تذكّر بموجة بداية القرن:

انتصار اليسار اللاتيني: وصفات موجة المدّ الاشتراكي

انتصار اليسار اللاتيني: وصفات موجة المدّ الاشتراكي

-- إذا فاز البرازيلي لولا في أكتوبر المقبل، فإن الاقتصادات الســـــبعة الأولــــى فـــي المنطقـــة ســــيقودها اليســـــار
-- هامش المناورة ضيق بالنسبة للقادة، فالعديد من الرؤساء المنتخبين، لا يتمتعون بأغلبية في البرلمان
-- لا شيء يوحي بأن هذه الحكومات ستقلل من التفاوت الاجتماعي وتولد النمو
-- مع ابتعاد الولايات المتحدة عن المنطقة، سيطرت الصين على أمريكا اللاتينية
-- عودة اليسار لا تعني الاتحاد المقدس حول الأفكار نفسها ، فكل رئيس يدافع عن قيم مختلفة


    تميل القارة إلى اليسار. إذا فاز لولا في البرازيل، فسوف يسيطر الاشتراكيون على الاقتصادات السبعة الأولى في القارة... ظاهرة غير مسبوقة! لكن يبقى الجزء الأصعب: الحكم.

  حتى قبل تنصيبه في 8 أغسطس في القصر الرئاسي في بوغوتا “ارتفاع: 2640 مترًا”، صنع جوستافو بيترو، 62 عامًا، التاريخ. تم انتخاب خرّيج جامعة لوفان الكاثوليكية ببلجيكا هذا يوم الأحد 19 يونيو، وهو ليس فقط أول رئيس يساري لكولومبيا، وانما أيضًا الوحيد الذي انضم إلى حركة حرب عصابات في سن 17 عامًا. مكونة من طلاب ونشطاء وفنانين، تهدف ام -19 إلى الاستيلاء على السلطة عبر العنف، بما في ذلك تنظيم عمليات احتجاز رهائن في المحكمة العليا وفي سفارة جمهورية الدومينيكان.

   اعتقل بترو عام 1985، وسجن ثمانية عشر شهرًا، وتعرّض للتعذيب، وشارك أخيرًا في حلّ هذه الحركة عام 1990، قبل ربع قرن من قيام مقاتلي فارك بدورهم بإلقاء أسلحتهم عام 2016. وها هو اليوم رئيس الدولة، محاطًا -جديد اخر -بنائب رئيس من السود “10 بالمائة من الكولومبيين منحدرين من أصل أفريقي”. من خلفية ريفية، فرانسيا ماركيز، 40 سنة، ناشطة بيئية عملت في المناجم ومعينة منزلية.

   يمثل انتخاب هذا “الثنائي” غير المسبوق مرحلة جديدة في سلسلة نجاحات اليسار اللاتيني، بعد المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور “2018”، والأرجنتيني ألبرتو فرنانديز “2019” ، والبوليفي لويس آرس “2020”، والبيروفي بيدرو كاستيلو “2021” ، وغابرييل بوريك، أصغر رئيس في تاريخ تشيلي، في منصبه منذ شهر مارس. وإذا فاز البرازيلي لولا، 76 عامًا، على بولسونارو في أكتوبر المقبل، فإن الاقتصادات السبعة الأولى في المنطقة سيقودها اليسار، حيث تمثل البرازيل والمكسيك وحدهما أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي وعدد سكان شبه القارة.

في أرض كاثوليكية، يزدهر اليسار أكثر من أي مكان آخر
   «الخطاب اليساري له صدى طبيعي لدى السكان، لأن هذا الأخير مشبع بشدة بالعقلية الكاثوليكية، يلاحظ في ليما الكاتب الليبرالي خوان كلاوديو ليتشين، وهو أيضًا ابن النقابي البوليفي الشهير خوان ليتشين (ومع ذلك) كما فعلت الكنيسة دائمًا، التي تمثل الليبرالية بالنسبة لها شرًا مطلقًا، يخاطب اليسار اللاتيني الفقراء دائمًا من خلال إعادة صياغة أفكار الأمل والإيمان والفداء والمساواة، دون ان يتمكن حقا من تقليص التفاوت.

