رئيس الدولة والرئيس القبرصي يؤكدان أهمية العمل على ترسيخ أسباب السلام والاستقرار الإقليميين
بعد نشوة لمّ شمل الصين الحمراء وأكبر دولة رأسمالية
بعد 50 عامًا، زيارة نيكسون للصين تخلّف طعمًا مريرًا...!
-- كان كيسنجر يدرك منذ ذلك الوقت، أن هذا الرهان يمكن أن ينقلب يومًا ما ضد الولايات المتحدة
-- تبنّت الإدارات الأمريكية تدريجيــاً نظــرة مختلفـة للصين عن تلك التي كانت ســائدة عـام 1971
-- بينما تمكن نيكسون وكيسنجر من لعب ورقة الصين ضد الاتحاد السوفياتي، حان الآن دور بوتين وشي جين بينغ للعب الورقة نفسها ضد الولايات المتحدة وحلفائها
من 21 إلى 28 فبراير 1971، قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بزيارة لا تنسى إلى بكين، في أعقاب زيارة سرية قام بها هنري كيسنجر الذي أعدّ اعتراف الولايات المتحدة بالصين الشيوعية. بعد خمسين عاما، يا لها من خيبات أمل! الطّعم مرّ. بعد نشوة لمّ شمل الصين الحمراء وأكبر دولة رأسمالية، مرت السنوات لتنتهي اليوم بخيبة أمل شديدة في واشنطن. لأنه عوض عن أن يؤدي ذلك إلى انفتاح الصين، فإن هذا التقارب الصيني الأمريكي تسبّب في نقيضه: صين غازية وسلطوية تواجه أمريكا التي لم تعد رمزًا للديمقراطية.
كان وزير خارجية الرئيس نيكسون، هنري كيسنجر، هو الذي وضع عام 1971 الأسس لهذا التطبيع بين بكين وواشنطن خلال زيارة سرية للعاصمة الصينية، التقى فيها بأعيان النظام. لكنه في ذلك الوقت، كان يدرك أن هذا الرهان يمكن أن ينقلب يومًا ما ضد الولايات المتحدة. “عندما لم يعد هؤلاء الأشخاص بحاجة إلينا، سيكون من الصعب للغاية التحدث إليهم”، قال وزير الخارجية لأحد مساعديه بعد مقابلة مع مسؤول صيني. هنري كيسنجر، 99 عاما اليوم، لا يزال يحظى بتقدير كبير من قبل القادة الصينيين بدءً من الرئيس شي جين بينغ الذي استقبله مرة أخرى عام 2019 بكل التكريم في بكين.
عادت صحيفة لوموند الفرنسية في الآونة الاخيرة إلى الظروف التي أدت إلى هذه الزيارة السرية: “ الولايات المتحدة مدعوة لزيارة جمهورية الصين الشعبية، كتبت الصحيفة اليومية في 8 أبريل 1971، فقد دعا الأمين العام لوفد تنس الطاولة الصيني، السيد سونغ تشونغ، الاتحاد الأمريكي لزيارة الصين للعب سلسلة من المباريات هناك. تسببت الدعوة، التي صدرت في 7 أبريل في ناغويا باليابان، حيث تقام بطولة العالم حاليًا، في مفاجأة ما لان الصين رفضت في وقت سابق لقاء الكمبوديين والفيتناميين الجنوبيين».
منذ 13 أبريل، ظهر أول تبادل للكرة بين الصينيين والأمريكيين، وقد كانا حينها في حالة شبه عدائية منذ الحرب الكورية، في صفحات السياسة الخارجية، قبل أن يتصدّر الصفحة الأولى من صحيفة لوموند في السادس عشر. باليه كبير، أدى بعد ثلاثة أشهر وفي أقصى درجات السرية، إلى إقلاع مستشار ريتشارد نيكسون إلى بكين.
دبلوماسية بينغ بونغ
كانت القضية من الضخامة الى درجة أنه عندما تبادل لاعبا تنس الطاولة جلين كوان وتشوانغ تسي تونغ المجاملات في ناغويا، لم ينتبه أحد. خاصة أن الرأي العام الأمريكي والعالمي، المهووس بحرب فيتنام وكذلك الصراع الصيني السوفياتي الذي كاد يتحول إلى حرب نووية، لم يتابع دبلوماسية “عزيزي هنري” لإقامة علاقات مع بكين.
ولكن، بالتقاطه الكرة، ابتكر التكتيكي الماهر تشو إنلاي، رئيس الوزراء آنذاك، “دبلوماسية بينغ بونغ”. ولئن كان هناك تفاوض قائم على سياسة واقعية خالية من أي عاطفة، ولئن كان هناك مفاوضون صلفون وبلا ضمير، لحماية ما يعتقدون أنه المصالح الرئيسية لبلدهم، فإن لاعبي الشطرنج تشو إنلاي وهنري كيسنجر كانا يعملان لحساب رئيسيهما ماو تسي تونغ وريتشارد نيكسون.
على مدى عشرين عامًا، أصبحت الصين بالنسبة للولايات المتحدة، المطبوعة بالمقاومة الشديدة للشيوعية للأبوين الروحيين لريتشارد نيكسون، السناتور مكارثي وفوستر دالاس، رمز الشيوعية الأكثر شيطانية.
كان لا بد من احتوائها بجدار من النيران والتحالفات، وحماية الحليف التايواني. بالنسبة لماو، منذ الحرب الكورية، وحتى أثناء الثورة الثقافية، كانت أمريكا نوعًا من “الشيطان الأكبر” للرأسمالية والإمبريالية، العدو الرئيسي رغم أنها “نمر من ورق”، كما كان يحب أن يقول ماو.
ما الذي مكّن من تحقيق التقارب بين رئيسين معاديين لبعضهما البعض؟ كتب ريتشارد نيكسون بالتأكيد عام 1967: “الصين الحمراء تهدد، وتهديدها واضح، وحاضر “...” ومُلِح. من جهته، أكد ماو قبل ذلك بثلاث سنوات: “الإمبريالية الأمريكية هي ألد أعداء شعوب العالم”. لكن لكل منهما التصور نفسه عن التهديد السوفياتي في زمن البريجنفية المنتصرة، والتي شاهداها تتجلى في أوروبا مع غزو تشيكوسلوفاكيا عام 1968، وفي آسيا مع المناوشات على الحدود الصينية عام 1969.
