الماضي السوفياتي حاضر بشكل فريد:

بين مولدوفا وأوكرانيا، ترانسنيستريا في ضباب مُتَوَعِّد

بين مولدوفا وأوكرانيا، ترانسنيستريا في ضباب مُتَوَعِّد

-- إذا مر جنوب أوكرانيا -وخاصة أوديسا -إلى الروس، فستكون ترانسنيستريا مرتبطة إقليميًا بروسيا
-- «لقد انفصلنا مع مولدوفا في كل شيء ... باستثناء الفقر»
-- أضيف إلى التوقعات الاقتصادية القاتمة شبح الحرب الزاحف
-- السيطرة على ترانسنيستريا تعني أيضًا السيطرة على مولدوفا
-- لفهم تأييد ترانسنيستريا لروسيا، يكفي السير في شوارع تيراسبول


   في المنطقة الانفصالية في مولدوفا، أدى صدى الحرب في أوكرانيا إلى تآكل الشعور بالانتماء إلى روسيا.
بالنسبة لجزء من الشباب، أدى الفقر والضجر إلى ظهور رغبة في أماكن أخرى.
   جنود مولدوفيون يرابطون في أول نقطة تفتيش، تسرع السيارة، فقد سمح المولدوفيون لها بالمرور. الحاجز الثاني في قبضة الروس، أكثر عددا وأفضل تسليحا. لكن، مرة أخرى، تمر السيارة دون أن تبطئ. وعلى حدود ترانسنيستريا، وعند نقطة التفتيش التي يحرسها جنود ترانسنيستريون، يتوقف كل شيء، رجال مسلحون ودبابة خلف أكياس الرمل، وعيون وبنادق موجهة نحو مولدوفا.

   لا ريح ولا حتى نسيم، الشمس الرمادية تسحق كل شيء بحرارتها الرطبة، ويسأل ضابط مرتاب أسئلة: “ماذا تفعل هنا؟ جئت لترى ماذا؟ هل أنت صحفي؟”. للوهلة الأولى، تعتقد أنك تدخل منطقة حرب، ومع ذلك، وفي نفس المكان ونفس الوقت، يعود الرجال سيرًا على الأقدام من صيد الاسماك.  تمرّ امرأة عجوز وبيدها مشترياتها اليومية من ترانسنيستريا.

“كل شيء أرخص هناك في حين الأسعار مرتفعة في مولدوفا”، تتمتم. وحتى قبل أن يُطلب منهم، يمد المارة ميكانيكيا جوازات سفر مهترئة لهؤلاء الجنود، الذين لم يعودوا ينظرون إليهم. الحرب المجمدة بين مولدوفا وترانسنيستريا، هي مشهد طبيعي كغيره... في شرق دنيستر، لا شيء جديد.

أرض مفقودة
   تقع ترانسنيستريا بين مولدوفا وأوكرانيا، وهي قطاع ضيق من الأرض يعيش فيه 470 ألف نسمة. قصته، هي قصة كلاسيكية للاتحاد السوفياتي السابق. تسكنها أغلبية ناطقة بالروسية، ترانسنيستريا، انتفضت عام 1991 عندما أرادت مولدوفا، ذات الأغلبية الناطقة بالرومانية، فرض الرومانية كلغة رسمية.
   ويبدو أن التالي هو متحوّر من دونباس في أوكرانيا: تسلّح موسكو وتدعم الانفصاليين. إخوة ورفاق الأمس يقتلون بعضهم البعض. وعندما انتهت الحرب في 21 يوليو 1992، لم تشهد ترانسنيستريا، المنطقة التي خسرتها مولدوفا، مع ذلك، اعتراف المجتمع الدولي “باستقلالها».

تعهّد التبعية
   عام 2006، صوت 97 فاصل 1 بالمائة من سكانها للانضمام إلى روسيا. ولئن امتنع فلاديمير بوتين عن إضفاء الطابع الرسمي على هذا الارتباط، أو حتى الاعتراف باستقلال ترانسنيستريا، فقد جعل من هذه المنطقة موقعًا أماميًا: يتمركز ما يقرب من 1400 جندي روسي هناك، ويتم تخزين 22 ألف طن من الذخيرة. وفي شوارع تيراسبول، الموضة للملابس العسكرية، وعندما يُسأل أحد المارة عن السبب، يجيب: “لا، أنا لست جنديًا، ولا حتى من القدماء، إنها مجرد موضة اليوم «.