    ويضيف ليتشين، مؤلف كتاب “أقنعة الفاشية”، حيث يسرد أوجه التشابه بين الديكتاتوريين الأوروبيين فرانكو وهتلر وموسوليني، والكوديلوس الأمريكيين اللاتينيين: “لأنهم مشبعون بالدين، فإن ناخبي اليسار يتقبلون الشعبوية المسيانية التي يجسدها بيرون وكاسترو وشافيز”. أما بالنسبة لليمين، فهو مشكلة أخرى: إذ إن ضميره الاجتماعي وإرادته في تعديل النظام القائم، أي الظلم، لم يتجلى بوضوح أبدًا.

   إن “الموجة الجديدة” الوردية، تذكرنا في كل الاحوال بموجة بداية القرن، والتي تميزت بقدوم هوغو شافيز “فنزويلا، 1999”، ريكاردو لاغوس “تشيلي، 2000”، لولا “البرازيل، 2002” أو حتى نيستور كيرشنر “الأرجنتين، 2003”. ولكن هناك فرق. في ذلك الوقت، كانت طفرة المواد الخام والنفط وفول الصويا في الصدارة، فقد ضمنت ازدهار فنزويلا والبرازيل، مما أدى إلى نخوة عابرة. بناءً على هذه المعجزة، لم تقم حكومات هذه البلدان بإصلاحات هيكلية. ثم غرقت فنزويلا والبرازيل في أزمات اجتماعية وسياسية خطيرة.

   بالإضافة إلى ذلك، مرّت الأزمة الاقتصادية العالمية وأزمة كوفيد من هناك. “الوضع في المنطقة حساس: يتوقع البنك الدولي نموًا بنسبة 2.2 بالمائة عام 2023، يلاحظ أستاذ العلوم السياسية الفرنسي -المكسيكي غاسبار استرادا، ولكن هناك نقطة إيجابية: ظهور بعض النقاشات أخيرًا، مثل تلك المتعلقة بالضرائب، والتي تشتهر بانخفاضها في أمريكا اللاتينية مقارنة ببلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي. قضية موضوعية أخرى: نقل بعض الصناعات التي غادرت الى الصين، والتي يمكن أن تعود إلى القارة، على سبيل المثال في أمريكا الوسطى، من أجل إعادة إنشاء سلاسل القيمة على عين المكان «.   

غير ان هامش المناورة ضيق بالنسبة للقادة: “العديد من الرؤساء المنتخبين، مثل بترو في كولومبيا أو كاستيلو في بيرو، لا يتمتعون بأغلبية في البرلمان، وهذا، بالمناسبة، ليس بالضرورة أمرًا سيئًا إذا اعتبرنا أن بعضهم يتحدث عن التأميم، تشير جينيفيف دي ريفيير، السفيرة السابقة لكندا في هذين البلدين، وكذلك في بوليفيا. ومع ذلك، لا شيء يخيف المستثمرين أكثر من “التأميم”، المرادف لهم بعدم الأمان القانوني. لقد رأى الجميع ما أنتجته سياسة التدخل في فنزويلا -كارثة -ولن يراهن أحد بفلس واحد على بلدان تشير اليه. إذا اختارت بيرو أو كولومبيا أو تشيلي هذا المسار، فستكون كارثة، لأن هذه البلدان، وجميعها مثقلة بالديون، بحاجة إلى اجتذاب رأس المال، وليس إخافته».

   وتضيف الدبلوماسية السابقة، التي ترأس اليوم مؤسسة فرنسا -أمريكا في باريس، بقليل من التشاؤم: “قد يكون للقادة الجدد، الذين وصلوا إلى السلطة من قبل ناخبين يائسين، أفضل النوايا في العالم، لكنهم لا يملكون الامكانيات، كما وعدوا، لزيادة الإنفاق العام للاستثمار في الصحة والتعليم والبنية التحتية والتوظيف. وتخلص إلى أن: “لا شيء يوحي بأن هذه الحكومات ستقلل من التفاوت الاجتماعي وتولد النمو».

   ان عودة اليسار لا تعني الاتحاد المقدس حول نفس الأفكار، فكل رئيس يدافع عن قيم مختلفة: المعلم السابق وزعيم الإضراب، البيروفي بيدرو كاستيلو، الكاثوليكي المتطرف، يرفض علنًا الإجهاض والمثلية الجنسية، على سبيل المثال، في حين أن التشيلي غابرييل بوريك والأرجنتيني ألبرتو فرنانديز، يؤيدان الإجهاض والحرية الجنسية.