يروي كيسنجر في مذكراته بتفصيل كبير كيف حدثت الاتصالات الأولى، في جو يليق بفيلم تجسس من الدرجة الثانية. إنه يسخر من الهوس الإعلامي لرئيسه، متناسيًا أنه شارك بطريقته الخاصة في الأمر نفسه ، ولكن على وجه الخصوص، إذا كان هو المبعوث الأمريكي لهذه القصة، فإن المحرض هو ريتشارد نيكسون. ومن خلال ذكرياته، وغيرها، يمكننا اعادة بناء هذا اللغز المدهش، على خلفية غزو كمبوديا وفضيحة ووترغيت.
رحلة كيسنجر السرية
بمجرد انتخابه، أدرك ريتشارد نيكسون الحاجة إلى إعادة الاتصال بالصين والاستفادة من الدبلوماسية “الثلاثية” الجديدة لإضعاف الاتحاد السوفياتي. وبمجرد انتخابه، أرسل بعض الإشارات إلى بكين التي لم تتخلف عن تلقيها وفكّ شفرتها: في مارس، فاتح الرئيس الأمريكي الجنرال ديغول “الذي اعترف بالجمهورية الشعبية عام 1964” بنيته بدء حوار، وطلب منه إعلام الصين.
أبلغ السفير الفرنسي حينها في بكين، إتيان ماناكه، تشو إنلاي. في نفس الوقت، قامت واشنطن ببعض “الإيماءات” الرمزية: على سبيل المثال، رفع الحظر المفروض على سفر الصحفيين والأكاديميين إلى الصين، وتعليق الدوريات البحرية في مضيق تايوان.
ولتغطية المسارات، خاصة تجاه حلفائهم “سايغون، تايبيه وطوكيو للولايات المتحدة، وهانوي للصين”، كان من الضروري اللجوء إلى مبعوثين سريين. إلا أن هذه الإرادة المحمومة لإتمام الصفقة قوبلت بحالات طارئة خارجية مؤسفة. أولاً، موقف الاتحاد السوفياتي، الذي كان قلقًا من هذا التقارب، لكن “ثقله”، وفقًا لهنري كيسنجر، خدم المتآمرين. وخصوصا، أدت سياسة نيكسون الخاصة بالهند الصينية إلى تأخير العملية: كان يصعب على الصينيين عدم الظهور كداعمين لحلفائهم الفيتناميين، وكذلك الأمير سيهانوك والخمير الحمر.
في مايو، انخرط ماو في خطاب مسعور ضد “الإمبرياليين الأمريكيين”، مع الحرص على عدم إعلان التدخل العسكري. في حين يتحدث البيت الأبيض عن “جمهورية شعبية”، وسمح باستئناف الاتصالات والتجارة مع بكين.
وهكذا، في قلب رحلة استطلاعية على ما يبدو عادية، أخذته من سايغون إلى باريس عبر نيودلهي وإسلام أباد، قام هنري كيسنجر بأول رحلة سرية له إلى بكين من 9 إلى 11 يوليو 1971.
كان من الضروري ابتكار مصدر قلق يجبر وزير الخارجية على بعض الراحة في العاصمة الباكستانية، لإحباط المراقبة، التي أصبحت محرجة، من قبل دبلوماسيين وأفراد من المخابرات الأمريكية، ليمتطي طائرة باكستانية في الصباح الباكر.
جرى كل شيء على أحسن ما يرام في بكين، حيث قاس الرجلان كل منهما الاخر، وعرفا إلى أي مدى يمكن أن يذهبا. في 15 يوليو، أبلغ بيان مشترك العالم المذهول بزيارة الرئيس الأمريكي لبكين عام 1972. احتفل ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر بانتصارهما بتناول وجبة سرطان البحر مع لافيت-روتشيلد 1961، في مطعم أنيق في لوس أنجلوس.
في 20 فبراير 1972، طار الرئيس الأمريكي إلى بكين وكان الاجتماع التاريخي مع ماو. في الخريف، حلت الجمهورية الشعبية محل تايوان في الأمم المتحدة. وعام 1974، أصبح جورج إتش دبليو بوش الممثل الأمريكي الرسمي في بكين. وفي 1 يناير 1979، أقام الصينيون والأمريكيون علاقات دبلوماسية.
عادت العلاقات بين البلدين إلى شكلها الجيد، مصحوبة بفرحة كبيرة للسياسيين ورجال الأعمال المهتمين بـ “الورقة” والسوق الصينية، حتى مذبحة ميدان تيانانمن في 4 يونيو 1989.
وهذا بلا شك، يفسر الأهمية التي اولاها الرئيس جورج بوش الأب لعلاقاته مع بكين. ومع ذلك، رغم حماسه للصين التي دفعته إلى التاريخ وصنعت شهرته كدبلوماسي، لم يستطع هنري كيسنجر عدم التحذير من المهارة الهائلة لشركائه: “يعرض السوفيات حسن نيتهم كثمن لمفاوضات ناجحة، ويستخدم الصينيون الصداقة كرسن لمواصلة المفاوضات؛ من خلال عرض الحميمية الشخصية، على الأقل ظاهريا، على المحاور، كما يتم وضع إكراهات غامضة على الادعاءات التي يمكنه تقديمها”... تحذير لا يزال ساريًا. صادفت زيارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إلى بكين عام 2002 الذكرى الثلاثين للاعتراف المتبادل بين العدوين السابقين. وقبل عشر سنوات، جمع شي جين بينغ، الذي كان على وشك تولي زمام السلطة في بكين، صانعي هذه المصالحة غير المتوقعة في العاصمة الصينية. وكان هناك أيضًا مستشارو الأمن القومي السابقون زبيغنيو بريجنسكي، وبرنت سكوكروفت، وبالطبع كيسنجر.
