انهيار امبراطورية الأثرياء بأوكرانيا

انهيار امبراطورية الأثرياء بأوكرانيا

منذ الغزو الروسي، خسرت طبقة الأثرياء القوية في أوكرانيا جزءاً كبيراً من ثروتها ونفوذها السياسي. ومع ذلك، فإن المعركة ضد الفساد الذي تعاني منه البلاد قد بدأت للتَو.
في صباح يوم 2 سبتمبر، ظهر عدد من الرجال الملثمين والمزودين بسترات مضادة للرصاص تحمل الأحرف الأولى من اسم «SBU» عند باب منزل ثري في دنيبرو، رابع أكبر مدينة في أوكرانيا. في مواجهتهم، وقف بوجه متجهم خلف نظارته ذات الإطار الرقيق صاحب المكان، الأوليغارشي إيهور كولومويسكي.
 ويأتي ضباط من أجهزة الأمن الأوكرانية لإعطائه «إشعارًا بالاشتباه» كجزء من التحقيق في «الاحتيال» و»غسل الأموال». تم تفتيش منزله ووضعه في الحبس الاحتياطي بعد فترة وجيزة، بكفالة قدرها 509 ملايين هريفنيا، أو أكثر من 1.3 مليون يورو. 
 
وتم تداول صورة للعملية، نشرتها الأجهزة الأمنية في الصباح نفسه، على نطاق واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، ثم تداولتها العديد من وسائل الإعلام. 
بالنسبة للعديد من المعلقين، فإن لائحة الاتهام الموجهة إلى رجل الأعمال الإسرائيلي القبرصي، الذي كان يعتبر حتى وقت قريب أحد أكثر رجال الأعمال نفوذا في البلاد، هي في الواقع رمزية.
 وربما يشير هذا إلى نهاية حصانة النخب الثرية التي هيمنت منذ عام 1991 على الحياة السياسية والاقتصادية في أوكرانيا.
 وقــــــد أعلن وزير العدل، دينيس ماليوسكا، على شــــبكات التواصل الاجتماعي، بعد دقائق قليلــــــة فقط من الإعـــــــلان عن لائحة الاتهام ضد كولومويســــــكي، أن «عصــــر القلـــــة قد انتهى «.
 
 
نهب كامل للدولة
 الحاكم السابق لمنطقة دنيبرو والمؤسس المشارك لـ»بريفات بنك « ، أكبر مؤسسة مصرفية في البلاد، إيهور كولومويسكي هو جزء من دائرة صغيرة من رجال الأعمال و»المديرين الحمر»: أحفاد الطبقة الإدارية السوفيتية ، الذي استغل، مع سقوط الاتحاد السوفييتي، موجات الخصخصة المتعاقبة للاستيلاء على الثروة الصناعية والتعدينية الهائلة في أوكرانيا، في ظل غموض كامل. فبسب عدم الاستقرار السياسي والفساد المستشري، يعمل الرجال الأقوياء الجدد في البلاد على بناء إمبراطوريات حقيقية، فيشترون ولاء أو صمت الشرطة والقضاة، في حين يستولون تدريجياً على مقاليد السلطة. 
 
وفي عام 2008، عندما سقطت أوكرانيا في أزمة اقتصادية كبرى، كانت الثروة المجمعة لأغنى خمسين شخصًا في أوكرانيا تعادل 85% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وفي الوقت نفسه، عانت الغالبية العظمى من السكان من انخفاض قيمة الهريفنيا، العملة الأوكرانية. 
 ومع وصول فيكتور يانوكوفيتش وحزب المناطق إلى السلطة في عام 2010، وصل نهب الدولة من قبل القلة إلى ذروته. ساهم الفساد والمحسوبية التي ميزت رئاسة فيكتور يانوكوفيتش في سقوطه خلال ثورة الميدان في عام 2014 ولن تكون الإصلاحات التي بدأها خليفته، قطب الشوكولاتة بيترو بوروشينكو، كافية لتحييد تأثير هؤلاء الاثرياء على الحياة السياسية للبلاد.  لكن الغزو الروسي في فبراير 2022 والدمار الذي أحدثه، أعاد خلط الأوراق. وبحسب «فوربس أوكرانيا»، فإن أغنى مائة شخص في البلاد عام 2021 حصلوا على غالبية دخلهم من قطاعات المعادن (17%) والطاقة (15%) والعقارات (12%)، الأكثر تضرراً من الحرب.
 
