الاقتراع للأمريكيين والنتيجة عالمية:
بين بايدن وترامب لمن تصوت أوروبا...؟
تبدو الانتخابات الأمريكية، بالنظر إليها من أوروبا، مربكة. عام 2016، كانت الأفضلية لهيلاري كلينتون، بفتور، لأنه بدا مهمّا قطع الطريق على دونالد ترامب الفظ، وغير المثقف، حيث تساءل كثيرون كيف حصل على ترشيح الحزب الجمهوري. هذا العام، لم يستطع الجمهوريون تجنب استثمار الرئيس الحالي، ولم يجد الديمقراطيون، في مواجهته، أفضل من الاصطفاف خلف جو بايدن البالغ من العمر 77 عامًا ويطارد هذا المنصب منذ عام 1988. ألا تمتلك الطبقة السياسية الأمريكية شخصيات مهمة أخرى سواء من هذا الجانب أو ذاك؟
نجاح ترامب الكبير: الاقتصاد
كما كان الحال عام 2016، يبدو أن الأفضلية من الجانب الأوروبي للأطلسي من نصيب جو بايدن بشكل أساسي، لأن الخطر الرئيسي يبدو أنه يتمثّل في ولاية ثانية لدونالد ترامب. إذا تبيّن أن الشكوك حول قدرة هذا الأخير على شغل منصب رئيس أول قوة عالمية، مبرّرة تمامًا. وفي الظاهر، يبدو أنه نجح في نقطة واحدة: الاقتصاد.
حتى ربيع هذا العام، كان يأمل في أن يعاد انتخابه بفضل حصيلته وحصاده، مع معدل بطالة ثابت بقوة أقل من 4 بالمائة من السكان النشيطين. وكما أوضحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، “عام 2019، أصبح التوسع الاقتصادي والتعاقب المستمر لمكاسب الوظائف الشهرية، هو الأطول الذي عرفته البلاد “...”. وشجعت قوة سوق العمل تدريجياً أولئك الذين كانوا على هامش هذه السوق على الاندماج فيها. وقد ساعدت هذه المكاسب الكبيرة في الوظائف والزيادة التدريجية في الأجور الحقيقية، على تعزيز دخل الأسر ووضع حد للاتجاه السابق للركود في متوسط الدخل الحقيقي”. طيلة أكثر من عشرين عامًا، بدا أن النمو لم يفد سوى الأغنياء؛ هنا، حتى الأجور المنخفضة ترتفع.
ومع ذلك، يجب تنسيب هذا النجاح. قد يكون لخفض ضرائب الشركات والضرائب على الدخل المرتفع تأثير ايجابي على النمو، لكنه لا يفسر كل شيء: السياسة النقدية التيسيرية التي يقودها الاحتياطي الفيدرالي، رغم انتقادها باستمرار من دونالد ترامب، لعبت أيضًا دورًا مهمًا. وقد كان لهذه السياسة المالية آثار جانبية كبيرة: زيادة عجز الميزانية وزيادة التفاوت. وجاء الوباء ليكسر فجأة وبعنف، حركة بدأت، في كل الاحوال، في النفاد.
مع الصين، نتائج
غير حاسمة
في كل النقاط الاخرى تقريبًا، كان هذا التفويض كارثيًا. يمكن أن يُحسب إلى دونالد ترامب الطريقة التي هاجم بها الصين، التي بدأت رغبتها في القوة تقلق خارج دائرة أقرب جيرانها. الا ان الطريقة التي استخدمها غير فعالة على الإطلاق. بدأ أولاً، بمجرد استقراره في البيت الأبيض، بفك ارتباط الولايات المتحدة باتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي أرادها ووقعها باراك أوباما، والتي تهدف إلى دمج اقتصادات منطقة آسيا والمحيط الهادئ أمريكا الشمالية لتوحيدهم ضد الصين. دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ دون الولايات المتحدة، الأمر الذي يسلبها الكثير من أهميتها.
بشكل عام، لم يفكر دونالد ترامب أبدًا من حيث التحالفات والتنسيق الدولي، في حين أن الصين لديها دبلوماسية اقتصادية نشطة للغاية؛ تعرف كيفية إنشاء روابط مع البلدان التي تعتقد أنها بحاجة إليها لأسباب مختلفة (الوصول إلى المواد الخام أو العمالة أو المهارات التقنية أو المنافذ التجارية) واللعب على التنافس فيما بينها.