«تغييرات غير مسبوقة
على مدى قرن»
لكن بعد مرور خمسين عامًا، ساءت العلاقات بين القوتين العظميين في العالم بينما حققت روسيا والصين تقاربًا مذهلاً في الأشهر الأخيرة. وتعزّز هذا التقارب بشكل أكبر بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين، وهو أول رئيس دولة يصل إلى العاصمة الصينية قبل حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين. انقلاب مفاجئ للوضع: بينما في أوائل السبعينات، تمكّن نيكسون وكيسنجر من لعب ورقة الصين ضد الاتحاد السوفياتي، حان الآن دور بوتين وشي جين بينغ للعب الورقة نفسها ضد الولايات المتحدة وحلفائها.
ربما شعر هنري كيسنجر بالفطرة بأن القيادة الشيوعية الصينية سوف تنقلب يومًا ما ضد أمريكا بمجرد أن تمتلك القدرات العسكرية والدبلوماسية. لذا فإن مدحه للصين الجديدة يتردد صداه بشكل غريب اليوم حيث تتصادم بكين وواشنطن أكثر من أي وقت مضى بشأن مسائل اقتصادية وسياسية وخاصة أيديولوجية. وفي قلب هذه المواجهة، أرخبيل تايوان. لذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سينتهي الأمر بالصين والولايات المتحدة الى شن حرب ساخنة محورها هذا الموضوع الحساس؟
في الوقت الحاضر، تنطلق الألسنة في العاصمة الأمريكية. وهكذا لا يتردد الخبير الأمريكي في الشؤون الصينية، راش دوشي، في شرح طبيعة هذا التهديد الصيني في كتاب نُشر مؤخرًا بعنوان “اللعبة الطويلة: استراتيجية الصين العظمى لإزاحة النظام الأمريكي”. بعد أن اختبأت في الظل في وجه التفوق العسكري الأمريكي الذي لا يرقى إليه شك، كتب دوشي، أصبحت الصين الآن متعجرفة وحازمة، واثقة من أنها لن تُعاقب على المسرح الدولي رغم كل أفعالها السيئة، ويرجع ذلك أساسًا إلى قوتها الاقتصادية، ولكن أيضًا بسبب نزعة قومية متفاقمة في البلاد.
ووفق راش دوشي، الذي أصبح اليوم عضوًا في مجلس الأمن القومي للرئيس جو بايدن، ابتليت الصين باختلافات داخلية، وفي مواجهة قوة عسكرية مهيمنة للولايات المتحدة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. كانت هذه القوة مبهرة مع سقوط الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى. لكن الأزمة المالية لعام 2008 بدأت في تغيير هذا المنظور، حيث لاحظت بكين وهن العملاق الأمريكي.
أدى انتخاب دونالد ترامب عام 2016 ودخوله البيت الأبيض، ثم الفوضى التي أثارتها الإدارة السيئة لوباء كوفيد-19 إلى إطلاق مرحلة جديدة: أصبحت القيادة الصينية مقتنعة بأن أمريكا دخلت الآن مرحلة انحدار لا رجعة فيها. وحوالي عام 2016، لاحظت بكين ضعف الغرب، وبدأت الدعاية الصينية في الإشارة الى “تغييرات غير مسبوقة منذ قرن” في العالم لمصلحتها.
العمى وخيبة الأمل الأمريكية
يا له من انقلاب بالنسبة للصين، التي تعرضت للإذلال خلال حربي الأفيون في نهاية القرن التاسع عشر، عندما اذعنت الى التوقيع على “معاهدات غير متكافئة” أجبرتها على فتح موانئ أمام الإمبرياليين الغربيين في تجارة هذا المخدر. لقد بدأت الصين الانتقام... وهذا الانتقام يواصل طريقه الآن. في الوقت الحاضر، كل شيء متضاد بين بكين وواشنطن، ربما باستثناء تعاونهما الفاتر في مكافحة تغيّر المناخ. لكن بالنسبة للبقية، لا شيء يعمل. تستمر المنافسة في التزايد في المجالات العسكرية والتكنولوجية والتجارية والجيوسياسية والأيديولوجية، لا سيما في منطقة المحيطين الهندي والهادي.
بدأت خيبة الأمل الأمريكية بعد أن انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. ولولا مساعدة الولايات المتحدة، لما أصبحت الصين على الأرجح عضوًا في منظمة التجارة العالمية. ومنذئذ، أدرك الأمريكيون والدول الغربية الأخرى، أن الصين لم تنفتح على العالم الخارجي فحسب، بل إنها خانت جميع وعودها تقريبًا.
لقد كانت الولايات المتحدة، اذن، عمياء. “النظر إلى ما حدث مؤلم لأنه يتعلق بالكثير من السذاجة”، يشرح مايكل بيلسبري المسؤول السابق بوزارة الدفاع الأمريكية ومن قدماء المفاوضات الصينية الأمريكية، لصحيفة “نيكاي آسيا” اليومية. ومن بين الذين قد يكونون عانوا من العمى وتعافوا منه، هانك بولسون، وزير الخزانة الأمريكي الأسبق ورئيس بنك جولدمان ساكس الآن. الى فترة قريبة كان متحمّسا للشراكة مع الصين، مثله مثل غالبية مجتمع الأعمال الأمريكي، وقد غيّر اليوم بشكل جذري لهجته ليعلن أن الصين تشكل تهديدًا وجوديًا لأمريكا.
وفي منتصف فترة رئاسة ترامب، سبق لبولسون ان أعلن صراحةً أن العديد من الشركات الأمريكية أصبحت “متشككة وحتى معادية بعد أن كانت من المدافعين” عن السياسة التجارية الأمريكية تجاه الصين.
وعود نيكسون وكيسنجر
إلى جانب تايوان، كانت اليابان، الحليف الوثيق للولايات المتحدة، ضحية أخرى للتطبيع الصيني الأمريكي. ولكن اليوم، أصبح الأرخبيل الياباني معاديًا بشدة للصين. وأوضحت التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي، ورئيس الوزراء الياباني الحالي فوميو كيشيدا، أنه في حال نشوب حرب في تايوان، فإن اليابان ستقف بلا تردد إلى جانب الولايات المتحدة. لكن تايبيه بلا شك هي التي خانها هذا التطبيع. يوضح كيسنجر في مذكراته أن فورموزا القديمة بالكاد ذُكرت خلال مناقشاته مع تشو إنلاي عام 1971.