   أخيرًا، من وجهة النظر الجيوسياسية، فإن عشرينات القرن الحادي والعشرين ليست مثل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في ذلك الوقت، كان لهوجو تشافيز وفيدل كاسترو التأثير الكبير؛ واحد بفضل عائدات النفط التي مكنته من “ريّ” الحكومات الصديقة، والآخر بفضل شخصيته. لكن اليوم، فر ما لا يقل عن 6 ملايين فنزويلي من بلدهم المنهار “في كولومبيا وحدها، وصل مليوني مهاجر من البلد المجاور” وتلاشى نجم كوبا الثوري، حتى مع بقاء شبكة نفوذها واستخباراتها حول العالم مثيرة.

   ومع ذلك، في الأثناء، حركت موسكو وبكين بيادقهما. وكما في الأيام الخوالي للحرب الباردة، أعاد فلاديمير بوتين إطلاق التعاون العسكري مع كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا. وفي خضم الحرب في أوكرانيا، وافق برلمان نيكاراغوا على دخول معدات عسكرية روسية الى أراضيه. ووفقًا للمرسوم 10-2022، ستكون القوات الروسية قادرة على المشاركة، اعتبارًا من 1 يوليو، في “تدريبات وتبادل في إطار عمليات المساعدات الإنسانية ومهام البحث والإنقاذ والإغاثة في حالات الطوارئ أو الكوارث الطبيعية، براً وجواً وبحراً مع قوات جيش نيكاراغوا».

   في ما كان يُعرف بـ “الحديقة الخلفية للأمريكيين”، يشبه هذا الإعلان الأخير أحد الاستفزازات التي وحدها موسكو تملك سرها دون أن يكون لديها بالضرورة الوسائل اللازمة لتجسيدها، حيث تركز جهدها العسكري بالكامل على شرق أوكرانيا. “إنها قبل كل شيء مسألة خطابية، ولكن البلاغة لها أهمية! يتابع أستاذ العلوم السياسية غاسبار إسترادا، من المرصد السياسي لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، الحقيقة هي أنه من حيث الدعاية، بفضل تأثير قناة روسيا اليوم ووسائل التواصل الاجتماعي، سجلت موسكو نقاطا في أمريكا اللاتينية خلال العقد الماضي».

  ومع ابتعاد الولايات المتحدة عن المنطقة، سيطرت الصين على أمريكا اللاتينية، كما أوضح للاكسبريس في ديسمبر الماضي.
   إعادة تنشيط البريكس؟ “إذا أصبح رئيسًا مرة أخرى، سيرغب لولا،” البطل “السابق لدبلوماسية جنوب-جنوب، بلا شك في تجديد علاقاته مع الصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا، تتوقع مارغريت مايرز، من مؤسسة الحوار بين أمريكا في واشنطن، لكن لا الصين ولا روسيا تبدوان كما كانتا قبل خمسة عشر عاما «.

   في هذا المشهد المضطرب، يبقى ثابت واحد: معاداة أمريكا -وهي أيضًا مناهضة لليبرالية. مثال؟ مقاطعة المكسيك ودول أخرى، في أوائل يونيو، لقمة الأمريكيتين التي نظمها جو بايدن. ويعزز انتخاب بترو في كولومبيا هذا الاتجاه، وربما تكون واشنطن قد خسرت للتو في بوغوتا أفضل حليف لها.

    تقليديا إلى اليمين أكثر من الدول الأخرى في المنطقة، لطالما كانت كولومبيا شريكًا متميزًا للأمريكان. تلقت الدولة الواقعة في جبال الأنديز 13 ألف دولار من المساعدات منذ التسعينات لمحاربة المخدرات وحرب العصابات. بالمناسبة، بدون نجاح كبير: في جبال الأنديز، وصل إنتاج الكوكايين إلى مستوى عالٍ تاريخيًا عام 2021. ومن سخرية التاريخ، أن مقاتلًا سابقًا في حرب العصابات يصل إلى السلطة. وما ان تم انتخاب جوستافو بيترو، أشار هذا الاخير إلى أنه يريد تجديد الحوار مع نيكولاس مادورو، نظيره وجاره الفنزويلي. “من المتوقع، تقترح مارغريت مايرز، أن العلاقة بين بوغوتا وواشنطن ستنحسر قليلاً».