ورغم التصريحات المدوية، التي تمثل تأثيرها الرئيسي في إثارة الاضطرابات في الاقتصاد العالمي، فإن النتائج التي تم الحصول عليها بالكاد مقنعة، والاتفاقية المؤقتة الموقعة في بداية العام مع بكين لم تحل أي شيء. ربما كانت الفضيلة الوحيدة لهذه السياسة هي تحريك أوروبا وتشجيعها على أن تكون أكثر حزما تجاه الصين أيضًا. لكن الوباء، الذي سلط الضوء على ارتهان اوروبا لهذا البلد، لعب دورًا أكثر أهمية في هذه النقطة.
في 15 سبتمبر، حكمت منظمة التجارة العالمية ضد الولايات المتحدة وقضت بأنّ الزيادات التعريفية المطبقة على المنتجات من الصين غير مبررة. ولا يمكن لهذا القرار إلا أن يعزز ازدراء دونالد ترامب للمنظمات الدولية والمعاهدات التي وقعها أسلافه -ولا سيما باراك أوباما. ومن الواضح أن هذا ضار للجميع عندما يتعلق الأمر بتنظيم التجارة الدولية.
بل إن الأمر أكثر خطورة عندما يتعلق الأمر باتفاقية باريس، التي ندد بها دونالد ترامب لأن التغيرات المناخية تؤكد مخاوف العلماء، وكل عام ضائع يؤدي إلى تفاقم المشاكل المقبلة.
مرشح دون برنامج
ماذا سيفعل دونالد ترامب إذا أعيد انتخابه؟ نحن لا نعرف، ويخشى أنه لا يعرف ذلك أيضًا. ليس لديه برنامج، ولا يرى الحزب الجمهوري ضرورة لتحديث برنامجه. النص الوحيد الذي نشره المرشح-الرئيس يتألف من حوالي خمسين هدفاً تتفاوت في دقتها، ودون أي إشارة إلى كيفية تحقيقها، وما زالت التفاصيل المعلنة غائبة.
كيف سيتمكن ترامب الثاني من خلق عشرة ملايين وظيفة في عشرة أشهر ومليون شركة صغيرة؟ يبقى اللغز قائما قبل اقل من ثلاثة أسابيع من الانتخابات. فالرئيس مشغول للغاية بالثناء على نفسه باعتباره أحد الناجين من فيروس كوفيد -19 ولم يشعر بالذعر، ويتحدث عن النظام والأمن، ويسخر من “جو النائم».
باختصار، لا شيء يسمح بالنظر بهدوء إلى تجديد انتخابه المحتمل في منصبه، وواضح أن تصرفاته السابقة تثبت ذلك، لن يكون الشعب الأمريكي هو الوحيد الذي سيعاني من ولاية ثانية لـ “دونالد المهرج” -لاستخدام لقب طريف أطلقه عليه خصمه خلال مناظرتهما الأولى. يبقى أن نرى ما إذا كان انتخاب جو بايدن، بالنسبة لأوروبا، يمكن أن يكون حدثًا إيجابيًا حقًا، بعيدا عن الارتياح الذي قد يشعر به المرء عند رؤية رحيل شخص، بصراحة، بغيض.
الضرائب في قلب النقاش
عنصر أول يدافع عن المرشح الديمقراطي: لديه برنامج يمكن الاطلاع عليه على موقع حملته! النقاط الأساسية في الأمور الاقتصادية تتعلق بالضرائب: يريد جو بايدن زيادة الضرائب ليمنح نفسه الوسائل لتمويل الإجراءات التي يريد القيام بها وتقليل التفاوتات الاجتماعية.
خفّض دونالد ترامب معدل الضريبة الفيدرالية على الشركات من 35 بالمائة إلى 21 بالمائة، ويريد بايدن رفعها إلى 28 بالمائة. قام دونالد ترامب بتخفيض معدل الضريبة لأعلى شريحة (من 400 ألف دولار في الدخل السنوي للفرد) من 39 فاصل 6 بالمائة إلى 37 بالمائة، ويريد بايدن إعادتها إلى 39 فاصل 6 بالمائة وفرض ضرائب على الدخل المالي لمن يكسبون أكثر من مليون دولار بنفس مستوى دخلهم من الأجور بدلاً من معدل ثابت قدره 23 فاصل 8 بالمائة.