لكن الوثائق التي رفعت عنها السرية الآن، تُظهر بدلاً من ذلك أن رئيس الوزراء الصيني السابق أصر بشدة على أن واشنطن يجب أن تتخلى عن تايوان حتى توافق الصين على تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.
من الواضح أن كيسنجر قرر فعلا التخلي عن تايوان ليدفع الصين الى الاقتراب أكثر من أمريكا للوقوف معًا ضد الاتحاد السوفياتي. وكما أوضحت المؤرخة نانسي بيرنكوبف تاكر لاحقًا، عرض كيسنجر على الصين أكثر بكثير مما كان يمكن أن تتمناه من خلال الموافقة على سحب الولايات المتحدة لأي وجود عسكري على الأراضي التايوانية، واعتناق مفهوم “الصين الواحدة”، وبالتالي الاعتراف بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين الشعبية.
«كانت وعود “نيكسون وكيسنجر” أكبر، وحلولهما الوسط جوهرية أكثر، وتنازلاتهما أساسية وأكثر عمقا، مما اعتقدا أنها مقبولة للشعب الأمريكي، كتبت هذه المؤرخة عام 2005، ولهذا السبب اللجوء إلى السرية لإخفاء الأضرار الجانبية” لهذه التنازلات.
في الواقع، يبدو أن كيسنجر تعرض للترهيب من قبل تشو إنلاي، وخاصة ماو. وفي مواجهة الغضب الذي أعرب عنه الكونجرس الأمريكي أمام هذا التخلي عن حليف مناهض للشيوعية، وافق نيكسون على أن يصوّت هذا الكونجرس نفسه عام 1979 على قانون العلاقات التايوانية الشهير الذي تعهدت بموجبه الولايات المتحدة بتزويد تايوان بالأسلحة بكميات كافية لتمكينها من الدفاع عن نفسها في حال عدوان عسكري. وكان هذا هو التنازل الوحيد للرئيس الأمريكي في ذلك الوقت.
«العودة إلى روح زيارة نيكسون»
منذئذ، لم تتوقف الصين أبدًا عن المطالبة بتايوان كجزء من أراضيها. في نهاية عام 2021، أشار تشاو ليجيان، أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الصينية، إلى أن مبدأ “الصين الواحدة” يشكل “الأساس للتنمية السياسية المستقرة للعلاقات بين الصين والولايات المتحدة».
أما بالنسبة إلى شي جين بينغ، فلم يعد يتردد في التلويح بتهديد التدخل العسكري إذا استمرت سلطات تايوان في رفضها التفاوض بشأن إعادة توحيد الجزيرة تحت راية الحزب الشيوعي الصيني. كما أشار إلى أن إعادة التوحيد هذه يجب أن تتم بالضرورة “خلال الجيل الحالي».
اليوم، يدرك القادة الأمريكيون، ربما متأخرين، أنهم كانوا مخطئين بشكل خطير. هل ما زال هناك متسع من الوقت للعودة إلى المسار الصحيح؟ نعم طبعا... لأن احتمال نشوب حرب في تايوان اليوم بعيد، حيث أعربت العديد من الدول عن تضامنها مع تايوان. فبالإضافة إلى الولايات المتحدة التي أشارت بوضوح، على لسان رئيسها جو بايدن، إلى أنها ستدافع عن الجزيرة في حال تعرضها لهجوم صيني، فان اليابان وأستراليا والهند وفيتنام، وبدرجة أقل، كوريا الجنوبية، أعربت جميعها بوضوح عن دعمها لتايوان.
يوم الاثنين، 21 فبراير، دعت وزارة الخارجية الصينية الأمريكيين للعودة إلى روح تلك الزيارة التي قام بها نيكسون قبل خمسين عامًا. إن “الخلافات والصراعات بين البلدين أمر لا مفر منه، لكن المفتاح هو الإدارة الفعالة من خلال الاتصالات الصريحة لمنع الحسابات الاستراتيجية الخاطئة ومنع المواجهة”، هكذا صرح وانغ وين بن، المتحدث باسم الوزارة، مذكّرا ببيان شنغهاي الشهير الذي اعتمد خلال تلك الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي عام 1972: قبلت الولايات المتحدة مبدأ “الصين الواحدة” و”المبادئ الخمسة للتعايش السلمي”، بما في ذلك الاحترام المتبادل وسيادة وسلامة أراضي جميع البلدان، وعدم الاعتداء وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، شدّد وانغ ون بن.
و”ما دمنا نتمسك بالاحترام المتبادل”، تابع المتحدث الرسمي، وطالما أننا نسعى إلى أرضية مشتركة رغم خلافاتنا، وتحقيق تعاون يكسب فيه الجميع، يمكننا التغلب على خلافاتنا وجني المنافع المشتركة وتحقيق التعايش السلمي بين بلدينا اللذين يعتمدان أنظمة اجتماعية ومسارات للتنمية مختلفة”. ان المشاكل الحالية بين بكين وواشنطن تعود إلى “بعض الاشخاص في الولايات المتحدة” الذين لديهم “تصور خطأ للصين، ويرون الصين كمنافس استراتيجي وحتى ‘عدو وهمي’، نأمل أن تنضم الولايات المتحدة إلى الصين باستخلاص الدروس والحكمة التي سادت على مدى السنوات الخمسين الماضية من التاريخ” من أجل “العودة إلى طريق صحي ومستقر لتنمية العلاقات الصينية الأمريكية».
لا شك أنه هذه سيُنظر الى هذه الرسالة في واشنطن ببعض الارتياب. لأن الإدارات الأمريكية تبنت تدريجياً نظرة مختلفة للصين عن تلك التي كانت سائدة عام 1971.
