لماذا أعاد الرئيس التركي كتابة تاريخ انقلاب 2016
بعـــد خمســــة أعــــوام... تفنيـــد لكـــذبة أردوغـــان الكبيــــرة
في دراسة مطولة، كشف المحاضر الزائر والباحث في كلية كينغز كولدج بلندن الدكتور سايمون وولدمان كيف كذبت تركيا عدما ادعت بأنها ابتعدت عن الغرب لأن الأخير لم يتضامن معها حين كانت بأمس الحاجة إليه خلال محاولة الانقلاب سنة 2016.وتحت عنوان “كذبة أردوغان الكبيرة: لماذا أعاد الرئيس التركي كتابة تاريخ انقلاب 2016”، حذر وولدمان في صحيفة “هآرتس” صناع القرار والباحثين الغربيين من أن تنطلي عليهم خدعة تركيا. وذكّر بالتفاصيل والأوقات الدقيقة كيف كان الغرب أسرع من حلفائها الجدد في التضامن مع أنقرة ودعم مؤسساتها الرسمية. باختصار، كان ابتعاد تركيا عن الغرب خيار أردوغان ومحاولة الانقلاب حجة لتنفيذه.
هل تصحح أنقرة أخطاءها؟
منذ محاولة الانقلاب، انهارت ديموقراطية تركيا الهشة وابتعدت البلاد في توجهاتها الخارجية عن الغرب وتحالفت مع روسيا والصين وقطر وإيران. حاولت تركيا في الأشهر الأخيرة تحسين علاقاتها مع حلفائها التقليديين. بقي أردوغان صامتاً تجاه اعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن بالإبادة الأرمينية حين التقيا على هامش قمة حلف شمال الأطلسي الشهر الماضي.
وتراجعت أنقرة في البحر المتوسط وتفادت النزاع مع اليونان وقبرص والاتحاد الأوروبي وهي تسعى للمصالحة مع إسرائيل ومصر. لكن الكاتب يرى عدم وجود مؤشرات واضحة عن مدى استمرار السياسة الجديدة ومدى استعداد المفاوضين الأتراك للذهاب بعيداً في هذا المجال. والسبب الأساسي للتشكيك هو التسلسل الزمني الذي يدعيه أردوغان بشأن ما حدث في يوليو (تموز) 2016 والذي أصبح أساسياً لحكمه القمعي المتزايد ولسياساته الخارجية.
تركيا معزولة وشعبيته متدنية
لتبرير ابتعاد أنقرة عن حلفائها الغربيين، تروج الحكومة التركية باستمرار لسرديتها حول ما حصل ليلة 15-16 يوليو الانقلابية والتي تدعي أن الدول الغربية لم تقف إلى جانب تركيا لحظة الحدث الذي يصفه البعض بأنه 11 سبتمبر الخاص بأنقرة. وتشمل السردية التركية، إضافة إلى نقص الإدانة الغربية لمحاولة الانقلاب، تأخر الدول الغربية في زيارة تركيا وإظهار التضامن معها وتقديم المواساة. استخدم أردوغان هذه السردية لإضفاء الشرعية على سياسته الخارجية التي تركت بلاده مهمشة على الساحة الدولية مع قلة من الأصدقاء في وقت يحتاج اقتصادها المتداعي لجميع المساعدات الممكنة، وفي وقت تستمر شعبيتا أردوغان وحزبه بالانخفاض.
يؤكد وولدمان أن المنظمات والدول الغربية وجهت رسائل سريعة لدعم تركيا، شعباً وحكومة ومؤسسات، حين كان الانقلاب لا يزال مستمراً. وإذا كان بإمكان الدول الغربية إرسال موفدين بشكل أسرع إلى أنقرة خلال الفترة التي تلت الانقلاب بشكل مباشر، كانت روسيا والصين أبطأ منها في إرسال مسؤوليها إلى تركيا.