ويمكن ملاحظة أنّ خطط الزيادة هذه بعيدة كل البعد عن أن تشكل نقطة تحول نحو الاشتراكية، كما يؤكد دونالد ترامب، لأنها في الحقيقة مجرد مسألة عودة إلى الوضع السابق. ولا يمكن اتهام جو بايدن بأنه تحت إبهام الجناح اليساري لحزبه: البرامج التي طورها المرشحون الآخرون لترشيح الحزب الديمقراطي، بيرني ساندرز وإليزابيث وارين على وجه الخصوص، كانت أكثر راديكالية. في الصيف، ربما تكون المناقشات التي أجراها المرشح المعيّن مع منافسيه الخاسرين قد اقترحت تشديدًا في برنامجه لجذب الناخبين الأكثر شهرة من اليسار، لكن في الواقع، لم يتم تحريك المؤشر كثيرًا.
ان الاتهام باليسارية هو الأكثر سخافة فيما يتعلق بجو بايدن الذي تم انتخابه لعضوية مجلس شيوخ ديلاوير من عام 1973 إلى عام 2009، وهي ولاية تشتهر بأنها ملاذ ضريبي، وهذا لم يحرجه او يزعجه أبدا. تذكير صغير: في حملة 2016، كان الصحفيون قادرين على إثبات أن هيلاري كلينتون ودونالد ترامب لديهما شيء واحد مشترك على الأقل: شركات مسجلة في نفس العنوان، في ويلمنجتون، ديلاوير ...
إشارة إيجابية
من الواضح أن هذا البرنامج الضريبي يهم في الغالب السكان الأمريكيين فقط. ولكن لن يكون من اللامبالاة بالنسبة لبقية العالم أن القوة الأولى تفرض المزيد من الضرائب على أعلى المداخيل والشركات: في وقت يتعين على الدول فيه تعبئة موارد مالية عالية لمواجهة الاحتياجات الصحية الهائلة، والتعليم، والتحوّل الطاقي، وما إلى ذلك، من المهم وضع حد لسباق من هو الأقل فرضا للضرائب.
في كل مكان، نشهد اتساع عجز الميزانية نتيجة للجهود المبذولة للحد من التأثير السلبي للتدابير المتخذة لوقف وباء كوفيد-19. وجليّا، أنه من الضروري معرفة كيفية قبول هذا العجز مؤقتًا، ولكن من الواضح أن الدول لا يمكنها الاستمرار في طريق تخفيض الضرائب على الأفراد أو الشركات الذين يمكنهم المساهمة بأكبر قدر في الجهد الجماعي.
وبالمثل، يرسل جو بايدن إشارة إيجابية للغاية من خلال الالتزام بإعادة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس، والقيام بحملة على المستوى الدولي من اجل ان ترفع كل دولة أهدافها لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويحذر: “لم يعد بإمكاننا فصل سياستنا التجارية عن أهدافنا المناخية”. ومثل أوروبا، يريد أن تستهدف بلاده الحياد الكربوني بحلول عام 2050، ويريد تحقيق هذا الهدف فيما يتعلق بإنتاج الكهرباء اعتبارًا من عام 2035.
لهذا، يقترح استثمار 2000 مليار دولار خلال فترة ولايته. بالتأكيد، أن صفقته الخضراء الجديدة قد تبدو أقل توترًا من المشروع الجذري للنائب الديمقراطي ألكساندريا أوكاسيو كورتيز: فهو يتجنب الحديث عن ضريبة الكربون، ويرفض حظر استخراج الغاز الصخري عن طريق التكسير الهيدروليكي. ولكن، بالمقارنة مع إدارة ترامب، التي لم تتوقف عن تقليص قواعد حماية البيئة -تعود الإجراءات الأخيرة في هذا الاتجاه إلى منتصف أغسطس، في خضم حملة انتخابية –فان تغيير الاتجاه سيكون واضحًا جدًا.
يتفق المتخصصون في السياسة الخارجية على نقطة واحدة: ميل الولايات المتحدة للانكفاء على ذاتها، الذي بدأ في ظل رئاسة أوباما، لن تتم مراجعته، وبطريقته الخاصة سيدافع جو بايدن أيضا على “أمريكا عظيمة مرة أخرى”. لن يكون بالضرورة شريكًا مناسبًا للغاية، وسيدافع بقوة عن مصالح الشركات الأمريكية. لكن الأفضل وجود محاور شرس يعرف ما يريد وإلى أين يتجه، من رئيس لا يمكن التنبؤ بسياسته، ولا يحترم شركاءه أو قواعد اللعبة، ويغيّر موقعه وموقفه وفقًا لمزاجه.