 في أقل من عام، تكبد الأوليغارشيون خسائر فادحة. ووفقا لدراسة نشرها مركز الإستراتيجية الاقتصادية، وهو معهد أبحاث مستقل، في نهاية عام 2022، فقد انخفضت ثروات رجال الأعمال الأوكرانيين الرئيسيين بمقدار 4.5 مليار دولار منذ بداية الغزو. 
 السبب لذلك كان تدمير البنية التحتية للطاقة النوعية والصناعية والنقل، بل وأيضاً المصادرة المنهجية التي تقوم بها السلطات الروسية للشركات والأصول التجارية والمنتجات الزراعية في الأراضي المحتلة. 
رينات أحمدوف، أغنى رجل في أوكرانيا، وهو من مواليد دونيتسك، هو الخاسر الأكبر بين هؤلاء .العديد من أصوله تقع في دونباس، وهي منطقة في شرق البلاد حيث تدور الحرب منذ عام 2014 وحيث يتركز القتال الآن. أغنى رجل في أوكرانيا هو أيضا بين كبار الخاسرين حيث تم تدمير مصانع أزوفستال وإيليتش للمعادن في ماريوبول، والتي تديرها شركة ميتينفيست، وهي شركة تابعة لشركتها القابضة سيستم كابيتال مانجمنت، أثناء حصار المدينة، ثم استولى عليها الجيش الروسي. واضطر مصنع أفدييفكا لفحم الكوك، وهو الأكبر في أوروبا، إلى وقف عملياته بعد تعرضه لأضرار بسبب الضربات الروسية، في حين ورد أن منشآت مجموعة دي تي إي كيه للطاقة، المملوكة لرينات أحمدوف، تعرضت للقصف 27 مرة منذ بداية الغزو. 
 
وفي يونيو 2022، قدم رجل الأعمال شكوى ضد روسيا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، يطالب فيها بتعويض قدره 10 مليارات دولار عن مصانعه في ماريوبول. 
ومن جانبه، أفادت التقارير أن إيهور كولومويسكي خسر أكثر من 400 مليون دولار بعد تدمير مصفاة كريمنشوك لتكرير النفط، وهي الأكبر في البلاد، في أبريل 2022، مما ساهم في انخفاض جذري في نفوذه السياسي. ولم يسلم بترو بوروشينكو أيضًا بحسب «فوربس»، حيث انخفضت ثروته من 1.6 مليار دولار إلى 700 مليون دولار بعد الغزو الروسي.  
 
وتشرح أناستاسيا فوميتشوفا، طالبة الدكتوراه في العلوم السياسية وعضو مركز الدراسات الأوكرانية بجامعة أوتاوا، أن «خسارة رأس المال الاقتصادي وتدمير أنظمة السلطة المحلية أدت إلى إعادة تشكيل نظام الأوليغارشية». وعلى الرغم من أن الخسائر المالية التي تكبدتها الأوليغارشيين كانت مذهلة، إلا أنها لا تشكل سوى واحد من العوامل لتراجع نفوذهم السياسي. وبحسب الباحثة، فإن فرض الأحكام العرفية حرم أيضًا النخب الاقتصادية من نفوذها التقليدي داخل الطبقة السياسية، من خلال إحداث تحول جذري في عمل المؤسسات. وتؤكد: «منذ فبراير 2022، تملي الأجندة السياسية احتياجات الحرب والتكامل الأوروبي». ويتم التصديق على الإصلاحات التي يتم إقرارها مسبقًا من قبل الحزب الرئاسي، الذي يتمتع بالأغلبية، وتكون المناقشات البرلمانية محدودة. « ووفقا للباحثة، فإن التغيير في العملية التشريعية قد أعاق استراتيجيات الأوليغارشيين، الذين استخدموا في السابق نواباً متعاطفين لاقتراح مشاريع قوانين لصالح مصالحهم الخاصة. لم يعان أحد من إعادة تشكيل المشهد السياسي الأوكراني أكثر من فيكتور ميدفيدتشوك، الذي اعتُبر لفترة طويلة واحداً من أكثر رجال حكم القِلة نفوذاً في البلاد. عشية الغزو، اتُهم هذا الصديق المقرب لفلاديمير بوتين بالخيانة العظمى لمشاركته في استخراج الغاز الطبيعي بشكل غير قانوني في البحر الأسود مع روسيا، ثم وُضع تحت الإقامة الجبرية. 
 