تذكير ضروري
في استعراض سريع لما حصل ليلة الانقلاب من أجل إقامة مقارنة دقيقة، يذكّر وولدمان بأنه عند حوالي الساعة العاشرة مساء من 15 يوليو بتوقيت تركيا، انتشرت أخبار عن انقلاب بعد سماع طلقات نارية داخل المقرات العسكرية في أنقرة. خلال الساعات الأولى من 16 يوليو، لم يكن واضحاً ما إذا كان الانقلاب سينجح. أطل أردوغان على شبكة سي أن أن تورك عبر هاتفه الخلوي عند الساعة 12:25 فجراً، في حين دعا وزراء آخرون مثل رئيس الوزراء بن علي يلدريم المواطنين للنزول إلى الشارع ومواجهة الانقلاب. كان مسار الانقلاب قيد التكهن حتى حين بدا أن القوات المناوئة للانقلاب تمتعت باليد العليا.على سبيل المثال، تم توقيف أول مجموعة انقلابية من الجنود عند الساعة الثانية فجراً، وعند الثانية والنصف فجراً تم إسقاط مروحية تابعة للانقلابيين. مع ذلك، وعند الساعة 2:42 قصف الانقلابيون البرلمان التركي من الجو وكرروا ذلك بعد سبع دقائق، بينما ذكرت التقارير أن المشرعين كانوا في مخبأ تحت مبنى البرلمان. وحين استأنفت شبكة تي آر تي بثها الساعة الثالثة فجراً، انقطع بث سي أن أن تورك عقب دخول جنود موالين للانقلاب غرفة التحكم بعد ثلاثين دقيقة. كانت نقطة الانعطاف عند حوالي الرابعة فجراً، إذ بعدما حطت طائرة أردوغان في مطار اسطنبول متفادية إسقاطها أو إلقاء القبض عليه، أطل أردوغان أمام مناصريه لإثارة الزخم ضد الانقلابيين. وبعد ساعتين، تحدث مجدداً إلى الحشود المتجمعة حين بدا أن للقوات الحكومية اليد العليا. على الرغم من ذلك، استمر القتال. ومع هزيمة الانقلابيين في وقت متأخر من صباح 16 يوليو، لقي 240 مواطناً تركياً حتفهم.
بروكسل الأسرع وواشنطن الأبرز
رد الفعل الأساسي للعواصم الغربية خلال الساعات الأولى للانقلاب تجلى عبر إصدار البيانات والتغريدات المعبرة عن القلق من التطورات وعبر تقديم النصائح لمواطنيها في تركيا. ومع تطور الأحداث، أعلنت الدول والمؤسسات الغربية دعمها الواضح لتركيا ضد الانقلاب.
عند الساعة 12:40 من 16 يوليو بتوقيت تركيا، دعت المنسقة العليا للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني إلى “ضبط النفس واحترام المؤسسات الديموقراطية” لتركيا. وعند الساعة 1:18 غرد الأمين العام لمجلس أوروبا ثوربيورن جاغلاند كاتباً أن “أي محاولة لإطاحة القادة المنتخبين ديموقراطياً في دولة عضو بمجلس أوروبا هي غير مقبولة”. جاءت التغريدة حين كانت نتيجة الانقلاب بعيدة من الوضوح وحتى قبل ساعات من تحدث أردوغان إلى مناصريه في مطار أتاتورك الدولي.
يعتقد وولدمان أن أهم موقف كان ذاك الذي اتخذته الولايات المتحدة، وهي الحليف الغربي الأساسي لتركيا. كان موقف واشنطن لا لبس فيه. عند الساعة 2:07 فجراً، أي حين لم يكن ميزان القوة قد اتضح بعد، غردت وزارة الخارجية أن جون كيري والرئيس باراك أوباما وافقا على أنه ينبغي “على جميع الأطراف في تركيا دعم حكومة تركيا المنتخبة ديموقراطياً، إظهار ضبط النفس، تفادي العنف”. وبعد أقل من 30 دقيقة، أخطر كيري متابعيه على تويتر أنه اتصل بنظيره التركي مولود جاويش أوغلو معرباً عن “الدعم (الأمريكي) المطلق».
انضمام ألمانيا وإسبانيا وبريطانيا والأطلسي
عند الساعة 2:08 فجراً، غرد رئيس مكتب الإعلام في الحكومة الألمانية ستيفان سيبرت مشيراً إلى وجوب احترام النظام الديموقراطي في تركيا. تبعه في ذلك سريعاً الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ إذ أصدر بياناً وكتب تغريدة عند الساعة 2:34 ذكر فيهما أنه اتصل بجاويش أوغلو ودعا إلى “الهدوء وضبط النفس، والاحترام الكامل لمؤسسات تركيا الديموقراطية ودستورها” مضيفاً أن “تركيا هي حليف قيّم للناتو».