   إن السيطرة على ترانسنيستريا تعني أيضًا السيطرة على مولدوفا. المحطة الوحيدة في مولدوفا موجودة في ترانسنيستريا. ويزداد هذا الارتهان المولدوفي من خلال الغاز الطبيعي الذي تشتريه من روسيا حصريًا، غاز تتولى نقله ترانسنيستريا فقط. وتبدو موسكو كريمة بشكل خاص مع الجيب الانفصالي: تعمل غالبية سيارات ترانسنيستريا اليوم بفضل الغاز الذي يتم شراؤه بسعر منخفض. ويعتبر تحويل الغاز إلى كهرباء غير مكلف للغاية الى درجة أن مزارع البيتكوين -التي تستهلك الكثير من الطاقة بشكل خاص -تنتشر الآن في جميع أنحاء ترانسنيستريا.

   بالإضافة إلى قضية الطاقة، لا تزال مولدوفا مشلولة دوليًا بسبب الصراع الكامن مع الانفصاليين. فبينما طلبت فنلندا والسويد الانضمام إلى حلف الناتو، لا تستطيع مولدوفا حماية نفسها من عدوان روسي محتمل لأن هشاشة الوضع تخيف مختلف المنظمات، الأوروبية أو الأطلسية.

   يمكن أن يتحول النفوذ الروسي في ترانسنيستريا إلى عمل تقليدي ومباشر. منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، تمت الإشارة إلى سيناريو وقوع أوكرانيا في قبضة كماشة بين ترانسنيستريا وروسيا -ولا شك أن الامر مبالغ فيه. كما هو الحال، من غير المرجح أن تكون ترانسنيستريا قادرة على تحمل هجوم على أوكرانيا المجاورة. ومع ذلك، في الأشهر المقبلة، إذا مر جنوب أوكرانيا -وخاصة أوديسا -إلى الروس، فستكون ترانسنيستريا مرتبطة إقليميًا بروسيا، وعندئذٍ سيكون ارتباطها النهائي بهذه الأخيرة مسألة وقت فقط.

تقارب سوفياتي
  ولفهم تأييد ترانسنيستريا لروسيا، يكفي السير في شوارع تيراسبول. يظل الماضي السوفياتي حاضرًا بشكل فريد هناك: شعار الدولة بالمطرقة والمنجل، وتماثيل لينين الأكثر ضخامة، وبالطبع الإشارات المنتشرة في كل مكان للحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، لئن ظل هذا التراث السوفياتي مُعظمًا، فانه هرم وشاخ.
  الجديد، هو ما هو قديم جدا... حديقة الامبراطورة كاثرين العظيمة “1729-1796” هي المركز الجديد للعاصمة. غير بعيد، تماثيل الأبطال الروس في القرن التاسع عشر جديدة تمامًا.

 في النهاية، تتلاقى الذاكرات: أمّة روسية واحدة... سرديّة وطنية تُروى في كل دوّار يحرسه الجنود الروس أو الترانسنيستريين، سردية تتخللها ثقوب الرصاص على واجهات الأبنية، سردية تبدأ كما تنتهي، في القطيعة مع مولدوفا: إذا كان التاريخ الروسي هو سفر التكوين، فإن حرب عام 1992 هي الانفجار العظيم.

   وسط نصب تذكاري لشهداء الحروب الماضية، صورة ظلية ضعيفة لامرأة شابة تكاد ترفسها التماثيل الضخمة التي تحيط بها. عيون ماريا زرقاء باهتة، وابتسامتها خجولة. تقول: “أنا، هذه الذكرى لا تعني لي شيئًا... لا أشعر بأي شيء تجاهها... لكنني عشت دائما معها «.

