أن يكون قوة جيوسياسية ومعيارية في الوقت نفسه، أفق عسكري أيضًا؟
2 -ستسمح البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي بتحديد المسار لأمنه ودفاعه -بشرط استخدامها
وفقًا للروزنامة الحالية، سيتبنى المجلس الأوروبي، في اجتماعه نهاية مارس، بوصلة استراتيجية. مقارنة بالوثائق الاستراتيجية التي تحدد الخطوط الاستراتيجية العريضة للاتحاد، أي سياسة الأمن الأوروبية (2003) والاستراتيجية الشاملة (2016)، تقدم البوصلة الاستراتيجية فرصة حقيقية لإحراز تقدم ملموس فيما يتعلق بالأمن والدفاع. فبناءً على تحليل المخاطر الذي أجرته الدول الأعضاء في 2020-2021، يجهز الاتحاد نفسه بأداة حقيقية لتحديد مسار المستقبل. في الواقع، لن تحدد البوصلة الاستراتيجية مستوى طموح الاتحاد فحسب، بل ستشمل أيضًا تدابير ملموسة تتعلق بإدارة الأزمات والمرونة والشراكات وتنمية القدرات.
نتيجة لمسار عمل بدأ عام 2020، يمكن للبوصلة الاستراتيجية أن تصبح خيطًا إرشاديًا للعمل الخارجي للاتحاد -شريطة أن تعتبرها الدول الأعضاء، سادة السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد، أداة شرعية وملزمة سياسيًا. وإذا فشل الاتحاد، رغم الأزمات العديدة في جواره والتحديات الهجينة التي يواجهها، في محاولة تطبيق البوصلة بطريقة منهجية، فلن يؤدي ذلك فقط إلى التشكيك في البوصلة في حد ذاتها، ولكن من منظور أوسع أيضًا، في أهمية جهود التنسيق بين الدول الأعضاء في الاتحاد في مجال الأمن والدفاع. وبهذا المعنى، ربما تمثل البوصلة الفرصة الأخيرة للاتحاد لإعادة التموقع وترسيخ نفسه كلاعب فاعل في الأمن الدولي. وتعتبر الأزمة الأوكرانية من الان الاختبار الأول للاتحاد من أجل إظهار رغبته في تكريس خطوات ملموسة لكلامه.
3 -يمكن أن تشكل الرئاسة الفرنسية لمجلس الاتحاد الأوروبي فرصة سانحة لتعزيز الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية في المسائل الدفاعية في سياق أوسع لـ “السيادة الأوروبية»
خلال خطاب جامعة السوربون عام 2017، أثار مصطلح الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية نقاشًا حيويًا بين الدول الأوروبية، وسلط الضوء على الفجوات بين الدول ذات الثقافة الاستراتيجية التي توصف بأنها “أوروبية”، أي أولئك الذين يفضلون التكامل الأوروبي من حيث الأمن والدفاع داخل الاتحاد، وما يسمى بالدول “الأطلسية” التي تفضل تكامل الدفاع الأوروبي داخل الناتو.
ومع ذلك، خلال الأشهر القليلة الماضية، هدأ هذا النقاش، ويبدو أن الرؤية الفرنسية للاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية قد تم تبنيها على نطاق واسع، دون أن يتم الإعلان عن ذلك، من قبل المؤسسات الأوروبية، وحتى من قبل دول أعضاء ترفض مع ذلك استخدام مصطلح “الاستقلالية”. وهكذا أشار الممثل السامي بوريل إلى أن الاستقلال الاستراتيجي، كما حدده المجلس الأوروبي عام 2016، هو “القدرة على التصرف بشكل مستقل حيثما كان ذلك ضروريًا، ومع الشركاء حيثما أمكن ذلك”. وحتى الدول التي تتردد بشدة في استخدام مصطلح الاستقلالية، مثل ألمانيا أو بولندا، باتت تؤكد حاجة الاتحاد إلى زيادة قدرته على العمل في العديد من المجالات. عند الإعلان عن أولويات الرئاسة الفرنسية لمجلس الاتحاد، والتي ستتجسد خلال النصف الأول من عام 2022، أصر الرئيس ماكرون على تعزيز السيادة الأوروبية، في حين لم يتم ذكر مصطلح الاستقلالية. ويُظهر هذا تحولًا كبيرًا في النموذج يمكن أن تستفيد منه قدرة الاتحاد على العمل: إن التخلي عن مصطلح الاستقلالية سيضع حداً للمناقشات الدلالية التي لا تنتهي، وبالتالي يمكن أن يجمع جزءً كبيرًا من الدول الأعضاء حول مفهوم اتحاد أقوى وأكثر كفاءة. من جهة اخرى، فإن استخدام مصطلح السيادة الأوروبية يعني بالنسبة للعديد من الدول الأعضاء تمديد هذا المصطلح ليشمل مجالات أخرى غير الدفاع، مثل الاقتصاد أو التقنيات الجديدة أو الصحة. وبما ان مقاربة متكاملة لجميع هذه المجالات أمر حاسم في تحديد دور أوروبا في العالم، يمكن أن يتبع التغيير في الاتصال تغيير حقيقي في المقاربة. ويبقى أن نأمل أن تغتنم فرنسا هذه الفرصة السانحة.
4 -ائتلافات جديدة من الدول القادرة والراغبة ستستمر في وسم الفكر الاستراتيجي للاتحاد
لئن يبقى الثنائي الفرنسي الألماني يمثل علاقة حاسمة للنهوض بالاتحاد في مجال الأمن والدفاع ولاعتماد قرارات استراتيجية كبرى، فقد أظهرت السنوات القليلة الماضية تطور أهمية دول أعضاء أخرى في الاتحاد في هذا المجال. قدمت هولندا، على وجه الخصوص، مساهمة كبيرة في تعزيز التفكير الاستراتيجي الأوروبي: إلى جانب فرنسا وألمانيا، تبنت هولندا استراتيجية بشأن المحيطين الهندي والهادئ تنعكس عناصرها العديدة في الاستراتيجية الأوروبية التي نُشرت في سبتمبر. بالإضافة إلى ذلك، نشرت هولندا، بالاشتراك مع إسبانيا، ورقة غير رسمية حول الدفاع الأوروبي في مارس 2021؛ ويقدم هذا المصطلح تصورًا للاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية قريبًا جدًا من النسخة التي قدمتها فرنسا. وبالمثل، تعمل إيطاليا، في ظل حكومة دراجي الجديدة، على تعزيز شراكاتها بشكل منهجي، كما يتضح من معاهدة كويرينال مع فرنسا الموقعة في نوفمبر 2021، أو المناقشات الثلاثية مع فرنسا وألمانيا التي عُقدت في منتصف ديسمبر 2021. ومن المحتمل أن تستمر هذه الدول في تعزيز جهودها للتأثير على القرارات المتعلقة بالأمن والدفاع الأوروبي.
أخيرًا، يتجلى الاتجاه نحو ظهور تحالفات جديدة للدول الأوروبية في المساهمات العسكرية في فرقة عمل تاكوبا، وهي وحدة مكونة من قوات أوروبية متخصصة مدمجة بالكامل في مهمة برخان الفرنسية. ولئن تم تشكيل هذه القوة خارج الهياكل المؤسسية للاتحاد، فإنها ستزيد مع ذلك من قدرات العمليات البينية وقد تعزز، على المدى المتوسط ، ظهور ثقافة استراتيجية مشتركة للدول المشاركة.