مؤلف حوالي خمسة عشر كتابًا مخصصة للصين واليابان والتبت والهند والتحديات الآسيوية الرئيسية. عام 2020، نشر كتاب “الزعامة العالمية محوره، الصدام بين الصين والولايات المتحدة” عن منشورات لوب.
-- تبنّت الإدارات الأمريكية تدريجيــاً نظــرة مختلفـة للصين عن تلك التي كانت ســائدة عـام 1971
-- بينما تمكن نيكسون وكيسنجر من لعب ورقة الصين ضد الاتحاد السوفياتي، حان الآن دور بوتين وشي جين بينغ للعب الورقة نفسها ضد الولايات المتحدة وحلفائها
من 21 إلى 28 فبراير 1971، قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بزيارة لا تنسى إلى بكين، في أعقاب زيارة سرية قام بها هنري كيسنجر الذي أعدّ اعتراف الولايات المتحدة بالصين الشيوعية. بعد خمسين عاما، يا لها من خيبات أمل! الطّعم مرّ. بعد نشوة لمّ شمل الصين الحمراء وأكبر دولة رأسمالية، مرت السنوات لتنتهي اليوم بخيبة أمل شديدة في واشنطن. لأنه عوض عن أن يؤدي ذلك إلى انفتاح الصين، فإن هذا التقارب الصيني الأمريكي تسبّب في نقيضه: صين غازية وسلطوية تواجه أمريكا التي لم تعد رمزًا للديمقراطية.
كان وزير خارجية الرئيس نيكسون، هنري كيسنجر، هو الذي وضع عام 1971 الأسس لهذا التطبيع بين بكين وواشنطن خلال زيارة سرية للعاصمة الصينية، التقى فيها بأعيان النظام. لكنه في ذلك الوقت، كان يدرك أن هذا الرهان يمكن أن ينقلب يومًا ما ضد الولايات المتحدة. “عندما لم يعد هؤلاء الأشخاص بحاجة إلينا، سيكون من الصعب للغاية التحدث إليهم”، قال وزير الخارجية لأحد مساعديه بعد مقابلة مع مسؤول صيني. هنري كيسنجر، 99 عاما اليوم، لا يزال يحظى بتقدير كبير من قبل القادة الصينيين بدءً من الرئيس شي جين بينغ الذي استقبله مرة أخرى عام 2019 بكل التكريم في بكين.
عادت صحيفة لوموند الفرنسية في الآونة الاخيرة إلى الظروف التي أدت إلى هذه الزيارة السرية: “ الولايات المتحدة مدعوة لزيارة جمهورية الصين الشعبية، كتبت الصحيفة اليومية في 8 أبريل 1971، فقد دعا الأمين العام لوفد تنس الطاولة الصيني، السيد سونغ تشونغ، الاتحاد الأمريكي لزيارة الصين للعب سلسلة من المباريات هناك. تسببت الدعوة، التي صدرت في 7 أبريل في ناغويا باليابان، حيث تقام بطولة العالم حاليًا، في مفاجأة ما لان الصين رفضت في وقت سابق لقاء الكمبوديين والفيتناميين الجنوبيين».
منذ 13 أبريل، ظهر أول تبادل للكرة بين الصينيين والأمريكيين، وقد كانا حينها في حالة شبه عدائية منذ الحرب الكورية، في صفحات السياسة الخارجية، قبل أن يتصدّر الصفحة الأولى من صحيفة لوموند في السادس عشر. باليه كبير، أدى بعد ثلاثة أشهر وفي أقصى درجات السرية، إلى إقلاع مستشار ريتشارد نيكسون إلى بكين.
دبلوماسية بينغ بونغ
كانت القضية من الضخامة الى درجة أنه عندما تبادل لاعبا تنس الطاولة جلين كوان وتشوانغ تسي تونغ المجاملات في ناغويا، لم ينتبه أحد. خاصة أن الرأي العام الأمريكي والعالمي، المهووس بحرب فيتنام وكذلك الصراع الصيني السوفياتي الذي كاد يتحول إلى حرب نووية، لم يتابع دبلوماسية “عزيزي هنري” لإقامة علاقات مع بكين.
ولكن، بالتقاطه الكرة، ابتكر التكتيكي الماهر تشو إنلاي، رئيس الوزراء آنذاك، “دبلوماسية بينغ بونغ”. ولئن كان هناك تفاوض قائم على سياسة واقعية خالية من أي عاطفة، ولئن كان هناك مفاوضون صلفون وبلا ضمير، لحماية ما يعتقدون أنه المصالح الرئيسية لبلدهم، فإن لاعبي الشطرنج تشو إنلاي وهنري كيسنجر كانا يعملان لحساب رئيسيهما ماو تسي تونغ وريتشارد نيكسون.
على مدى عشرين عامًا، أصبحت الصين بالنسبة للولايات المتحدة، المطبوعة بالمقاومة الشديدة للشيوعية للأبوين الروحيين لريتشارد نيكسون، السناتور مكارثي وفوستر دالاس، رمز الشيوعية الأكثر شيطانية.
كان لا بد من احتوائها بجدار من النيران والتحالفات، وحماية الحليف التايواني. بالنسبة لماو، منذ الحرب الكورية، وحتى أثناء الثورة الثقافية، كانت أمريكا نوعًا من “الشيطان الأكبر” للرأسمالية والإمبريالية، العدو الرئيسي رغم أنها “نمر من ورق”، كما كان يحب أن يقول ماو.
ما الذي مكّن من تحقيق التقارب بين رئيسين معاديين لبعضهما البعض؟ كتب ريتشارد نيكسون بالتأكيد عام 1967: “الصين الحمراء تهدد، وتهديدها واضح، وحاضر “...” ومُلِح. من جهته، أكد ماو قبل ذلك بثلاث سنوات: “الإمبريالية الأمريكية هي ألد أعداء شعوب العالم”. لكن لكل منهما التصور نفسه عن التهديد السوفياتي في زمن البريجنفية المنتصرة، والتي شاهداها تتجلى في أوروبا مع غزو تشيكوسلوفاكيا عام 1968، وفي آسيا مع المناوشات على الحدود الصينية عام 1969.