بعد ساعة، وقبل أن يلقي أردوغان خطابه من مطار اسطنبول، غرد رئيس الوزراء الإسباني حينها ماريانو راخوي كاتباً أن دولته “تدعم النظام الدستوري الديموقراطي في تركيا، دولة صديقة وحليفة”. عند الساعة 3:10 فجراً، أصدر رئيس مجلس أوروبا دونالد تاسك ورئيس المفوضية الأوروبية جان-كلود يونكر وفيديريكا موغيريني بياناً مشتركاً جاء فيه: “يدعم الاتحاد الأوروبي بالكامل الحكومة المنتخبة ديموقراطياً، مؤسسات الدولة وحكم القانون. ندعو إلى عودة سريعة للنظام الدستوري في تركيا”. بكلمات أخرى، وقبل أن يُعرف مصير الانقلاب، حصلت الحكومة التركية ومؤسساتها الديموقراطية على فائض الدعم من حلفائها الأساسيين في الغرب. وبعدما كسبت القوات الحكومية اليد العليا نهار 16 يوليو، برز المزيد من التصريحات الداعمة.
اتصل وزير الخارجية البريطاني حينها بوريس جونسون بنظيره التركي من أجل “التشديد على دعم المملكة المتحدة لحكومة البلاد المنتخبة ديموقراطياً”. وأعرب وزير الخارجية الإيطالي عن “ارتياحه” لفشل الانقلاب، بينما أعربت إسبانيا عن أسفها للخسائر في الأرواح وعن تعازيها لعائلات الضحايا والمواطنين والسلطات في تركيا. من جهتها، شجبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الانقلاب قائلة إنه لأمر “مأسوي” دفع العديد من الأشخاص حياتهم ثمن هذا الانقلاب. وأكدت دعم بلادها للديموقراطية وحكم القانون في ألمانيا. وعاودت موغيريني إصدار بيان رسمي يدين الانقلاب ويدعم المؤسسات الديموقراطية في تركيا كما أعربت عن تعازيها لعائلات الضحايا.
ماذا عن إيران؟
بالنظر إلى أن تركيا اتهمت الغرب مراراً بالتخلي عنها في وقت الحاجة، سيتوقع المرء أن يكون حلفاؤها الجدد من غير الغربيين أسرع في دعم تركيا ليلة الانقلاب. لكن لم يكن الأمر كذلك حتماً، بحسب الكاتب. إيران هي المثل الأول على ذلك. سعت تركيا إلى بناء علاقات أقوى معها. وحتى قبل التوصل إلى الاتفاق النووي، استخدمت إيران بنك تركيا الرسمي لتقويض العقوبات الدولية عليها وفقاً لمخطط الذهب مقابل النفط. لكن طهران لم تتغلب على الغرب في دعمها لأنقرة ليلة الانقلاب.
في 16 يوليو، وعند الساعة 12:45 فجراً دائماً بتوقيت تركيا، وبعد دقائق عدة من بيان موغيريني، أعرب وزير الخارجية محمد جواد ظريف عن قلقه العميق من الأزمة مضيفاً، من دون أي التزام، أن “الاستقرار، الديموقراطية وسلامة الشعب التركي ذات أهمية قصوى”. ولم يحدد ظريف معارضة بلاده للانقلاب إلا عند الساعة 3:43 فجراً مشيراً إلى أن “دفاع الشعب التركي عن الديموقراطية وحكومته المنتخبة يثبت أن لا مكان للانقلابات في منطقتنا”. بكلمات أخرى، أتى تضامن إيران مع تركيا بعد تضامن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغالبية الدول الغربية معها.
تأخر روسيا والصين
وجهت الصين عند الساعة 7:39 من صباح 16 يوليو دعوة لتركيا من أجل “استعادة النظام والاستقرار في أسرع وقت ممكن”. وعند الساعة :1012 فجراً، كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف واقفاً إلى جانب مضيفه كيري الذي كان قد أعرب للتو عن مخاوفه الأساسية حول التطورات في تركيا، فقال بشكل مبهم إنه من المهم تفادي إراقة الدماء وتسوية الأمور ضمن إطار دستوري. مع تطور الأحداث، قالت وزارة الخارجية الروسية إن “أشد ما كان يقلقها” في الوضع أنه استجد على “خلفية التهديدات الإرهابية الموجودة في هذا البلد والنزاع المسلح في المنطقة».
وعند حوالي الساعة 2:06 فجراً، قال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن موسكو كانت “قلقة للغاية” من الأخبار الواردة من تركيا. لم تعبر بيانات بيجينغ وموسكو المقتضبة عن التضامن وهي أقل دعماً بكثير من البيانات الصادرة عن حلفاء تركيا التقليديين في أوروبا وأمريكا الشمالية بحسب الكاتب.