وسواء كانت أوراقًا أو عمليات مشتركة، وسواء تم التعاون داخل أو خارج هياكل الاتحاد، فسيكون لذلك تأثير مباشر على التفكير الاستراتيجي والأولويات داخل الاتحاد. وبالتالي، فإن الرئاسة الفرنسية للاتحاد الاوروبي، التي ستمنح فرنسا دورًا تنسيقيًا بين الدول الأوروبية، تشكل فرصة مهمة لفرنسا لتعزيز الشراكات وتعزيز الأغلبيات المرنة حول قضايا الدفاع. وفي خطوة تالية، يمكن أن تتجسد هذه إما في شكل تحالفات، وفقًا للمادة 44 من المعاهدة الأوروبية، التي تسمح بتفويض مهام سياسة الأمن والدفاع المشتركة إلى مجموعة من الدول الأعضاء، أو في إطار تنسيقات خارج الهياكل المؤسسية للاتحاد.
5 -سيتعين على الاتحاد إثبات قدرته على أن يكون محاوراً ذا مصداقية وكفؤا في مسائل الأمن والدفاع الدوليين
طيلة عدة سنوات، كانت المقاربة الأمريكية تجاه الجهات الأمنية الأوروبية واضحة: يتم التفاوض على المسائل العسكرية والاستراتيجية داخل الناتو، بينما يكون التنسيق مع الاتحاد بشأن قضايا الحكم والاستقرار. وبالتالي، فإن المنتدى الأمني بين الاتحاد والولايات المتحدة، الذي سيعقد في بداية العام، يشكل نقلة نوعية حقيقية. فعندما يصبح محاوراً مباشراً للولايات المتحدة بشأن القضايا الأمنية، فإن الاتحاد يخضع لتعزيز كبير من قبل القوة الأمريكية. وإذا سبق ان لعب دورًا مهمًا خلال مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني أو من أجل استقرار الأزمات في جواره، فإن المنتدى الأمني بين الولايات المتحدة والاتحاد سيجعل من الأخير محاورًا قيمًا في عدد كبير من رهانات الأمن والدفاع. ولا شك أن أحد الأهداف الرئيسية للولايات المتحدة لهذا المنتدى، سيكون اصطفاف الاتحاد حول استراتيجيتها “المنافسة الشرسة” مع الصين، وهو موضوع يهدد بإثارة توترات كبيرة عبر الأطلسي. يوضح هذا المنتدى أيضًا أن قضايا الأمن الدولي، نظرًا لطبيعتها المختلطة والمعقدة في كثير من الأحيان، يصعب معالجتها دون مشاركة الاتحاد، بالنظر الى ثقله الاقتصادي، الذي يشكل رافعة مهمة. وسيظل الناتو، بالتأكيد، على المدى المتوسط على الأقل، المؤسسة التي يتم فيها معالجة القضايا العسكرية والاستراتيجية، لكن المنتدى الأمني بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يُظهر أن هذا الاخير يصل، شيئًا فشيئًا، إلى القدرة على العمل. وخاصة التأثير على نطاق دولي. أما بالنسبة للعناصر الأخرى المذكورة أعلاه، فسيتمثل الاختبار الحاسم للاتحاد في ترجمة مفاهيمه ووثائقه الاستراتيجية إلى عمل ملموس، لأن دوره كمحاور في مسائل الأمن والدفاع سيتحدد في المقام الأول من خلال رصيده وسجله.
6 -سيضطر الأوروبيون إلى (إعادة) اختراع صناعة الدفاع الأوروبية
إن المقاربة الأمريكية، في ظل إدارة بايدن، التي يهيمن عليها التطلع إلى وضع “سياسة خارجية للطبقة الوسطى”، والهوس بالمنافسة مع الصين، قد تُرجمت بسياسة “أمريكا أولاً” في مجال المهارات العسكرية. فبالإضافة إلى أزمة الغواصات، التي سمحت للولايات المتحدة بالحصول على عقد لبيع أنظمة عسكرية وإقامة ميثاق دفاعي، فإن ما يسمى قانون “ باي أمريكا”(قانون الشراء الامريكي) يؤكد أن هذا يترجم أيضًا إلى سياسة “البيع الأمريكي” في مجال الدفاع، بما في ذلك للدول الأوروبية.
في ديسمبر، قررت فنلندا شراء طائرات مقاتلة من طراز اف-35، من إنتاج شركة لوكهيد الأمريكية، لتحديث قواتها المسلحة، وتستخدم هذا النظام أيضًا دول أوروبية أخرى مثل الدنمارك والنرويج وسويسرا. وقد تكون الحجة القائلة بأن هذا القرار مبنيًا على منطق السوق، والطائرة التي أنتجتها شركة لوكهيد ذات جودة أفضل من العروض المقدمة من إيرباص أو داسو أو ساب، صحيحة، ولكن يجب أيضًا فهم هذا القرار في سياقه السياسي. ففي الوقت الذي يخوض فيه الاتحاد الأوروبي نقاشا حول تعزيز قدراته، وعندما تكثف الدول الأوروبية جهودها لتعزيز صناعة الدفاع الأوروبية، فإن مثل هذا القرار من قبل دولة عضو في الاتحاد يشكك بجدية في أهمية المشاريع السياسية.
وبما أنه من غير المحتمل أن تتغيّر المقاربة الأمريكية لمبيعات أنظمة الأسلحة للشركاء الأوروبيين عام 2022، يجب على الأوروبيين التكيّف إذا كانوا يريدون الوفاء بوعودهم فيما يتعلق بالسيادة الأوروبية في مجال صناعة الدفاع. منذ عام 2017، كان إطلاق صندوق الدفاع الأوروبي أو المراجعة الدفاعية السنوية المنسقة، مبادرات واعدة لتحديد الثغرات من حيث قابلية التوافق العملياتي والترويج للمشاريع المشتركة الجديدة. ولكن بالمقارنة مع المجالات الأخرى، فإن الاستثمارات المخطط لها في صندوق الدفاع الأوروبي تظل ضئيلة في خطة التعافي للاتحاد. وإذا كان تنسيق قدرات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي جزءً من أهداف السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي، فسيتعين على صانعي القرار الأوروبيين، عام 2022، تحديد المسار واتخاذ قرارات استراتيجية -من الناحية المثالية مع خطة استراتيجية تتجاوز التدابير والأدوات مثل صندوق الدفاع الأوروبي أو التعاون المنظم الدائم في الدفاع، ولكن مع أهداف قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى لتحقيقها. وبدون مثل هذه المبادرة، فإن صناعة الدفاع الأوروبية، وبالتالي القدرات الأوروبية، تخاطر بالبقاء مجزأة -على حساب السياسة الأمنية للاتحاد.
7 -غياب نقاط التقارب بين البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي والمفهوم الاستراتيجي لحلف
الناتو يعدّ فرصة
مهدورة للدفاع الأوروبي
أربع وعشرون دولة عضو في الاتحاد الأوروبي هي أيضًا أعضاء في الناتو، الذي يضم حاليًا ثلاثين دولة عضو. وكشفت قمة الناتو في بروكسل في يونيو 2020 عن أولويات الناتو من الآن وحتى عام 2030، والتي تتنزّل ضمن التفويض الكلاسيكي لحلف الناتو، مثل الردع أو بناء القدرات العسكرية، مع التأكيد أيضًا على التحديات الجديدة مثل التقنيات الجديدة، وتعزيز صمود الدول الأوروبية، وحتى تغير المناخ. وستكون قمة مدريد، المقرر عقدها في نهاية يونيو 2022، فرصة لتقديم المفاهيم الاستراتيجية لحلف الناتو، والتي من المرجح أن يكون الكثير منها مستوحى من الأولويات المحددة لعام 2030.