يروي كيسنجر في مذكراته بتفصيل كبير كيف حدثت الاتصالات الأولى، في جو يليق بفيلم تجسس من الدرجة الثانية. إنه يسخر من الهوس الإعلامي لرئيسه، متناسيًا أنه شارك بطريقته الخاصة في الأمر نفسه ، ولكن على وجه الخصوص، إذا كان هو المبعوث الأمريكي لهذه القصة، فإن المحرض هو ريتشارد نيكسون. ومن خلال ذكرياته، وغيرها، يمكننا اعادة بناء هذا اللغز المدهش، على خلفية غزو كمبوديا وفضيحة ووترغيت.
رحلة كيسنجر السرية
بمجرد انتخابه، أدرك ريتشارد نيكسون الحاجة إلى إعادة الاتصال بالصين والاستفادة من الدبلوماسية “الثلاثية” الجديدة لإضعاف الاتحاد السوفياتي. وبمجرد انتخابه، أرسل بعض الإشارات إلى بكين التي لم تتخلف عن تلقيها وفكّ شفرتها: في مارس، فاتح الرئيس الأمريكي الجنرال ديغول “الذي اعترف بالجمهورية الشعبية عام 1964” بنيته بدء حوار، وطلب منه إعلام الصين.
أبلغ السفير الفرنسي حينها في بكين، إتيان ماناكه، تشو إنلاي. في نفس الوقت، قامت واشنطن ببعض “الإيماءات” الرمزية: على سبيل المثال، رفع الحظر المفروض على سفر الصحفيين والأكاديميين إلى الصين، وتعليق الدوريات البحرية في مضيق تايوان.
ولتغطية المسارات، خاصة تجاه حلفائهم “سايغون، تايبيه وطوكيو للولايات المتحدة، وهانوي للصين”، كان من الضروري اللجوء إلى مبعوثين سريين. إلا أن هذه الإرادة المحمومة لإتمام الصفقة قوبلت بحالات طارئة خارجية مؤسفة. أولاً، موقف الاتحاد السوفياتي، الذي كان قلقًا من هذا التقارب، لكن “ثقله”، وفقًا لهنري كيسنجر، خدم المتآمرين. وخصوصا، أدت سياسة نيكسون الخاصة بالهند الصينية إلى تأخير العملية: كان يصعب على الصينيين عدم الظهور كداعمين لحلفائهم الفيتناميين، وكذلك الأمير سيهانوك والخمير الحمر.
في مايو، انخرط ماو في خطاب مسعور ضد “الإمبرياليين الأمريكيين”، مع الحرص على عدم إعلان التدخل العسكري. في حين يتحدث البيت الأبيض عن “جمهورية شعبية”، وسمح باستئناف الاتصالات والتجارة مع بكين.
وهكذا، في قلب رحلة استطلاعية على ما يبدو عادية، أخذته من سايغون إلى باريس عبر نيودلهي وإسلام أباد، قام هنري كيسنجر بأول رحلة سرية له إلى بكين من 9 إلى 11 يوليو 1971.
كان من الضروري ابتكار مصدر قلق يجبر وزير الخارجية على بعض الراحة في العاصمة الباكستانية، لإحباط المراقبة، التي أصبحت محرجة، من قبل دبلوماسيين وأفراد من المخابرات الأمريكية، ليمتطي طائرة باكستانية في الصباح الباكر.
جرى كل شيء على أحسن ما يرام في بكين، حيث قاس الرجلان كل منهما الاخر، وعرفا إلى أي مدى يمكن أن يذهبا. في 15 يوليو، أبلغ بيان مشترك العالم المذهول بزيارة الرئيس الأمريكي لبكين عام 1972. احتفل ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر بانتصارهما بتناول وجبة سرطان البحر مع لافيت-روتشيلد 1961، في مطعم أنيق في لوس أنجلوس.
في 20 فبراير 1972، طار الرئيس الأمريكي إلى بكين وكان الاجتماع التاريخي مع ماو. في الخريف، حلت الجمهورية الشعبية محل تايوان في الأمم المتحدة. وعام 1974، أصبح جورج إتش دبليو بوش الممثل الأمريكي الرسمي في بكين. وفي 1 يناير 1979، أقام الصينيون والأمريكيون علاقات دبلوماسية.
عادت العلاقات بين البلدين إلى شكلها الجيد، مصحوبة بفرحة كبيرة للسياسيين ورجال الأعمال المهتمين بـ “الورقة” والسوق الصينية، حتى مذبحة ميدان تيانانمن في 4 يونيو 1989.
وهذا بلا شك، يفسر الأهمية التي اولاها الرئيس جورج بوش الأب لعلاقاته مع بكين. ومع ذلك، رغم حماسه للصين التي دفعته إلى التاريخ وصنعت شهرته كدبلوماسي، لم يستطع هنري كيسنجر عدم التحذير من المهارة الهائلة لشركائه: “يعرض السوفيات حسن نيتهم كثمن لمفاوضات ناجحة، ويستخدم الصينيون الصداقة كرسن لمواصلة المفاوضات؛ من خلال عرض الحميمية الشخصية، على الأقل ظاهريا، على المحاور، كما يتم وضع إكراهات غامضة على الادعاءات التي يمكنه تقديمها”... تحذير لا يزال ساريًا. صادفت زيارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إلى بكين عام 2002 الذكرى الثلاثين للاعتراف المتبادل بين العدوين السابقين. وقبل عشر سنوات، جمع شي جين بينغ، الذي كان على وشك تولي زمام السلطة في بكين، صانعي هذه المصالحة غير المتوقعة في العاصمة الصينية. وكان هناك أيضًا مستشارو الأمن القومي السابقون زبيغنيو بريجنسكي، وبرنت سكوكروفت، وبالطبع كيسنجر.