بدأ صبر وول ستريت ينفد
هذه السمة الشخصية الأخيرة قد تكلف دونالد ترامب إعادة انتخابه، إذا حكمنا من خلال رد فعل الدوائر المالية. عام 2016، أظهرت وول ستريت انحيازا واضحًا لهيلاري كلينتون، مما سمح للملياردير ترامب بالتنديد بها كمرشحة للاستبلشمنت. ومع ذلك، كان الولاء لهذا الأخير سريعًا: استغرق بضع ساعات فقط. في التاسع من نوفمبر، يوم إعلان فوزه، توقع البعض تراجعا في البورصة، لكنها حلّقت عاليا. وكانت بداية موجة صعود في المؤشرات الأمريكية الى أعلى المستويات القياسية حتى هذا العام. ومهما كان الرجل، فإن تخفيضاته الضريبية موضع تقدير.
ان خطط ضرائب جو بايدن، بداهة، تعمل ضده. لكن قد ترحب وول ستريت بفوزه، لأن سلوك دونالد ترامب يقلقها بشدة حاليًا. الموضوع الذي يثير غضبها؟ اعتماد الكونغرس لخطة جديدة لدعم الاقتصاد يعتبرها الجميع ضرورية. كان هناك خلاف هذا الصيف حول مبلغ هذه الخطة: أراد الديمقراطيون 2000 مليار دولار، وأراد الجمهوريون البقاء عند 1000 مليار دولار. ثم بدا أنه من الممكن إبرام اتفاق حول 1.5 تريليون، بمباركة ترامب. لكن في الأيام الأخيرة، ضاعف الرئيس تصريحاته المتناقضة.
عند خروجه من المستشفى، بدا أنه أدرك تأخّره في استطلاعات الرأي، وانه يواجه خطر الهزيمة. وتراء له ان قبول التصويت على خطة لدعم الاقتصاد فكرة سيئة: يمكن أن تُنسب هذه الخطة إلى الديمقراطيين. وفي السادس من أكتوبر، طلب في إحدى تغريداته، التي لا يعرف سرّها سواه، من الجمهوريين قطع المفاوضات.
ثم فهم أن جميع الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم ويعتمدون على مساعدات الدولة الفيدرالية لن يغفروا له التوقف المفاجئ عن هذه المساعدة لعدم وجود اتفاق. في السابع، أعلن أنه مستعد للتوقيع.
ومع ذلك، يبدو أن موافقته تقتصر على مساعدة شركات الطيران والأفراد والشركات الصغرى والمتوسطة، اي لن تكون خطة شاملة. في الثامن من الشهر، أجرى مقابلة طويلة مع شبكة فوكس نيوز، أقل تنظيماً وهيكلة من تلك التي يقدمها عادة، وفي اليوم التالي، طلبت نانسي بيلوسي ، رئيسة مجلس النواب ، تشكيل لجنة للتحقيق في قدرته على قيادة الولايات المتحدة.
يمكننا تخمين كيف استقبل ترامب هذا الإعلان ... لكنه اقترح خطة بقيمة 1.8 تريليون دولار، رفضها الديمقراطيون والجمهوريون، ثم يوم الأحد 11 القادم خطة تقتصر على مساعدة الشركات الصغرى والمتوسطة. فما الذي يريده حقًا، وهل حقا يريد المعسكر الديمقراطي، الذي يشعر بالريح في صالحه، التوصل إلى اتفاق قبل الانتخابات؟
سيحتاج بايدن
إلى انتصار واضح
في مثل هذا المناخ، من الصعب للغاية صياغة تكهن. ويوحي شخص مقرب من البيت الأبيض أن كل شيء لا يزال ممكناً وواردا، فسوق الأسهم في ارتفاع، ويبدو أن هذا الافق يبتعد، إنها تتراجع. مقتنعًا بالحاجة إلى إجراء حكومي قوي لإحياء الآلة، يبدو المجتمع المالي مستعدًا للاحتفال بجو بايدن إذا حقق نجاحًا واضحًا لا جدال فيه، وإذا حصل الديمقراطيون على الكونغرس، لا سيما في مجلس الشيوخ حيث يحسم كل شيء، أغلبية تسمح لهم بتنفيذ برنامجهم.
يبدو أن الأسئلة المطروحة حاليًا في وول ستريت تتوافق تمامًا مع شعور جزء كبير من السكان: لما لا جو بايدن، إذا كان لدينا خط سياسي واضح ودعم سريع للاقتصاد؟
منذ مفاجأة عام 2016، ندرك أنه يجب أن نكون حذرين من استطلاعات الرأي، لكن يبدو أن فوز جو بايدن والديمقراطيين احتمال ضخم. والسؤال الكبير هو ما إذا سيكون هذا الانتصار جليّا بما يكفي حتى لا تتبعه فترة من الاحتجاج والاضطراب وشلل السلطة.