في ضوء هذه الروزنامة، فإن تأكيدات مسؤولي الناتو بشأن التمييز بين العمل على البوصلة الاستراتيجية للاتحاد والمفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو وغياب التقاربات المحتملة يبدو أمرا متناقضا. يحتل حلف الناتو مكانة مهمة في الجزء المتعلق بشراكات الاتحاد، وقد تكون بعض عناصر البوصلة، مثل التحديات السيبرانية أو الهجينة أو المناخ، دون شك موضوع تعاون وثيق. لكن حقيقة أن عددا قليلا جدًا من عناصر التقارب بين العمليتين تم البحث بنشاط عنها، تشكل فرصة مهدورة للدفاع الأوروبي في سياق أوسع. إن الجدل بين المنافسة والتكامل فيما يتعلق بعلاقات الاتحاد الأوروبي مع الناتو ليس جديدًا. ولطالما أصرّت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدد قليل من البلدان ذات الثقافة الاستراتيجية الأطلسية، مثل بولندا، على فصل واضح بين الناتو، المتصور كمنظمة للأمن العسكري والدفاع المتبادل، والاتحاد الذي يتم تعريفه بأنه قوة مدنية مسؤولة في المقام الأول عن تعزيز الاستقرار والأمن من خلال الوسائل غير العسكرية. غير ان الممارسة السياسية تُظهر أن المؤسستين تعملان معًا في العديد من المجالات، على سبيل المثال، في سياق مهامها البحرية في البحر الأبيض المتوسط ، وأن الفصل الواضح ليس في مصلحة الفاعلين. وهكذا، فإن التزامن بين عمليتي تطوير البوصلة الاستراتيجية والمفهوم الاستراتيجي، كان يمكن أن يشكّل فرصة مهمة لمواءمة الاستراتيجيات وتقوية التقارب. وتعتبر البوصلة الاستراتيجية بلا شك عملية مهمة داخل أوروبا لأنها تتيح للدول الأعضاء في الاتحاد تحديد الاتجاه والمهام التي يمكن أن ينفذها الاتحاد دون الحاجة إلى الاعتماد على قدرات الناتو. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى الإرادة السياسية لمواءمة هاتين العمليتين الاستراتيجيتين والسعي إلى التقارب، يشهد في المقام الأول على عدم قدرة الجهات الأمنية والدفاعية الأوروبية على تصورها بطريقة شاملة. لذلك يبقى أن نأمل أن يتيح الإعلان المشترك للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، المتوقع في غضون أسابيع قليلة، ملء هذا الفراغ، وربما دمجه في النسخة النهائية للبوصلة.
8 -بينما تركز الولايات المتحدة على منطقة المحيطين الهندي والهادي، سيتعين على الاتحاد الأوروبي إظهار قدرته على العمل في جواره وتنفيذ عمليات إدارة الأزمات
بانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، أنهت إدارة بايدن فترة طويلة من الزعامة الأمريكية في العمليات الخارجية والتدخلات العسكرية. وبينما كانت الولايات المتحدة قد أخذت زمام المبادرة في الأبعاد العسكرية والاستراتيجية لهذه العمليات، كان الأوروبيون مسؤولين عن مهام تحقيق الاستقرار بوسائل غير عسكرية أو دعم لوجستي للولايات المتحدة. وكان وصول إدارة بايدن إلى السلطة، خاصة، هو الذي جعل الأوروبيين يدركون أن “الانعطاف نحو آسيا”، الذي سبق الإعلان عنه في عهد إدارة أوباما، والأولوية المطلقة المعطاة للتنافس مع الصين، قد أصبحا العناصر المهيمنة على عقيدة السياسة الخارجية الجديدة للولايات المتحدة. ولئن لعبت الولايات المتحدة منذ سنوات دورًا حاسمًا في الاستقرار العسكري للجوار الأوروبي، لا سيما في سياق الأزمات في ليبيا أو سوريا، فإن انسحاب الجنود الأمريكيين من هذه المناطق يسلط الضوء على حقيقة أن هؤلاء يعتبرون منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا حديقة خلفية لأوروبا -وبالتالي كمنطقة يجب أن يشارك فيها الأوروبيون أكثر، بما في ذلك على المستوى العسكري. وهكذا تحول منطق التعاون عبر الأطلسي في مجال الأمن والدفاع من تقاسم الأعباء إلى تقاسم المسؤولية، أي تقاسم المسؤوليات بين الشركاء عبر المحيط الأطلسي. وتعتبر إدارة الأزمة في مالي مثالاً بارزًا: فقد تولى الأوروبيون، بفضل الالتزام الفرنسي بلا شك، إدارة المجالات الاستراتيجية والعسكرية، بينما يقدم الأمريكيون الدعم اللوجستي اللازم لتنفيذ الأهداف العسكرية. وبالتأكيد أن المهمة لن تكون ممكنة بدون هذا الدعم، ولكن بالنظر إلى أنها الأولى لفرنسا باعتبارها دولة-إطارًا لعملية خارجية، تشارك فيها حصريًا دول أوروبية أخرى، فإنها تظهر أن الديناميكيات بدأت في التطور. وحتى لو تمكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الحصول، في أعقاب أزمة الغواصات، على تنازل أمريكي بما ان جو بايدن أكد له تعزيز المشاركة الأمريكية في منطقة الساحل، فإن هذا لن يغير الديناميكية الرئيسية فيما يتعلق بالمسؤوليات الأوروبية والأمريكية في منطقة الساحل. بشكل ملموس، فإن الالتزام الأمريكي سيرتبط أكثر بالدعم اللوجستي أو التكنولوجي، ومن الصعب للغاية تبرير نشر كبير للجنود الأمريكيين في مالي في إطار “السياسة الخارجية للطبقة الوسطى الأمريكية”. لذلك من المحتمل جدًا أن يُعهد بجهود تحقيق الاستقرار أكثر إلى الأوروبيين في السنوات القادمة؛ وتعتبر فرقة عمل تاكوبا مثالاً أوليًا على زيادة تواجد القوات الأوروبية على الأرض من أجل تنظيم انسحاب محتمل للجنود الفرنسيين. ومع وجود خطر كامن من اندلاع أزمات أمنية أخرى في الجوار الأوروبي الجنوبي، سواء في ليبيا أو البوسنة، يجب على الأوروبيين الاستعداد لتعزيز التزامهم ووجودهم العسكري من أجل استقرار الأزمات في جوارهم. ويمكن أن تكون أحكام البوصلة الاستراتيجية المتعلقة بإدارة الأزمات وجهود تحقيق الاستقرار، اعتمادًا على تطور الوضع في الجوار الأوروبي، هي الأحكام الأولى التي يجب أن تثبت قدرة الاتحاد على العمل ومتابعة تطلعاته الجديدة التي صيغت في الوثيقة. وفي هذا السياق، سيكون التحدي الأكبر الذي يواجهه الاتحاد هو تحديد دوره ومستوى مشاركته في إدارة الأزمات بما يتجاوز استقرار الدول الهشة -أي نهجه السياسي والعسكري تجاه الأزمات ذات الآثار الجيوسياسية، مثل أوكرانيا. ومع ذلك، يبدو من المرجح أن أي مسألة تتعلق بقضايا الردع والدفاع الجماعي ستتم مناقشتها مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، داخل الناتو؛ ومن هنا تأتي الحاجة إلى تعاون وثيق بين المؤسستين.
9 -ستكون بريطانيا العالمية تحديًا لـ “التعاون المنظم الدائم في الدفاع”، لكن الحوار على جميع المستويات يظل حاسمًا لضمان تماسك العمل الدولي الأوروبي
ربما تكون المرحلة الأكثر تعقيدًا من البريكسيت قد مرت، ولكن في غياب اتفاقيات سياسية في المجالات الرئيسية، بما في ذلك الأمن والدفاع، يعد عام 2022 بأن يكون عامًا صعبًا للسياسات الخارجية والأمنية على ضفتي المانش، وعلى وجه الخصوص لضمان ان الإجراءات التي يتخذها أحد الطرفين لا تتعارض مع الأهداف المشتركة.
وتعد مشاركة المملكة المتحدة في ميثاق أوكوس، الى جانب أستراليا والولايات المتحدة، مثالاً على ذلك:
بينما تعتبر المملكة المتحدة، التي ترى نفسها أيضًا “أمة مسالمة”، أن هذا الاتفاق أداة لتحقيق أهدافها في المحيطين الهندي-الهادي، فانه يُنظر إليه في باريس على أنه “طعنة في الظهر”، لأنه كاد يقضي تقريبا على الركيزة الأساسية للاستراتيجية الفرنسية في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وهي الشراكة مع أستراليا.