المظهر الوحيد لما يشبه التواصل الروسي المميز مع تركيا جاء من وزارة الخارجية الروسية عندما أصدرت الساعة 9:20 من صباح 16 يوليو بياناً حض تركيا “على تسوية المشاكل من دون استخدام القوة، ومع احترام النظام الدستوري” كما أعربت عن جاهزيتها للعمل مع “قيادة تركيا المنتخبة شرعياً”. جاءت هذه الكلمات متأخرة، بعد هزيمة الانقلابيين، وكانت شاحبة بالمقارنة مع الدعم الأكثر صراحة ووداً الذي حصلت عليه تركيا من الغرب. ببساطة إن الزعم بأن الغرب لم يظهر دعمه لتركيا غير صحيح على الإطلاق.
ماذا عن الوفود الغربية الرسمية؟
يفنّد وولدمان الوجه الآخر من السردية التركية القائم على أن الغرب تأخر كثيراً في إرسال ممثلين رفيعي المستوى أو في الاتصال هاتفياً بالرئيس التركي للإعراب عن صداقة حقيقية، وعوضاً عن ذلك، انتقدت الدول الغربية القمع الذي مارسته أنقرة بعد الانقلاب الفاشل، وفقاً للوجه الآخر من السردية. يشير الأتراك إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصل بأردوغان في 17 يوليو بينما قام أمير قطر بذلك قبل يوم واحد. أما الرئيس أوباما فلم يتصل بنظيره التركي إلا في 19 يوليو. تتجاهل هذه الحجة المعضلة الصارخة التي تواجه المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين. يريد هؤلاء شجب الانقلاب على أنه مناقض للديموقراطية والنظام الدستوري، وفي اللحظة التالية سيراقبون رئيساً تركياً لم يخفِ نواياه حتى بشن حملة تطهير شاملة ضد خصومه السياسيين.
من الجدير ذكره أنه حتى قبل الانقلاب، فرض أردوغان وحكومته ضغطاً هائلاً على ديموقراطية تركيا. في 2012، وصفت منظمة “مراسلون بلا حدود” تركيا كواحد من أكبر سجون الصحافيين حول العالم. وفي 2013، راقب العالم كيف قمعت أنقرة بشكل وحشي تظاهرة سلمية ضد تدمير حديقة غيزي. بعدها، تم سن قانون لتقييد الحريات على الإنترنت. بحلول 2015، انهار مسار السلام مع الأكراد وأدى تجدد النزاع إلى مقتل المئات ونزوح عشرات الآلاف واعتقال العديد من الوجوه السياسية الكردية. بعدها، في نوفمبر (تشرين الثاني)، أعلن مراقبون دوليون أن الانتخابات العامة في البلاد شابها “الخوف” و”الظلم».
في الوقت نفسه، كان الحزب الحاكم يناقش في 16 يوليو احتمال إعادة العمل بعقوبة الإعدام. وفي اليوم التالي، من خلال إشارة إلى أن التطهير كان مقبلاً، تم احتجاز 6 آلاف شخص مع توقعات بارتفاع العدد في الأيام والأسابيع اللاحقة وهو ما حصل حيث بلغ الرقم مئات الآلاف. وأعلن أردوغان سريعاً أن الانقلاب كان “هدية من الله” منحته القدرة على إعادة رسم “تركيا جديدة”. وثمة مشاكل أخرى كان يواجهها الغرب.
الأمن والرمزية
بدءاً من سنة 2015، تدهور الوضع الأمني الداخلي بشدة. كانت تركيا تواجه هجمات إرهابية متزامنة على يد داعش وحزب العمال الكردستاني. في أكتوبر (تشرين الأول) 2015، قُتل 109 مدنيين بعدما فجر انتحاريان نفسيهما خارج محطة قطارات في أنقرة. وفي يناير (كانون الثاني) 2016، قتل انتحاري داعشي 12 شخصاً من بينهم 10 سياح ألمان في اسطنبول. بعد شهرين، هاجم داعش اسطنبول مجدداً قاتلاً ثلاثة إسرائيليين وإيرانيَين. وفي الشهر نفسه قتل حزب العمال 37 شخصاً عبر تفجير محطة للباصات. وفي يونيو (حزيران) 2016، شن داعش اعتداءين قُتل بسببهما 112 شخصاً. وقبل ذلك بستة أشهر، فجر حزب العمال قنبلة في مطار صبيحة كوكجن في اسطنبول قاتلاً أحد العمال في المطار.
بعبارة أخرى، وخلال أقل من ستة أشهر، هوجم مطار اسطنبول الأساسي كما مطارات تجارية أخرى. كان معنى ذلك أن سفر القادة الغربيين إلى تركيا من أجل إبداء التضامن لم يكن أمراً يسيراً بل محفوفاً بالمخاطر الأمنية وبالمخاطر السياسية بشأن احتمال تفسير مصافحة مسؤولين بارزين في الحزب الحاكم على أنها موافقة ضمنية على ممارسة أنقرة التطهير السياسي. وكان بالإمكان تفسيرها أيضاً على أنها رخصة لمضي الرئيس قدماً في مساعيه حينها لتعزيز صلاحياته السلطوية ورفع القيود عنها ضمن “انقلاب” دستوري، وهو ما حصل في 2018.