لن يكون شعب هذا البلد هو الكاسب الوحيد، وقد تكون هذا الخبر سعيدا لبقية العالم -ربما باستثناء القادة الصينيين، الذين من مصلحتهم أن يرأس منافستهم العظمى لأربع سنوات أخرى، رجل بدون أي رؤية طويلة المدى ولا فهم حقيقي للوضع.
نجاح ترامب الكبير: الاقتصاد
كما كان الحال عام 2016، يبدو أن الأفضلية من الجانب الأوروبي للأطلسي من نصيب جو بايدن بشكل أساسي، لأن الخطر الرئيسي يبدو أنه يتمثّل في ولاية ثانية لدونالد ترامب. إذا تبيّن أن الشكوك حول قدرة هذا الأخير على شغل منصب رئيس أول قوة عالمية، مبرّرة تمامًا. وفي الظاهر، يبدو أنه نجح في نقطة واحدة: الاقتصاد.
حتى ربيع هذا العام، كان يأمل في أن يعاد انتخابه بفضل حصيلته وحصاده، مع معدل بطالة ثابت بقوة أقل من 4 بالمائة من السكان النشيطين. وكما أوضحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، “عام 2019، أصبح التوسع الاقتصادي والتعاقب المستمر لمكاسب الوظائف الشهرية، هو الأطول الذي عرفته البلاد “...”. وشجعت قوة سوق العمل تدريجياً أولئك الذين كانوا على هامش هذه السوق على الاندماج فيها. وقد ساعدت هذه المكاسب الكبيرة في الوظائف والزيادة التدريجية في الأجور الحقيقية، على تعزيز دخل الأسر ووضع حد للاتجاه السابق للركود في متوسط الدخل الحقيقي”. طيلة أكثر من عشرين عامًا، بدا أن النمو لم يفد سوى الأغنياء؛ هنا، حتى الأجور المنخفضة ترتفع.
ومع ذلك، يجب تنسيب هذا النجاح. قد يكون لخفض ضرائب الشركات والضرائب على الدخل المرتفع تأثير ايجابي على النمو، لكنه لا يفسر كل شيء: السياسة النقدية التيسيرية التي يقودها الاحتياطي الفيدرالي، رغم انتقادها باستمرار من دونالد ترامب، لعبت أيضًا دورًا مهمًا. وقد كان لهذه السياسة المالية آثار جانبية كبيرة: زيادة عجز الميزانية وزيادة التفاوت. وجاء الوباء ليكسر فجأة وبعنف، حركة بدأت، في كل الاحوال، في النفاد.
مع الصين، نتائج
غير حاسمة
في كل النقاط الاخرى تقريبًا، كان هذا التفويض كارثيًا. يمكن أن يُحسب إلى دونالد ترامب الطريقة التي هاجم بها الصين، التي بدأت رغبتها في القوة تقلق خارج دائرة أقرب جيرانها. الا ان الطريقة التي استخدمها غير فعالة على الإطلاق. بدأ أولاً، بمجرد استقراره في البيت الأبيض، بفك ارتباط الولايات المتحدة باتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي أرادها ووقعها باراك أوباما، والتي تهدف إلى دمج اقتصادات منطقة آسيا والمحيط الهادئ أمريكا الشمالية لتوحيدهم ضد الصين. دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ دون الولايات المتحدة، الأمر الذي يسلبها الكثير من أهميتها.
بشكل عام، لم يفكر دونالد ترامب أبدًا من حيث التحالفات والتنسيق الدولي، في حين أن الصين لديها دبلوماسية اقتصادية نشطة للغاية؛ تعرف كيفية إنشاء روابط مع البلدان التي تعتقد أنها بحاجة إليها لأسباب مختلفة (الوصول إلى المواد الخام أو العمالة أو المهارات التقنية أو المنافذ التجارية) واللعب على التنافس فيما بينها.
ورغم التصريحات المدوية، التي تمثل تأثيرها الرئيسي في إثارة الاضطرابات في الاقتصاد العالمي، فإن النتائج التي تم الحصول عليها بالكاد مقنعة، والاتفاقية المؤقتة الموقعة في بداية العام مع بكين لم تحل أي شيء. ربما كانت الفضيلة الوحيدة لهذه السياسة هي تحريك أوروبا وتشجيعها على أن تكون أكثر حزما تجاه الصين أيضًا. لكن الوباء، الذي سلط الضوء على ارتهان اوروبا لهذا البلد، لعب دورًا أكثر أهمية في هذه النقطة.