بالتأكيد أن أوكوس هي في المقام الأول أزمـــــــة فرنســـــية أمريكية لأنها مبادرة أمريكية، والأمريكيون هم الذين فازوا بعقد أسلحة كبير.
لكن مشاركة المملكة المتحدة في اتفاقية أوكوس تُظهر أن بريطانيا العالمية هي أيضًا مقاربة بريطانية جديدة تتعلق بتحالفاتها، وأن مراعاة المصالح الأمنية للشركاء الأوروبيين ليست الأولوية في هذه المقاربة.
في افق أوسع، يمكن أن يظل مثل هذا النقص في التنسيق، إن لم يصبح، تحديًا كبيرًا للغاية لسياسة الأمن والدفاع في الاتحاد، ولكن أيضًا، من منظور أوسع، للدور الجغرا-سياسي لأوروبا.
إن التوترات الناتجة عن قضية الغواصات، هي أكثر إشكالية لأن الدول الأعضاء في الاتحاد والمملكة المتحدة تشتركان في العديد من المصالح في منطقة المحيطين الهندي والهادي والتي تتطلب تنسيقًا وثيقًا، سواء كان ذلك لتعزيز العلاقات مع الشركاء الاستراتيجيين في المنطقة أو ضمان حرية النقل البحري. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى التنسيق الاستراتيجي يعقّد تحقيق أهدافه المشتركة، وبسبب موقف المملكة المتحدة ما بعد البريكسيت، فإن التبادلات بين المملكة المتحدة والاتحاد محدودة للغاية.
ورغم أنه يمكن ضمان التعاون العملياتي من خلال التنسيق داخل الناتو أو التنسيقات المرنة خارج المؤسسات، فإن القرارات الاستراتيجية تتطلب التنسيق مع الشركاء الأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، من أجل ضمان عدم تعريض الأهداف المشتركة وتماسك عمل الدول الأوروبية للخطر. إن تعيين وزير جديد للبريكست، وحقيقة أن وزارة الخارجية البريطانية الآن مسؤولة عن إدارة العلاقات الخارجية للبلاد بعد البريكسيت قد يغيران قواعد اللعبة، الا ان العلاقات مع المملكة المتحدة في مجالي الأمن والدفاع ستبقى بلا شك بمثابة قضية حاسمة بالنسبة للاتحاد، في عام 2022 وما بعده.
10 -سيتم تعزيز قدرة أوروبا على العمل من خلال صيغ مرنة
سيكون عام 2022 على الأرجح عام التعزيز لما سبق أن لاحظناه منذ عدة سنوات، أي التعاون الدفاعي الأوروبي خارج الهياكل المؤسسية للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. حتى الآن، تم إنشاء مثل هذه الأشكال، التي غالبًا ما توصف بأنها “تحالفات الراغبين”، في مضيق هرمز، حيث يسعى تحالف إيماسوه من تسع دول أوروبية إلى ضمان حرية الملاحة، أو الساحل، حيث اندمجت فرنسا في قوة تاكوبا، وهي فرقة عمل، مكونة من القوات الخاصة الأوروبية، في مهمة برخان، لتقديم الدعم في مكافحة الإرهاب.
ولئن انتقدت عدة دول هذه الصيغ، خوفا من أن هذا الشكل من التكامل الأوروبي المتمايز لا يمكن أن يؤدي الا إلى تفتيت الأمن والدفاع الأوروبيين ووضع حد للجهود المشتركة لسياسة دفاع وأمن مشتركة للاتحاد، فانه خيار سيزداد لجوء الدول الأوروبية اليه في السنوات القادمة.
لقد أثبت هذا الشكل من التعاون فعاليته من حيث أنه يسمح للدول الأوروبية القادرة والراغبة بتوفير اجوبة عملية للتحديات الأمنية للاتحاد دون مواجهة عقبات مؤسسية، أثناء إنشاء مجموعات جديدة من الدول مثل فريق عمل تاكوبا. ويسمح هذا للدول الأعضاء فقط في الاتحاد، مثل السويد، وتلك العضوة فقط في الناتو، مثل النرويج أو المملكة المتحدة، بتعزيز قدراتها في العمليات الخارجية.
على المدى الطويل، يمكن لهذا أن يفيد ظهور ثقافة استراتيجية وعملياتية مشتركة بين الأوروبيين، بشرط أن نكون مستعدين للتفكير في الأمن الأوروبي بما يتجاوز عضوية الدولة في الاتحاد أو الناتو.
ومع ذلك، من الأهمية بمكان أن تدرك الدول الأوروبية أن مثل هذه الأشكال لا يمكن أن تشكل سوى إضافة، أي دعما إضافيا للدفاع الأوروبي، لأن قدرات مثل هذه الأشكال لا تزال محدودة. يمكنها أن تكون بمثابة أدوات لإدارة الأزمات من حين لآخر، ولكن في غياب رؤية طويلة المدى، فإنها بالكاد ستحل محل دفاع أوروبي يتمتع بتفكير استراتيجي وأهداف واضحة.
ومع ذلك، وحتى يُظهر الأوروبيون إرادتهم السياسية في أن يترجم الاتحاد مثل هذا التفكير الاستراتيجي إلى أفعال، يمكن أن تشكل هذه الأشكال المرنة مساهمة مهمة في الدفاع الأوروبي، بل وتوفر حافزًا لمزيد من التعاون الدفاعي بين الأوروبيين داخل المؤسسات. والواقع، أن المادة 44 من معاهدة الاتحاد الأوروبي تنص فعلا على إمكانية تفويض مهمة تتعلق بسياسة الأمن والدفاع المشتركة لمجموعة من الدول الأعضاء الراغبة والقادرة؛
وبالتالي يمكن أن تعمل التحالفات المناسبة خارج الاتحاد الأوروبي على التحقّق من استخدام هذه المادة في المستقبل.
*منسقة برنامج صندوق مارشال الألماني في باريس ومتخصصة في السياسة الأمنية وتعمل كمحللة لمجموعة الدراسات الجيوسياسية.
-- حتى الدول التي تتردد بشدة في استخدام مصطلح الاستقلالية، تؤكد حاجة الاتحاد إلى زيادة قدرته على العمل في عديد المجالات
-- تحول منطق التعاون عبر الأطلسي في مجال الأمن والدفاع من تقاسـم الأعباء إلى تقاسم المسؤولية
-- هل لدى الاتحاد الأوروبي، الذي يريد أن يكون قوة جيوسياسية ومعيارية في الوقت نفسه ، أفق عسكري أيضًا؟
-- إن الأزمة الأوكرانية هي الاختبار الأول للاتحاد من أجل إظهار رغبته في تكريس أقواله بخطوات ملموسة
توقعت الروزنامة ذلك. وجاءت الأحداث لتطرق الباب قبل ذلك بقليل.
عام 2022، سيتعين على الأوروبيين التأقلم مـــع عــــودة الحـــرب. فمــــا وراء الخطب والقمم والبوصلـة، المفيـــدة في تحديــــد موقــف مشـترك، يقـــف الاتحـــــاد عنــد نقطـــة تحـول:
هل حان أخيرًا الوقت لاتخاذ قرارات استراتيجية؟ 10 نقاط لرسم الإجابة.
1 -سيضطر الاتحاد الأوروبي إلى إعادة التفكير في الحرب في أوروبا
حتى قبل التطورات الجيوسياسية الأخيرة، كان جليّا أن عام 2022 سيكون عامًا حافلًا بالأمن والدفاع الأوروبيين: سلسلة من القمم الرئيسية -قمة الدفاع الأوروبي في تولوز، ومنتدى الأمن في الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وقمة الاتحاد والبلقان المقررة في مايو -بالإضافة إلى اعتماد البوصلة الاستراتيجية في مارس، كل هذا من المفترض أن يعطي دفعة جديدة للدفاع الأوروبي، مع السماح للفاعلين الأوروبيين بتحديد استراتيجياتهم وأدواتهم.