    مثل معظم الشباب الترانسنيستريين، تروي ماريا حياتها، حتى في تفاصيلها الأكثر خصوصية، بسهولة أكبر من أخبار بلدها. “درست اللغات في جامعة تيراسبول، كنت أعاني من فقدان الشهية في ذلك الوقت، كان الأمر صعبًا للغاية. لكني انهيت الأولى على دفعتي، واكتسبت بعض الوزن، وأتحدث الآن الإنجليزية بطلاقة”. تلتقط ماريا أنفاسها، “وإذا تعلمت هذه اللغة، فطبعا لأنني سأغادر! لكن جدتي تجاوزت المائة عام، لا يمكنني تركها هنا بمفردها، بالإضافة إلى ذلك، فقد ساعدت خلال الحرب الوطنية العظمى...” ، ذاكرة متجذّرة حدّ الغرق.

   أليكسي، صديق لها، يتكئ على غطاء محرك سيارته. يشرح الشاب الذي يرتدي زي باريس سان جيرمان سبب خروجه: “كان كوفيد قاسيًا، لكن الحرب في أوكرانيا كانت القطرة الأخيرة التي أفاضت الكأس. سأرحل في غضون شهر إلى هولندا، أقود الشاحنات. لم أستخدم شاحنة حمولتها 35 طنًا من قبل! عمري 31 عامًا، لديّ دكتوراه في القانون، لكنني ما زلت أفضل أن أبدأ من جديد في الغرب بدلاً من البقاء هنا».
   وبلمسة ساخرة حزينة، تثري ماريا: “انفصلنا مع مولدوفا في كل شيء ... باستثناء الفقر”، يضحك أليكسي، ولتسلية صديقته انتقل إلى موضوع آخر، مغامراته العاطفية أو كرة القدم: “ نادي كرة القدم شريف تيراسبول تغلب مرة على ريال مدريد! ربما في النهاية يجب أن أبقى ... “، ضحكت ماريا بدورها. في لحظة، بضعة مقتطفات من الحاضر تحمل الماضي والمستقبل اللذين يقولان الحرب فقط.

البقاء في الضبابيّة
  لقد أضيف إلى التوقعات الاقتصادية القاتمة شبح الحرب الزاحف.
 في بداية مايو، أصابت سلسلة من الهجمات ترانسنيستريا بالذعر. برج الراديو بعبوة ناسفة، واستهداف مقر وزارة الأمن العام بقاذفات صواريخ، ثم لا شيء... لم تتوقف الهجمات فحسب، بل ظل الجناة يتمتعون بحريتهم.
  المستفيدون من الجريمة كثيرون: وفق موسكو وتيراسبول، ستكون أوكرانيا هي التي تبحث عن ذريعة لمهاجمة ترانسنيستريا قبل وصول الروس؛ ووفق كييف وتشيسيناو، فإن الروس هم من يعدّون سكان ترانسنيستريا لاحتمال نشوب صراع ...
   تحدث زعزعة الاستقرار أيضًا من خلال الاستفزاز: تلقى سكان ترانسنيستريون مؤخرًا هذه الرسالة: “مرحبًا أيها الأوغاد “...” أنا قومي مولدوفي، لقد زرعت قنابل تحت مدارسكم وسأرسل بعضها لكم أيضًا... المجد للمولدوفيين والموت للروس”.

 مرة أخرى، من المستحيل تحديد من يقف وراء هذا التهديد... يخيم ضباب الحرب على ترانسنيستريا ومولدوفا.
   في الساحة المركزية لمدينة تيراسبول، ترفع الأعلام الروسية والترانسنيسترية على الارتفاع نفسه، وقد تجمّدت اقمشتها كما لو كانت ميتة. لا يزال أدنى نسيم يقاطع المكان، وازدادت الحرارة الرطبة.
وعلى الرصيف يتقدم المارة بوجع، في رمادية خانقة. فجأة، عاصفة... ويظل الترانسنيستريون جامدي الشعور مثل تماثيل لينين. لقد عادت اللافتات والرايات فجأة إلى الحياة... روسيا وترانسنيستريا تتأرجحان في مهب الريح... ومن بعيد، عاصفة تتصاعد.