«تغييرات غير مسبوقة
على مدى قرن»
لكن بعد مرور خمسين عامًا، ساءت العلاقات بين القوتين العظميين في العالم بينما حققت روسيا والصين تقاربًا مذهلاً في الأشهر الأخيرة. وتعزّز هذا التقارب بشكل أكبر بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين، وهو أول رئيس دولة يصل إلى العاصمة الصينية قبل حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين. انقلاب مفاجئ للوضع: بينما في أوائل السبعينات، تمكّن نيكسون وكيسنجر من لعب ورقة الصين ضد الاتحاد السوفياتي، حان الآن دور بوتين وشي جين بينغ للعب الورقة نفسها ضد الولايات المتحدة وحلفائها.
ربما شعر هنري كيسنجر بالفطرة بأن القيادة الشيوعية الصينية سوف تنقلب يومًا ما ضد أمريكا بمجرد أن تمتلك القدرات العسكرية والدبلوماسية. لذا فإن مدحه للصين الجديدة يتردد صداه بشكل غريب اليوم حيث تتصادم بكين وواشنطن أكثر من أي وقت مضى بشأن مسائل اقتصادية وسياسية وخاصة أيديولوجية. وفي قلب هذه المواجهة، أرخبيل تايوان. لذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سينتهي الأمر بالصين والولايات المتحدة الى شن حرب ساخنة محورها هذا الموضوع الحساس؟
في الوقت الحاضر، تنطلق الألسنة في العاصمة الأمريكية. وهكذا لا يتردد الخبير الأمريكي في الشؤون الصينية، راش دوشي، في شرح طبيعة هذا التهديد الصيني في كتاب نُشر مؤخرًا بعنوان “اللعبة الطويلة: استراتيجية الصين العظمى لإزاحة النظام الأمريكي”. بعد أن اختبأت في الظل في وجه التفوق العسكري الأمريكي الذي لا يرقى إليه شك، كتب دوشي، أصبحت الصين الآن متعجرفة وحازمة، واثقة من أنها لن تُعاقب على المسرح الدولي رغم كل أفعالها السيئة، ويرجع ذلك أساسًا إلى قوتها الاقتصادية، ولكن أيضًا بسبب نزعة قومية متفاقمة في البلاد.
ووفق راش دوشي، الذي أصبح اليوم عضوًا في مجلس الأمن القومي للرئيس جو بايدن، ابتليت الصين باختلافات داخلية، وفي مواجهة قوة عسكرية مهيمنة للولايات المتحدة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. كانت هذه القوة مبهرة مع سقوط الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى. لكن الأزمة المالية لعام 2008 بدأت في تغيير هذا المنظور، حيث لاحظت بكين وهن العملاق الأمريكي.
أدى انتخاب دونالد ترامب عام 2016 ودخوله البيت الأبيض، ثم الفوضى التي أثارتها الإدارة السيئة لوباء كوفيد-19 إلى إطلاق مرحلة جديدة: أصبحت القيادة الصينية مقتنعة بأن أمريكا دخلت الآن مرحلة انحدار لا رجعة فيها. وحوالي عام 2016، لاحظت بكين ضعف الغرب، وبدأت الدعاية الصينية في الإشارة الى “تغييرات غير مسبوقة منذ قرن” في العالم لمصلحتها.
العمى وخيبة الأمل الأمريكية
يا له من انقلاب بالنسبة للصين، التي تعرضت للإذلال خلال حربي الأفيون في نهاية القرن التاسع عشر، عندما اذعنت الى التوقيع على “معاهدات غير متكافئة” أجبرتها على فتح موانئ أمام الإمبرياليين الغربيين في تجارة هذا المخدر. لقد بدأت الصين الانتقام... وهذا الانتقام يواصل طريقه الآن. في الوقت الحاضر، كل شيء متضاد بين بكين وواشنطن، ربما باستثناء تعاونهما الفاتر في مكافحة تغيّر المناخ. لكن بالنسبة للبقية، لا شيء يعمل. تستمر المنافسة في التزايد في المجالات العسكرية والتكنولوجية والتجارية والجيوسياسية والأيديولوجية، لا سيما في منطقة المحيطين الهندي والهادي.
بدأت خيبة الأمل الأمريكية بعد أن انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. ولولا مساعدة الولايات المتحدة، لما أصبحت الصين على الأرجح عضوًا في منظمة التجارة العالمية. ومنذئذ، أدرك الأمريكيون والدول الغربية الأخرى، أن الصين لم تنفتح على العالم الخارجي فحسب، بل إنها خانت جميع وعودها تقريبًا.
لقد كانت الولايات المتحدة، اذن، عمياء. “النظر إلى ما حدث مؤلم لأنه يتعلق بالكثير من السذاجة”، يشرح مايكل بيلسبري المسؤول السابق بوزارة الدفاع الأمريكية ومن قدماء المفاوضات الصينية الأمريكية، لصحيفة “نيكاي آسيا” اليومية. ومن بين الذين قد يكونون عانوا من العمى وتعافوا منه، هانك بولسون، وزير الخزانة الأمريكي الأسبق ورئيس بنك جولدمان ساكس الآن. الى فترة قريبة كان متحمّسا للشراكة مع الصين، مثله مثل غالبية مجتمع الأعمال الأمريكي، وقد غيّر اليوم بشكل جذري لهجته ليعلن أن الصين تشكل تهديدًا وجوديًا لأمريكا.
وفي منتصف فترة رئاسة ترامب، سبق لبولسون ان أعلن صراحةً أن العديد من الشركات الأمريكية أصبحت “متشككة وحتى معادية بعد أن كانت من المدافعين” عن السياسة التجارية الأمريكية تجاه الصين.
وعود نيكسون وكيسنجر
إلى جانب تايوان، كانت اليابان، الحليف الوثيق للولايات المتحدة، ضحية أخرى للتطبيع الصيني الأمريكي. ولكن اليوم، أصبح الأرخبيل الياباني معاديًا بشدة للصين. وأوضحت التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي، ورئيس الوزراء الياباني الحالي فوميو كيشيدا، أنه في حال نشوب حرب في تايوان، فإن اليابان ستقف بلا تردد إلى جانب الولايات المتحدة. لكن تايبيه بلا شك هي التي خانها هذا التطبيع. يوضح كيسنجر في مذكراته أن فورموزا القديمة بالكاد ذُكرت خلال مناقشاته مع تشو إنلاي عام 1971.