لقد حولت الأزمة الأوكرانية هذه الممارسة السياسية إلى ضرورة ملموسة، حيث إنها لا تجبر الدول الأوروبية فقط على تحديد دورها في الصراع، ولكنها توضح أيضًا أن الاتحاد يجب أن يختار موقعه في رقعة الشطرنج الجيوسياسية للقارة. ولئن كان يُنظر دائمًا إلى روسيا على أنها تهديد وشريك في نفس الوقت للاتحاد، فإن أي مسالة تتعلق بالأمن والدفاع الجماعي تتمّ معالجتها من قبل الناتو، بسبب افتقار الاتحاد إلى القدرات الحاسمة -بينما يقتصر العمل العسكري للاتحاد أكثر على إدارة الأزمات في أفريقيا. بينما يوضح عدم الاستقرار في شرق القارة الأوروبية، أن الرهانات الأمنية لا تقضي فقط بجهود التخفيف من الأثر الأمني لعدم الاستقرار الدولي في القارة، بل تظهر بوضوح أن احتمال نشوب حرب في أوروبا أمر حقيقي. وهذا يتطلب درجة جديدة من التوقع الاستراتيجي من الدول الأعضاء في الاتحاد، ويفترض أيضًا توفّر القدرة على تقديم جواب على سؤال رئيسي: هل لدى الاتحاد الأوروبي، الذي يريد أن يكون قوة جيوسياسية ومعيارية في الوقت نفسه، أفق عسكري أيضًا؟
2 -ستسمح البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي بتحديد المسار لأمنه ودفاعه -بشرط استخدامها
وفقًا للروزنامة الحالية، سيتبنى المجلس الأوروبي، في اجتماعه نهاية مارس، بوصلة استراتيجية. مقارنة بالوثائق الاستراتيجية التي تحدد الخطوط الاستراتيجية العريضة للاتحاد، أي سياسة الأمن الأوروبية (2003) والاستراتيجية الشاملة (2016)، تقدم البوصلة الاستراتيجية فرصة حقيقية لإحراز تقدم ملموس فيما يتعلق بالأمن والدفاع. فبناءً على تحليل المخاطر الذي أجرته الدول الأعضاء في 2020-2021، يجهز الاتحاد نفسه بأداة حقيقية لتحديد مسار المستقبل. في الواقع، لن تحدد البوصلة الاستراتيجية مستوى طموح الاتحاد فحسب، بل ستشمل أيضًا تدابير ملموسة تتعلق بإدارة الأزمات والمرونة والشراكات وتنمية القدرات.
نتيجة لمسار عمل بدأ عام 2020، يمكن للبوصلة الاستراتيجية أن تصبح خيطًا إرشاديًا للعمل الخارجي للاتحاد -شريطة أن تعتبرها الدول الأعضاء، سادة السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد، أداة شرعية وملزمة سياسيًا. وإذا فشل الاتحاد، رغم الأزمات العديدة في جواره والتحديات الهجينة التي يواجهها، في محاولة تطبيق البوصلة بطريقة منهجية، فلن يؤدي ذلك فقط إلى التشكيك في البوصلة في حد ذاتها، ولكن من منظور أوسع أيضًا، في أهمية جهود التنسيق بين الدول الأعضاء في الاتحاد في مجال الأمن والدفاع. وبهذا المعنى، ربما تمثل البوصلة الفرصة الأخيرة للاتحاد لإعادة التموقع وترسيخ نفسه كلاعب فاعل في الأمن الدولي. وتعتبر الأزمة الأوكرانية من الان الاختبار الأول للاتحاد من أجل إظهار رغبته في تكريس خطوات ملموسة لكلامه.
3 -يمكن أن تشكل الرئاسة الفرنسية لمجلس الاتحاد الأوروبي فرصة سانحة لتعزيز الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية في المسائل الدفاعية في سياق أوسع لـ “السيادة الأوروبية»
خلال خطاب جامعة السوربون عام 2017، أثار مصطلح الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية نقاشًا حيويًا بين الدول الأوروبية، وسلط الضوء على الفجوات بين الدول ذات الثقافة الاستراتيجية التي توصف بأنها “أوروبية”، أي أولئك الذين يفضلون التكامل الأوروبي من حيث الأمن والدفاع داخل الاتحاد، وما يسمى بالدول “الأطلسية” التي تفضل تكامل الدفاع الأوروبي داخل الناتو.
ومع ذلك، خلال الأشهر القليلة الماضية، هدأ هذا النقاش، ويبدو أن الرؤية الفرنسية للاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية قد تم تبنيها على نطاق واسع، دون أن يتم الإعلان عن ذلك، من قبل المؤسسات الأوروبية، وحتى من قبل دول أعضاء ترفض مع ذلك استخدام مصطلح “الاستقلالية”. وهكذا أشار الممثل السامي بوريل إلى أن الاستقلال الاستراتيجي، كما حدده المجلس الأوروبي عام 2016، هو “القدرة على التصرف بشكل مستقل حيثما كان ذلك ضروريًا، ومع الشركاء حيثما أمكن ذلك”. وحتى الدول التي تتردد بشدة في استخدام مصطلح الاستقلالية، مثل ألمانيا أو بولندا، باتت تؤكد حاجة الاتحاد إلى زيادة قدرته على العمل في العديد من المجالات. عند الإعلان عن أولويات الرئاسة الفرنسية لمجلس الاتحاد، والتي ستتجسد خلال النصف الأول من عام 2022، أصر الرئيس ماكرون على تعزيز السيادة الأوروبية، في حين لم يتم ذكر مصطلح الاستقلالية. ويُظهر هذا تحولًا كبيرًا في النموذج يمكن أن تستفيد منه قدرة الاتحاد على العمل: إن التخلي عن مصطلح الاستقلالية سيضع حداً للمناقشات الدلالية التي لا تنتهي، وبالتالي يمكن أن يجمع جزءً كبيرًا من الدول الأعضاء حول مفهوم اتحاد أقوى وأكثر كفاءة. من جهة اخرى، فإن استخدام مصطلح السيادة الأوروبية يعني بالنسبة للعديد من الدول الأعضاء تمديد هذا المصطلح ليشمل مجالات أخرى غير الدفاع، مثل الاقتصاد أو التقنيات الجديدة أو الصحة. وبما ان مقاربة متكاملة لجميع هذه المجالات أمر حاسم في تحديد دور أوروبا في العالم، يمكن أن يتبع التغيير في الاتصال تغيير حقيقي في المقاربة. ويبقى أن نأمل أن تغتنم فرنسا هذه الفرصة السانحة.
4 -ائتلافات جديدة من الدول القادرة والراغبة ستستمر في وسم الفكر الاستراتيجي للاتحاد
لئن يبقى الثنائي الفرنسي الألماني يمثل علاقة حاسمة للنهوض بالاتحاد في مجال الأمن والدفاع ولاعتماد قرارات استراتيجية كبرى، فقد أظهرت السنوات القليلة الماضية تطور أهمية دول أعضاء أخرى في الاتحاد في هذا المجال. قدمت هولندا، على وجه الخصوص، مساهمة كبيرة في تعزيز التفكير الاستراتيجي الأوروبي: إلى جانب فرنسا وألمانيا، تبنت هولندا استراتيجية بشأن المحيطين الهندي والهادئ تنعكس عناصرها العديدة في الاستراتيجية الأوروبية التي نُشرت في سبتمبر. بالإضافة إلى ذلك، نشرت هولندا، بالاشتراك مع إسبانيا، ورقة غير رسمية حول الدفاع الأوروبي في مارس 2021؛ ويقدم هذا المصطلح تصورًا للاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية قريبًا جدًا من النسخة التي قدمتها فرنسا. وبالمثل، تعمل إيطاليا، في ظل حكومة دراجي الجديدة، على تعزيز شراكاتها بشكل منهجي، كما يتضح من معاهدة كويرينال مع فرنسا الموقعة في نوفمبر 2021، أو المناقشات الثلاثية مع فرنسا وألمانيا التي عُقدت في منتصف ديسمبر 2021. ومن المحتمل أن تستمر هذه الدول في تعزيز جهودها للتأثير على القرارات المتعلقة بالأمن والدفاع الأوروبي.