الفساد في مرمى الغربيين
 بعد أربعة أيام من بدء الغزو، يهرب فيكتور ميدفيدتشوك، قبل أن يتم القبض عليه أثناء محاولته مغادرة البلاد تم حظر حزبه المعارض «منصة من أجل الحياة» بموجب مرسوم أصدره الرئيس الأوكراني في مارس 2022 .
 و قد وأدى الضغط الذي مارسه شركاء أوكرانيا الغربيون إلى اعتماد تدابير رئيسية «لإزالة الأوليغارشية» ومكافحة الفساد، وهي شروط لا غنى عنها للبلاد.
 ولكي تكون الدولة قادرة على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فقد أثبتت أيضًا أنها حاسمة في الحد من نفوذ القلة. « وبفضل ضغوط الدول الحليفة، اضطرت الحكومة الأوكرانية إلى اتخاذ إجراءات ضد الفساد، رغم أن بعضها لم يكن مريحا على الإطلاق»، كما يؤكد ياروسلاف يورشيشين، نائب حزب «أصوات» والمدير التنفيذي السابق لمنظمة الشفافية الدولية. 
 
ثورة قانون مناهضة الأوليغارشية لعام 2021 
 قانون مناهضة الأوليغارشية، المعتمد في عام 2021، يفرض عليهم إعلانا شاملا عن دخل كبار الأثرياء، ويمنعهم من المشاركة في خصخصة الشركات الكبرى ومن تمويل الأحزاب السياسية. ويشكل هذا البند الأخير في حد ذاته ثورة حقيقية، على الرغم من أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي كان قد استفاد من دعم إيهور كولومويسكي خلال حملته الرئاسية. «قبل الحرب، كانت القرارات التي اتخذتها الحكومة تفيد هؤلاء الأولغارشيين . لكن مارك سافتشوك، رئيس المجلس الإشرافي للمكتب الوطني لمكافحة الفساد، قال إن الحرب غيرت الوضع.
 والآن بعد أن تولى زيلينسكي المزيد من الصلاحيات ولم يعد بحاجة إلى التنازل عنها، فإنه يقوم أخيرًا بتنفيذ الإصلاحات الضرورية.
 « «إن رغبة الحكومة في مهاجمة الأوليغارشية، والضغط من المجتمع المدني والشركاء الغربيين سيؤدي إلى إنشاء آليات مؤسسية فعالة لمكافحة المسامية بين المجالات الاقتصادية والسياسية»،كما تقول أنستازيا فوميتشوفا. 
وبشكل أكثر حذراً، يعتقد ياروسلاف يورتشيشين أن الأمر سوف يستغرق «سنوات» لتحييد الفساد والتأثير غير المتناسب الذي تمارسه حكومة القِلة على الحياة السياسية: «نحن في احتياج إلى نهج عالمي، يتضمن سياسة فعّالة لمكافحة الاحتكار، وزيادة الشفافية في المشتريات العامة، وتعزيز الشفافية» وتعزيز التعددية الإعلامية» .