في 15 سبتمبر، حكمت منظمة التجارة العالمية ضد الولايات المتحدة وقضت بأنّ الزيادات التعريفية المطبقة على المنتجات من الصين غير مبررة. ولا يمكن لهذا القرار إلا أن يعزز ازدراء دونالد ترامب للمنظمات الدولية والمعاهدات التي وقعها أسلافه -ولا سيما باراك أوباما. ومن الواضح أن هذا ضار للجميع عندما يتعلق الأمر بتنظيم التجارة الدولية.
بل إن الأمر أكثر خطورة عندما يتعلق الأمر باتفاقية باريس، التي ندد بها دونالد ترامب لأن التغيرات المناخية تؤكد مخاوف العلماء، وكل عام ضائع يؤدي إلى تفاقم المشاكل المقبلة.
مرشح دون برنامج
ماذا سيفعل دونالد ترامب إذا أعيد انتخابه؟ نحن لا نعرف، ويخشى أنه لا يعرف ذلك أيضًا. ليس لديه برنامج، ولا يرى الحزب الجمهوري ضرورة لتحديث برنامجه. النص الوحيد الذي نشره المرشح-الرئيس يتألف من حوالي خمسين هدفاً تتفاوت في دقتها، ودون أي إشارة إلى كيفية تحقيقها، وما زالت التفاصيل المعلنة غائبة.
كيف سيتمكن ترامب الثاني من خلق عشرة ملايين وظيفة في عشرة أشهر ومليون شركة صغيرة؟ يبقى اللغز قائما قبل اقل من ثلاثة أسابيع من الانتخابات. فالرئيس مشغول للغاية بالثناء على نفسه باعتباره أحد الناجين من فيروس كوفيد -19 ولم يشعر بالذعر، ويتحدث عن النظام والأمن، ويسخر من “جو النائم».
باختصار، لا شيء يسمح بالنظر بهدوء إلى تجديد انتخابه المحتمل في منصبه، وواضح أن تصرفاته السابقة تثبت ذلك، لن يكون الشعب الأمريكي هو الوحيد الذي سيعاني من ولاية ثانية لـ “دونالد المهرج” -لاستخدام لقب طريف أطلقه عليه خصمه خلال مناظرتهما الأولى. يبقى أن نرى ما إذا كان انتخاب جو بايدن، بالنسبة لأوروبا، يمكن أن يكون حدثًا إيجابيًا حقًا، بعيدا عن الارتياح الذي قد يشعر به المرء عند رؤية رحيل شخص، بصراحة، بغيض.
الضرائب في قلب النقاش
عنصر أول يدافع عن المرشح الديمقراطي: لديه برنامج يمكن الاطلاع عليه على موقع حملته! النقاط الأساسية في الأمور الاقتصادية تتعلق بالضرائب: يريد جو بايدن زيادة الضرائب ليمنح نفسه الوسائل لتمويل الإجراءات التي يريد القيام بها وتقليل التفاوتات الاجتماعية.
خفّض دونالد ترامب معدل الضريبة الفيدرالية على الشركات من 35 بالمائة إلى 21 بالمائة، ويريد بايدن رفعها إلى 28 بالمائة. قام دونالد ترامب بتخفيض معدل الضريبة لأعلى شريحة (من 400 ألف دولار في الدخل السنوي للفرد) من 39 فاصل 6 بالمائة إلى 37 بالمائة، ويريد بايدن إعادتها إلى 39 فاصل 6 بالمائة وفرض ضرائب على الدخل المالي لمن يكسبون أكثر من مليون دولار بنفس مستوى دخلهم من الأجور بدلاً من معدل ثابت قدره 23 فاصل 8 بالمائة.
ويمكن ملاحظة أنّ خطط الزيادة هذه بعيدة كل البعد عن أن تشكل نقطة تحول نحو الاشتراكية، كما يؤكد دونالد ترامب، لأنها في الحقيقة مجرد مسألة عودة إلى الوضع السابق. ولا يمكن اتهام جو بايدن بأنه تحت إبهام الجناح اليساري لحزبه: البرامج التي طورها المرشحون الآخرون لترشيح الحزب الديمقراطي، بيرني ساندرز وإليزابيث وارين على وجه الخصوص، كانت أكثر راديكالية. في الصيف، ربما تكون المناقشات التي أجراها المرشح المعيّن مع منافسيه الخاسرين قد اقترحت تشديدًا في برنامجه لجذب الناخبين الأكثر شهرة من اليسار، لكن في الواقع، لم يتم تحريك المؤشر كثيرًا.