أخيرًا، يتجلى الاتجاه نحو ظهور تحالفات جديدة للدول الأوروبية في المساهمات العسكرية في فرقة عمل تاكوبا، وهي وحدة مكونة من قوات أوروبية متخصصة مدمجة بالكامل في مهمة برخان الفرنسية. ولئن تم تشكيل هذه القوة خارج الهياكل المؤسسية للاتحاد، فإنها ستزيد مع ذلك من قدرات العمليات البينية وقد تعزز، على المدى المتوسط ، ظهور ثقافة استراتيجية مشتركة للدول المشاركة.
وسواء كانت أوراقًا أو عمليات مشتركة، وسواء تم التعاون داخل أو خارج هياكل الاتحاد، فسيكون لذلك تأثير مباشر على التفكير الاستراتيجي والأولويات داخل الاتحاد. وبالتالي، فإن الرئاسة الفرنسية للاتحاد الاوروبي، التي ستمنح فرنسا دورًا تنسيقيًا بين الدول الأوروبية، تشكل فرصة مهمة لفرنسا لتعزيز الشراكات وتعزيز الأغلبيات المرنة حول قضايا الدفاع. وفي خطوة تالية، يمكن أن تتجسد هذه إما في شكل تحالفات، وفقًا للمادة 44 من المعاهدة الأوروبية، التي تسمح بتفويض مهام سياسة الأمن والدفاع المشتركة إلى مجموعة من الدول الأعضاء، أو في إطار تنسيقات خارج الهياكل المؤسسية للاتحاد.
5 -سيتعين على الاتحاد إثبات قدرته على أن يكون محاوراً ذا مصداقية وكفؤا في مسائل الأمن والدفاع الدوليين
طيلة عدة سنوات، كانت المقاربة الأمريكية تجاه الجهات الأمنية الأوروبية واضحة: يتم التفاوض على المسائل العسكرية والاستراتيجية داخل الناتو، بينما يكون التنسيق مع الاتحاد بشأن قضايا الحكم والاستقرار. وبالتالي، فإن المنتدى الأمني بين الاتحاد والولايات المتحدة، الذي سيعقد في بداية العام، يشكل نقلة نوعية حقيقية. فعندما يصبح محاوراً مباشراً للولايات المتحدة بشأن القضايا الأمنية، فإن الاتحاد يخضع لتعزيز كبير من قبل القوة الأمريكية. وإذا سبق ان لعب دورًا مهمًا خلال مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني أو من أجل استقرار الأزمات في جواره، فإن المنتدى الأمني بين الولايات المتحدة والاتحاد سيجعل من الأخير محاورًا قيمًا في عدد كبير من رهانات الأمن والدفاع. ولا شك أن أحد الأهداف الرئيسية للولايات المتحدة لهذا المنتدى، سيكون اصطفاف الاتحاد حول استراتيجيتها “المنافسة الشرسة” مع الصين، وهو موضوع يهدد بإثارة توترات كبيرة عبر الأطلسي. يوضح هذا المنتدى أيضًا أن قضايا الأمن الدولي، نظرًا لطبيعتها المختلطة والمعقدة في كثير من الأحيان، يصعب معالجتها دون مشاركة الاتحاد، بالنظر الى ثقله الاقتصادي، الذي يشكل رافعة مهمة. وسيظل الناتو، بالتأكيد، على المدى المتوسط على الأقل، المؤسسة التي يتم فيها معالجة القضايا العسكرية والاستراتيجية، لكن المنتدى الأمني بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يُظهر أن هذا الاخير يصل، شيئًا فشيئًا، إلى القدرة على العمل. وخاصة التأثير على نطاق دولي. أما بالنسبة للعناصر الأخرى المذكورة أعلاه، فسيتمثل الاختبار الحاسم للاتحاد في ترجمة مفاهيمه ووثائقه الاستراتيجية إلى عمل ملموس، لأن دوره كمحاور في مسائل الأمن والدفاع سيتحدد في المقام الأول من خلال رصيده وسجله.
6 -سيضطر الأوروبيون إلى (إعادة) اختراع صناعة الدفاع الأوروبية
إن المقاربة الأمريكية، في ظل إدارة بايدن، التي يهيمن عليها التطلع إلى وضع “سياسة خارجية للطبقة الوسطى”، والهوس بالمنافسة مع الصين، قد تُرجمت بسياسة “أمريكا أولاً” في مجال المهارات العسكرية. فبالإضافة إلى أزمة الغواصات، التي سمحت للولايات المتحدة بالحصول على عقد لبيع أنظمة عسكرية وإقامة ميثاق دفاعي، فإن ما يسمى قانون “ باي أمريكا”(قانون الشراء الامريكي) يؤكد أن هذا يترجم أيضًا إلى سياسة “البيع الأمريكي” في مجال الدفاع، بما في ذلك للدول الأوروبية.
في ديسمبر، قررت فنلندا شراء طائرات مقاتلة من طراز اف-35، من إنتاج شركة لوكهيد الأمريكية، لتحديث قواتها المسلحة، وتستخدم هذا النظام أيضًا دول أوروبية أخرى مثل الدنمارك والنرويج وسويسرا. وقد تكون الحجة القائلة بأن هذا القرار مبنيًا على منطق السوق، والطائرة التي أنتجتها شركة لوكهيد ذات جودة أفضل من العروض المقدمة من إيرباص أو داسو أو ساب، صحيحة، ولكن يجب أيضًا فهم هذا القرار في سياقه السياسي. ففي الوقت الذي يخوض فيه الاتحاد الأوروبي نقاشا حول تعزيز قدراته، وعندما تكثف الدول الأوروبية جهودها لتعزيز صناعة الدفاع الأوروبية، فإن مثل هذا القرار من قبل دولة عضو في الاتحاد يشكك بجدية في أهمية المشاريع السياسية.
وبما أنه من غير المحتمل أن تتغيّر المقاربة الأمريكية لمبيعات أنظمة الأسلحة للشركاء الأوروبيين عام 2022، يجب على الأوروبيين التكيّف إذا كانوا يريدون الوفاء بوعودهم فيما يتعلق بالسيادة الأوروبية في مجال صناعة الدفاع. منذ عام 2017، كان إطلاق صندوق الدفاع الأوروبي أو المراجعة الدفاعية السنوية المنسقة، مبادرات واعدة لتحديد الثغرات من حيث قابلية التوافق العملياتي والترويج للمشاريع المشتركة الجديدة. ولكن بالمقارنة مع المجالات الأخرى، فإن الاستثمارات المخطط لها في صندوق الدفاع الأوروبي تظل ضئيلة في خطة التعافي للاتحاد. وإذا كان تنسيق قدرات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي جزءً من أهداف السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي، فسيتعين على صانعي القرار الأوروبيين، عام 2022، تحديد المسار واتخاذ قرارات استراتيجية -من الناحية المثالية مع خطة استراتيجية تتجاوز التدابير والأدوات مثل صندوق الدفاع الأوروبي أو التعاون المنظم الدائم في الدفاع، ولكن مع أهداف قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى لتحقيقها. وبدون مثل هذه المبادرة، فإن صناعة الدفاع الأوروبية، وبالتالي القدرات الأوروبية، تخاطر بالبقاء مجزأة -على حساب السياسة الأمنية للاتحاد.