لكن الوثائق التي رفعت عنها السرية الآن، تُظهر بدلاً من ذلك أن رئيس الوزراء الصيني السابق أصر بشدة على أن واشنطن يجب أن تتخلى عن تايوان حتى توافق الصين على تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.
من الواضح أن كيسنجر قرر فعلا التخلي عن تايوان ليدفع الصين الى الاقتراب أكثر من أمريكا للوقوف معًا ضد الاتحاد السوفياتي. وكما أوضحت المؤرخة نانسي بيرنكوبف تاكر لاحقًا، عرض كيسنجر على الصين أكثر بكثير مما كان يمكن أن تتمناه من خلال الموافقة على سحب الولايات المتحدة لأي وجود عسكري على الأراضي التايوانية، واعتناق مفهوم “الصين الواحدة”، وبالتالي الاعتراف بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين الشعبية.
«كانت وعود “نيكسون وكيسنجر” أكبر، وحلولهما الوسط جوهرية أكثر، وتنازلاتهما أساسية وأكثر عمقا، مما اعتقدا أنها مقبولة للشعب الأمريكي، كتبت هذه المؤرخة عام 2005، ولهذا السبب اللجوء إلى السرية لإخفاء الأضرار الجانبية” لهذه التنازلات.
في الواقع، يبدو أن كيسنجر تعرض للترهيب من قبل تشو إنلاي، وخاصة ماو. وفي مواجهة الغضب الذي أعرب عنه الكونجرس الأمريكي أمام هذا التخلي عن حليف مناهض للشيوعية، وافق نيكسون على أن يصوّت هذا الكونجرس نفسه عام 1979 على قانون العلاقات التايوانية الشهير الذي تعهدت بموجبه الولايات المتحدة بتزويد تايوان بالأسلحة بكميات كافية لتمكينها من الدفاع عن نفسها في حال عدوان عسكري. وكان هذا هو التنازل الوحيد للرئيس الأمريكي في ذلك الوقت.
«العودة إلى روح زيارة نيكسون»
منذئذ، لم تتوقف الصين أبدًا عن المطالبة بتايوان كجزء من أراضيها. في نهاية عام 2021، أشار تشاو ليجيان، أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الصينية، إلى أن مبدأ “الصين الواحدة” يشكل “الأساس للتنمية السياسية المستقرة للعلاقات بين الصين والولايات المتحدة».
أما بالنسبة إلى شي جين بينغ، فلم يعد يتردد في التلويح بتهديد التدخل العسكري إذا استمرت سلطات تايوان في رفضها التفاوض بشأن إعادة توحيد الجزيرة تحت راية الحزب الشيوعي الصيني. كما أشار إلى أن إعادة التوحيد هذه يجب أن تتم بالضرورة “خلال الجيل الحالي».
اليوم، يدرك القادة الأمريكيون، ربما متأخرين، أنهم كانوا مخطئين بشكل خطير. هل ما زال هناك متسع من الوقت للعودة إلى المسار الصحيح؟ نعم طبعا... لأن احتمال نشوب حرب في تايوان اليوم بعيد، حيث أعربت العديد من الدول عن تضامنها مع تايوان. فبالإضافة إلى الولايات المتحدة التي أشارت بوضوح، على لسان رئيسها جو بايدن، إلى أنها ستدافع عن الجزيرة في حال تعرضها لهجوم صيني، فان اليابان وأستراليا والهند وفيتنام، وبدرجة أقل، كوريا الجنوبية، أعربت جميعها بوضوح عن دعمها لتايوان.
يوم الاثنين، 21 فبراير، دعت وزارة الخارجية الصينية الأمريكيين للعودة إلى روح تلك الزيارة التي قام بها نيكسون قبل خمسين عامًا. إن “الخلافات والصراعات بين البلدين أمر لا مفر منه، لكن المفتاح هو الإدارة الفعالة من خلال الاتصالات الصريحة لمنع الحسابات الاستراتيجية الخاطئة ومنع المواجهة”، هكذا صرح وانغ وين بن، المتحدث باسم الوزارة، مذكّرا ببيان شنغهاي الشهير الذي اعتمد خلال تلك الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي عام 1972: قبلت الولايات المتحدة مبدأ “الصين الواحدة” و”المبادئ الخمسة للتعايش السلمي”، بما في ذلك الاحترام المتبادل وسيادة وسلامة أراضي جميع البلدان، وعدم الاعتداء وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، شدّد وانغ ون بن.
و”ما دمنا نتمسك بالاحترام المتبادل”، تابع المتحدث الرسمي، وطالما أننا نسعى إلى أرضية مشتركة رغم خلافاتنا، وتحقيق تعاون يكسب فيه الجميع، يمكننا التغلب على خلافاتنا وجني المنافع المشتركة وتحقيق التعايش السلمي بين بلدينا اللذين يعتمدان أنظمة اجتماعية ومسارات للتنمية مختلفة”. ان المشاكل الحالية بين بكين وواشنطن تعود إلى “بعض الاشخاص في الولايات المتحدة” الذين لديهم “تصور خطأ للصين، ويرون الصين كمنافس استراتيجي وحتى ‘عدو وهمي’، نأمل أن تنضم الولايات المتحدة إلى الصين باستخلاص الدروس والحكمة التي سادت على مدى السنوات الخمسين الماضية من التاريخ” من أجل “العودة إلى طريق صحي ومستقر لتنمية العلاقات الصينية الأمريكية».
لا شك أنه هذه سيُنظر الى هذه الرسالة في واشنطن ببعض الارتياب. لأن الإدارات الأمريكية تبنت تدريجياً نظرة مختلفة للصين عن تلك التي كانت سائدة عام 1971.
مؤلف حوالي خمسة عشر كتابًا مخصصة للصين واليابان والتبت والهند والتحديات الآسيوية الرئيسية. عام 2020، نشر كتاب “الزعامة العالمية محوره، الصدام بين الصين والولايات المتحدة” عن منشورات لوب.