ان الاتهام باليسارية هو الأكثر سخافة فيما يتعلق بجو بايدن الذي تم انتخابه لعضوية مجلس شيوخ ديلاوير من عام 1973 إلى عام 2009، وهي ولاية تشتهر بأنها ملاذ ضريبي، وهذا لم يحرجه او يزعجه أبدا. تذكير صغير: في حملة 2016، كان الصحفيون قادرين على إثبات أن هيلاري كلينتون ودونالد ترامب لديهما شيء واحد مشترك على الأقل: شركات مسجلة في نفس العنوان، في ويلمنجتون، ديلاوير ...
إشارة إيجابية
من الواضح أن هذا البرنامج الضريبي يهم في الغالب السكان الأمريكيين فقط. ولكن لن يكون من اللامبالاة بالنسبة لبقية العالم أن القوة الأولى تفرض المزيد من الضرائب على أعلى المداخيل والشركات: في وقت يتعين على الدول فيه تعبئة موارد مالية عالية لمواجهة الاحتياجات الصحية الهائلة، والتعليم، والتحوّل الطاقي، وما إلى ذلك، من المهم وضع حد لسباق من هو الأقل فرضا للضرائب.
في كل مكان، نشهد اتساع عجز الميزانية نتيجة للجهود المبذولة للحد من التأثير السلبي للتدابير المتخذة لوقف وباء كوفيد-19. وجليّا، أنه من الضروري معرفة كيفية قبول هذا العجز مؤقتًا، ولكن من الواضح أن الدول لا يمكنها الاستمرار في طريق تخفيض الضرائب على الأفراد أو الشركات الذين يمكنهم المساهمة بأكبر قدر في الجهد الجماعي.
وبالمثل، يرسل جو بايدن إشارة إيجابية للغاية من خلال الالتزام بإعادة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس، والقيام بحملة على المستوى الدولي من اجل ان ترفع كل دولة أهدافها لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويحذر: “لم يعد بإمكاننا فصل سياستنا التجارية عن أهدافنا المناخية”. ومثل أوروبا، يريد أن تستهدف بلاده الحياد الكربوني بحلول عام 2050، ويريد تحقيق هذا الهدف فيما يتعلق بإنتاج الكهرباء اعتبارًا من عام 2035.
لهذا، يقترح استثمار 2000 مليار دولار خلال فترة ولايته. بالتأكيد، أن صفقته الخضراء الجديدة قد تبدو أقل توترًا من المشروع الجذري للنائب الديمقراطي ألكساندريا أوكاسيو كورتيز: فهو يتجنب الحديث عن ضريبة الكربون، ويرفض حظر استخراج الغاز الصخري عن طريق التكسير الهيدروليكي. ولكن، بالمقارنة مع إدارة ترامب، التي لم تتوقف عن تقليص قواعد حماية البيئة -تعود الإجراءات الأخيرة في هذا الاتجاه إلى منتصف أغسطس، في خضم حملة انتخابية –فان تغيير الاتجاه سيكون واضحًا جدًا.
يتفق المتخصصون في السياسة الخارجية على نقطة واحدة: ميل الولايات المتحدة للانكفاء على ذاتها، الذي بدأ في ظل رئاسة أوباما، لن تتم مراجعته، وبطريقته الخاصة سيدافع جو بايدن أيضا على “أمريكا عظيمة مرة أخرى”. لن يكون بالضرورة شريكًا مناسبًا للغاية، وسيدافع بقوة عن مصالح الشركات الأمريكية. لكن الأفضل وجود محاور شرس يعرف ما يريد وإلى أين يتجه، من رئيس لا يمكن التنبؤ بسياسته، ولا يحترم شركاءه أو قواعد اللعبة، ويغيّر موقعه وموقفه وفقًا لمزاجه.
بدأ صبر وول ستريت ينفد
هذه السمة الشخصية الأخيرة قد تكلف دونالد ترامب إعادة انتخابه، إذا حكمنا من خلال رد فعل الدوائر المالية. عام 2016، أظهرت وول ستريت انحيازا واضحًا لهيلاري كلينتون، مما سمح للملياردير ترامب بالتنديد بها كمرشحة للاستبلشمنت. ومع ذلك، كان الولاء لهذا الأخير سريعًا: استغرق بضع ساعات فقط. في التاسع من نوفمبر، يوم إعلان فوزه، توقع البعض تراجعا في البورصة، لكنها حلّقت عاليا. وكانت بداية موجة صعود في المؤشرات الأمريكية الى أعلى المستويات القياسية حتى هذا العام. ومهما كان الرجل، فإن تخفيضاته الضريبية موضع تقدير.