7 -غياب نقاط التقارب بين البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي والمفهوم الاستراتيجي لحلف
الناتو يعدّ فرصة
مهدورة للدفاع الأوروبي
أربع وعشرون دولة عضو في الاتحاد الأوروبي هي أيضًا أعضاء في الناتو، الذي يضم حاليًا ثلاثين دولة عضو. وكشفت قمة الناتو في بروكسل في يونيو 2020 عن أولويات الناتو من الآن وحتى عام 2030، والتي تتنزّل ضمن التفويض الكلاسيكي لحلف الناتو، مثل الردع أو بناء القدرات العسكرية، مع التأكيد أيضًا على التحديات الجديدة مثل التقنيات الجديدة، وتعزيز صمود الدول الأوروبية، وحتى تغير المناخ. وستكون قمة مدريد، المقرر عقدها في نهاية يونيو 2022، فرصة لتقديم المفاهيم الاستراتيجية لحلف الناتو، والتي من المرجح أن يكون الكثير منها مستوحى من الأولويات المحددة لعام 2030.
في ضوء هذه الروزنامة، فإن تأكيدات مسؤولي الناتو بشأن التمييز بين العمل على البوصلة الاستراتيجية للاتحاد والمفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو وغياب التقاربات المحتملة يبدو أمرا متناقضا. يحتل حلف الناتو مكانة مهمة في الجزء المتعلق بشراكات الاتحاد، وقد تكون بعض عناصر البوصلة، مثل التحديات السيبرانية أو الهجينة أو المناخ، دون شك موضوع تعاون وثيق. لكن حقيقة أن عددا قليلا جدًا من عناصر التقارب بين العمليتين تم البحث بنشاط عنها، تشكل فرصة مهدورة للدفاع الأوروبي في سياق أوسع. إن الجدل بين المنافسة والتكامل فيما يتعلق بعلاقات الاتحاد الأوروبي مع الناتو ليس جديدًا. ولطالما أصرّت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدد قليل من البلدان ذات الثقافة الاستراتيجية الأطلسية، مثل بولندا، على فصل واضح بين الناتو، المتصور كمنظمة للأمن العسكري والدفاع المتبادل، والاتحاد الذي يتم تعريفه بأنه قوة مدنية مسؤولة في المقام الأول عن تعزيز الاستقرار والأمن من خلال الوسائل غير العسكرية. غير ان الممارسة السياسية تُظهر أن المؤسستين تعملان معًا في العديد من المجالات، على سبيل المثال، في سياق مهامها البحرية في البحر الأبيض المتوسط ، وأن الفصل الواضح ليس في مصلحة الفاعلين. وهكذا، فإن التزامن بين عمليتي تطوير البوصلة الاستراتيجية والمفهوم الاستراتيجي، كان يمكن أن يشكّل فرصة مهمة لمواءمة الاستراتيجيات وتقوية التقارب. وتعتبر البوصلة الاستراتيجية بلا شك عملية مهمة داخل أوروبا لأنها تتيح للدول الأعضاء في الاتحاد تحديد الاتجاه والمهام التي يمكن أن ينفذها الاتحاد دون الحاجة إلى الاعتماد على قدرات الناتو. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى الإرادة السياسية لمواءمة هاتين العمليتين الاستراتيجيتين والسعي إلى التقارب، يشهد في المقام الأول على عدم قدرة الجهات الأمنية والدفاعية الأوروبية على تصورها بطريقة شاملة. لذلك يبقى أن نأمل أن يتيح الإعلان المشترك للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، المتوقع في غضون أسابيع قليلة، ملء هذا الفراغ، وربما دمجه في النسخة النهائية للبوصلة.
8 -بينما تركز الولايات المتحدة على منطقة المحيطين الهندي والهادي، سيتعين على الاتحاد الأوروبي إظهار قدرته على العمل في جواره وتنفيذ عمليات إدارة الأزمات
بانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، أنهت إدارة بايدن فترة طويلة من الزعامة الأمريكية في العمليات الخارجية والتدخلات العسكرية. وبينما كانت الولايات المتحدة قد أخذت زمام المبادرة في الأبعاد العسكرية والاستراتيجية لهذه العمليات، كان الأوروبيون مسؤولين عن مهام تحقيق الاستقرار بوسائل غير عسكرية أو دعم لوجستي للولايات المتحدة. وكان وصول إدارة بايدن إلى السلطة، خاصة، هو الذي جعل الأوروبيين يدركون أن “الانعطاف نحو آسيا”، الذي سبق الإعلان عنه في عهد إدارة أوباما، والأولوية المطلقة المعطاة للتنافس مع الصين، قد أصبحا العناصر المهيمنة على عقيدة السياسة الخارجية الجديدة للولايات المتحدة. ولئن لعبت الولايات المتحدة منذ سنوات دورًا حاسمًا في الاستقرار العسكري للجوار الأوروبي، لا سيما في سياق الأزمات في ليبيا أو سوريا، فإن انسحاب الجنود الأمريكيين من هذه المناطق يسلط الضوء على حقيقة أن هؤلاء يعتبرون منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا حديقة خلفية لأوروبا -وبالتالي كمنطقة يجب أن يشارك فيها الأوروبيون أكثر، بما في ذلك على المستوى العسكري. وهكذا تحول منطق التعاون عبر الأطلسي في مجال الأمن والدفاع من تقاسم الأعباء إلى تقاسم المسؤولية، أي تقاسم المسؤوليات بين الشركاء عبر المحيط الأطلسي. وتعتبر إدارة الأزمة في مالي مثالاً بارزًا: فقد تولى الأوروبيون، بفضل الالتزام الفرنسي بلا شك، إدارة المجالات الاستراتيجية والعسكرية، بينما يقدم الأمريكيون الدعم اللوجستي اللازم لتنفيذ الأهداف العسكرية. وبالتأكيد أن المهمة لن تكون ممكنة بدون هذا الدعم، ولكن بالنظر إلى أنها الأولى لفرنسا باعتبارها دولة-إطارًا لعملية خارجية، تشارك فيها حصريًا دول أوروبية أخرى، فإنها تظهر أن الديناميكيات بدأت في التطور. وحتى لو تمكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الحصول، في أعقاب أزمة الغواصات، على تنازل أمريكي بما ان جو بايدن أكد له تعزيز المشاركة الأمريكية في منطقة الساحل، فإن هذا لن يغير الديناميكية الرئيسية فيما يتعلق بالمسؤوليات الأوروبية والأمريكية في منطقة الساحل. بشكل ملموس، فإن الالتزام الأمريكي سيرتبط أكثر بالدعم اللوجستي أو التكنولوجي، ومن الصعب للغاية تبرير نشر كبير للجنود الأمريكيين في مالي في إطار “السياسة الخارجية للطبقة الوسطى الأمريكية”. لذلك من المحتمل جدًا أن يُعهد بجهود تحقيق الاستقرار أكثر إلى الأوروبيين في السنوات القادمة؛ وتعتبر فرقة عمل تاكوبا مثالاً أوليًا على زيادة تواجد القوات الأوروبية على الأرض من أجل تنظيم انسحاب محتمل للجنود الفرنسيين. ومع وجود خطر كامن من اندلاع أزمات أمنية أخرى في الجوار الأوروبي الجنوبي، سواء في ليبيا أو البوسنة، يجب على الأوروبيين الاستعداد لتعزيز التزامهم ووجودهم العسكري من أجل استقرار الأزمات في جوارهم. ويمكن أن تكون أحكام البوصلة الاستراتيجية المتعلقة بإدارة الأزمات وجهود تحقيق الاستقرار، اعتمادًا على تطور الوضع في الجوار الأوروبي، هي الأحكام الأولى التي يجب أن تثبت قدرة الاتحاد على العمل ومتابعة تطلعاته الجديدة التي صيغت في الوثيقة. وفي هذا السياق، سيكون التحدي الأكبر الذي يواجهه الاتحاد هو تحديد دوره ومستوى مشاركته في إدارة الأزمات بما يتجاوز استقرار الدول الهشة -أي نهجه السياسي والعسكري تجاه الأزمات ذات الآثار الجيوسياسية، مثل أوكرانيا. ومع ذلك، يبدو من المرجح أن أي مسألة تتعلق بقضايا الردع والدفاع الجماعي ستتم مناقشتها مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، داخل الناتو؛ ومن هنا تأتي الحاجة إلى تعاون وثيق بين المؤسستين.