ومع ذلك...
على الرغم من كل المعضلات اللوجستية والأمنية، أرسلت الدول الغربية مسؤوليها إلى تركيا لإبداء تضامنهم معها. بعد خمسة أيام على محاولة الانقلاب، أوفدت لندن وزير الدولة لشؤون الخارج والكومنولث السير ألان دونكان إلى أنقرة حيث زار البرلمان والتقى برئيس الوزراء حينها يلدريم. تبعتها زيارات وزراء بريطانيين آخرين من بينهم بوريس جونسون في سبتمبر (أيلول). وانتشرت نظريات مؤامرة لا أساس لها في الصحف الموالية للحكومة التركية وقد كررها سياسيون أتراك عن أن واشنطن وقفت خلف الانقلاب. مع ذلك، زار رئيس هيئة الأركان في الجيش الأمريكي الجنرال جوزف دانفورد أنقرة حين التقى بنظيره التركي وبيلدريم نفسه في الأول من أغسطس (آب) 2016. وفي وقت لاحق من الشهر نفسه، زار نائب الرئيس حينها جو بايدن تركيا ليجتمع بيلدريم وأردوغان.
وزار جاغلاند من مجلس أوروبا تركيا في الثالث من أغسطس، وفي أوائل سبتمبر، توجه ينس ستولتنبرغ إلى تركيا وكذلك فعلت موغيريني ومفوض الاتحاد الأوروبي لسياسة الجوار ومفاوضات التوسع جوهانس هان وعقدوا محادثات مع وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو.
هل كانت وفود الصين وروسيا أسرع؟
لم تكن زيارة روسيا والصين إلى تركيا أسرع حقاً. ولم ترسلا أبرز مسؤوليهما أيضاً. في 3 أغسطس، أرسلت الصين نائب وزير خارجيتها جانغ مينغ إلى تركيا وهو خيار حذِر من بيجينغ، لأن مينغ لم يكن شخصية ذات تأثير في صناعة القرار. أما وزير الخارجية الصيني فلم يزر تركيا إلا في 13 نوفمبر (تشرين الثاني).
والموفد الأول الذي أرسلته روسيا هو رئيس هيئة الأركان الروسي فاليري غيراسيموف الذي لم يصل إلى تركيا حتى أواسط سبتمبر (أيلول). لكن زيارة غيراسيموف لم تكن أصلاً لإظهار التضامن، بل لمناقشة عملية درع الفرات. بحلول ذلك الوقت، كان بايدن وموغيريني وستولتنبرغ قد سبق لهم أن ذهبوا إلى تركيا. ولم تحصل أنقرة على زيارة من بوتين مخصصة للتضامن معها. غير أن الأخير توجه سريعاً في 10 أكتوبر (تشرين الأول) إلى أنقرة لمناقشة خط أنابيب تركيش ستريم. عوضاً عن ذلك، كان أردوغان هو الذي سافر إلى موسكو أوائل أغسطس 2016 للوقوف جنباً إلى جنب مع الرئيس الروسي الذي وصفه بـ”صديقي العزيز».
على الرغم من أن بوتين لم يوفد وزير خارجيته سريعاً إلى تركيا وبصرف النظر عن أن القمة هدفت إلى تليين العلاقات بعدما أسقطت تركيا مقاتلة روسية في سوريا سنة 2015، قال أردوغان لبوتين: “إن اتصالك مباشرة بعد الانقلاب كان مفرحاً جداً لي ولقيادتنا ولشعبنا».
لعدم الوقوع في الخديعة
يؤكد وولدمان أن أردوغان اتخذ قراراً واعياً بإعطاء الأولوية في السياسة الخارجية إلى موسكو عوضاً عن واشنطن وبرلين وبروكسل ولم يكن خياره مبنياً على معيار من استنكر الانقلاب بشكل أسرع وأقوى. الآن، بعد خمسة أعوام على محاولة الانقلاب، وعقب تطهير أردوغان الذي طال الجيش والخدمة العامة والنواب والمعلمين والصحافيين والقضاة، مصحوبة بعمليات اعتقال خارج الحدود التركية، على صناع القرار والأكاديميين والمحللين الغربيين ألا ينخدعوا بما تقوله أنقرة، مهما صرخت، أكان في الداخل أو الخارج.