ان خطط ضرائب جو بايدن، بداهة، تعمل ضده. لكن قد ترحب وول ستريت بفوزه، لأن سلوك دونالد ترامب يقلقها بشدة حاليًا. الموضوع الذي يثير غضبها؟ اعتماد الكونغرس لخطة جديدة لدعم الاقتصاد يعتبرها الجميع ضرورية. كان هناك خلاف هذا الصيف حول مبلغ هذه الخطة: أراد الديمقراطيون 2000 مليار دولار، وأراد الجمهوريون البقاء عند 1000 مليار دولار. ثم بدا أنه من الممكن إبرام اتفاق حول 1.5 تريليون، بمباركة ترامب. لكن في الأيام الأخيرة، ضاعف الرئيس تصريحاته المتناقضة.
عند خروجه من المستشفى، بدا أنه أدرك تأخّره في استطلاعات الرأي، وانه يواجه خطر الهزيمة. وتراء له ان قبول التصويت على خطة لدعم الاقتصاد فكرة سيئة: يمكن أن تُنسب هذه الخطة إلى الديمقراطيين. وفي السادس من أكتوبر، طلب في إحدى تغريداته، التي لا يعرف سرّها سواه، من الجمهوريين قطع المفاوضات.
ثم فهم أن جميع الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم ويعتمدون على مساعدات الدولة الفيدرالية لن يغفروا له التوقف المفاجئ عن هذه المساعدة لعدم وجود اتفاق. في السابع، أعلن أنه مستعد للتوقيع.
ومع ذلك، يبدو أن موافقته تقتصر على مساعدة شركات الطيران والأفراد والشركات الصغرى والمتوسطة، اي لن تكون خطة شاملة. في الثامن من الشهر، أجرى مقابلة طويلة مع شبكة فوكس نيوز، أقل تنظيماً وهيكلة من تلك التي يقدمها عادة، وفي اليوم التالي، طلبت نانسي بيلوسي ، رئيسة مجلس النواب ، تشكيل لجنة للتحقيق في قدرته على قيادة الولايات المتحدة.
يمكننا تخمين كيف استقبل ترامب هذا الإعلان ... لكنه اقترح خطة بقيمة 1.8 تريليون دولار، رفضها الديمقراطيون والجمهوريون، ثم يوم الأحد 11 القادم خطة تقتصر على مساعدة الشركات الصغرى والمتوسطة. فما الذي يريده حقًا، وهل حقا يريد المعسكر الديمقراطي، الذي يشعر بالريح في صالحه، التوصل إلى اتفاق قبل الانتخابات؟
سيحتاج بايدن
إلى انتصار واضح
في مثل هذا المناخ، من الصعب للغاية صياغة تكهن. ويوحي شخص مقرب من البيت الأبيض أن كل شيء لا يزال ممكناً وواردا، فسوق الأسهم في ارتفاع، ويبدو أن هذا الافق يبتعد، إنها تتراجع. مقتنعًا بالحاجة إلى إجراء حكومي قوي لإحياء الآلة، يبدو المجتمع المالي مستعدًا للاحتفال بجو بايدن إذا حقق نجاحًا واضحًا لا جدال فيه، وإذا حصل الديمقراطيون على الكونغرس، لا سيما في مجلس الشيوخ حيث يحسم كل شيء، أغلبية تسمح لهم بتنفيذ برنامجهم.
يبدو أن الأسئلة المطروحة حاليًا في وول ستريت تتوافق تمامًا مع شعور جزء كبير من السكان: لما لا جو بايدن، إذا كان لدينا خط سياسي واضح ودعم سريع للاقتصاد؟
منذ مفاجأة عام 2016، ندرك أنه يجب أن نكون حذرين من استطلاعات الرأي، لكن يبدو أن فوز جو بايدن والديمقراطيين احتمال ضخم. والسؤال الكبير هو ما إذا سيكون هذا الانتصار جليّا بما يكفي حتى لا تتبعه فترة من الاحتجاج والاضطراب وشلل السلطة.
لن يكون شعب هذا البلد هو الكاسب الوحيد، وقد تكون هذا الخبر سعيدا لبقية العالم -ربما باستثناء القادة الصينيين، الذين من مصلحتهم أن يرأس منافستهم العظمى لأربع سنوات أخرى، رجل بدون أي رؤية طويلة المدى ولا فهم حقيقي للوضع.