9 -ستكون بريطانيا العالمية تحديًا لـ “التعاون المنظم الدائم في الدفاع”، لكن الحوار على جميع المستويات يظل حاسمًا لضمان تماسك العمل الدولي الأوروبي
ربما تكون المرحلة الأكثر تعقيدًا من البريكسيت قد مرت، ولكن في غياب اتفاقيات سياسية في المجالات الرئيسية، بما في ذلك الأمن والدفاع، يعد عام 2022 بأن يكون عامًا صعبًا للسياسات الخارجية والأمنية على ضفتي المانش، وعلى وجه الخصوص لضمان ان الإجراءات التي يتخذها أحد الطرفين لا تتعارض مع الأهداف المشتركة.
وتعد مشاركة المملكة المتحدة في ميثاق أوكوس، الى جانب أستراليا والولايات المتحدة، مثالاً على ذلك:
بينما تعتبر المملكة المتحدة، التي ترى نفسها أيضًا “أمة مسالمة”، أن هذا الاتفاق أداة لتحقيق أهدافها في المحيطين الهندي-الهادي، فانه يُنظر إليه في باريس على أنه “طعنة في الظهر”، لأنه كاد يقضي تقريبا على الركيزة الأساسية للاستراتيجية الفرنسية في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وهي الشراكة مع أستراليا.
بالتأكيد أن أوكوس هي في المقام الأول أزمـــــــة فرنســـــية أمريكية لأنها مبادرة أمريكية، والأمريكيون هم الذين فازوا بعقد أسلحة كبير.
لكن مشاركة المملكة المتحدة في اتفاقية أوكوس تُظهر أن بريطانيا العالمية هي أيضًا مقاربة بريطانية جديدة تتعلق بتحالفاتها، وأن مراعاة المصالح الأمنية للشركاء الأوروبيين ليست الأولوية في هذه المقاربة.
في افق أوسع، يمكن أن يظل مثل هذا النقص في التنسيق، إن لم يصبح، تحديًا كبيرًا للغاية لسياسة الأمن والدفاع في الاتحاد، ولكن أيضًا، من منظور أوسع، للدور الجغرا-سياسي لأوروبا.
إن التوترات الناتجة عن قضية الغواصات، هي أكثر إشكالية لأن الدول الأعضاء في الاتحاد والمملكة المتحدة تشتركان في العديد من المصالح في منطقة المحيطين الهندي والهادي والتي تتطلب تنسيقًا وثيقًا، سواء كان ذلك لتعزيز العلاقات مع الشركاء الاستراتيجيين في المنطقة أو ضمان حرية النقل البحري. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى التنسيق الاستراتيجي يعقّد تحقيق أهدافه المشتركة، وبسبب موقف المملكة المتحدة ما بعد البريكسيت، فإن التبادلات بين المملكة المتحدة والاتحاد محدودة للغاية.
ورغم أنه يمكن ضمان التعاون العملياتي من خلال التنسيق داخل الناتو أو التنسيقات المرنة خارج المؤسسات، فإن القرارات الاستراتيجية تتطلب التنسيق مع الشركاء الأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، من أجل ضمان عدم تعريض الأهداف المشتركة وتماسك عمل الدول الأوروبية للخطر. إن تعيين وزير جديد للبريكست، وحقيقة أن وزارة الخارجية البريطانية الآن مسؤولة عن إدارة العلاقات الخارجية للبلاد بعد البريكسيت قد يغيران قواعد اللعبة، الا ان العلاقات مع المملكة المتحدة في مجالي الأمن والدفاع ستبقى بلا شك بمثابة قضية حاسمة بالنسبة للاتحاد، في عام 2022 وما بعده.
10 -سيتم تعزيز قدرة أوروبا على العمل من خلال صيغ مرنة
سيكون عام 2022 على الأرجح عام التعزيز لما سبق أن لاحظناه منذ عدة سنوات، أي التعاون الدفاعي الأوروبي خارج الهياكل المؤسسية للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. حتى الآن، تم إنشاء مثل هذه الأشكال، التي غالبًا ما توصف بأنها “تحالفات الراغبين”، في مضيق هرمز، حيث يسعى تحالف إيماسوه من تسع دول أوروبية إلى ضمان حرية الملاحة، أو الساحل، حيث اندمجت فرنسا في قوة تاكوبا، وهي فرقة عمل، مكونة من القوات الخاصة الأوروبية، في مهمة برخان، لتقديم الدعم في مكافحة الإرهاب.
ولئن انتقدت عدة دول هذه الصيغ، خوفا من أن هذا الشكل من التكامل الأوروبي المتمايز لا يمكن أن يؤدي الا إلى تفتيت الأمن والدفاع الأوروبيين ووضع حد للجهود المشتركة لسياسة دفاع وأمن مشتركة للاتحاد، فانه خيار سيزداد لجوء الدول الأوروبية اليه في السنوات القادمة.
لقد أثبت هذا الشكل من التعاون فعاليته من حيث أنه يسمح للدول الأوروبية القادرة والراغبة بتوفير اجوبة عملية للتحديات الأمنية للاتحاد دون مواجهة عقبات مؤسسية، أثناء إنشاء مجموعات جديدة من الدول مثل فريق عمل تاكوبا. ويسمح هذا للدول الأعضاء فقط في الاتحاد، مثل السويد، وتلك العضوة فقط في الناتو، مثل النرويج أو المملكة المتحدة، بتعزيز قدراتها في العمليات الخارجية.
على المدى الطويل، يمكن لهذا أن يفيد ظهور ثقافة استراتيجية وعملياتية مشتركة بين الأوروبيين، بشرط أن نكون مستعدين للتفكير في الأمن الأوروبي بما يتجاوز عضوية الدولة في الاتحاد أو الناتو.
ومع ذلك، من الأهمية بمكان أن تدرك الدول الأوروبية أن مثل هذه الأشكال لا يمكن أن تشكل سوى إضافة، أي دعما إضافيا للدفاع الأوروبي، لأن قدرات مثل هذه الأشكال لا تزال محدودة. يمكنها أن تكون بمثابة أدوات لإدارة الأزمات من حين لآخر، ولكن في غياب رؤية طويلة المدى، فإنها بالكاد ستحل محل دفاع أوروبي يتمتع بتفكير استراتيجي وأهداف واضحة.
ومع ذلك، وحتى يُظهر الأوروبيون إرادتهم السياسية في أن يترجم الاتحاد مثل هذا التفكير الاستراتيجي إلى أفعال، يمكن أن تشكل هذه الأشكال المرنة مساهمة مهمة في الدفاع الأوروبي، بل وتوفر حافزًا لمزيد من التعاون الدفاعي بين الأوروبيين داخل المؤسسات. والواقع، أن المادة 44 من معاهدة الاتحاد الأوروبي تنص فعلا على إمكانية تفويض مهمة تتعلق بسياسة الأمن والدفاع المشتركة لمجموعة من الدول الأعضاء الراغبة والقادرة؛
وبالتالي يمكن أن تعمل التحالفات المناسبة خارج الاتحاد الأوروبي على التحقّق من استخدام هذه المادة في المستقبل.
*منسقة برنامج صندوق مارشال الألماني في باريس ومتخصصة في السياسة الأمنية وتعمل كمحللة لمجموعة الدراسات الجيوسياسية.