توتر فوق السحاب.. أجسام غامضة تُحيي شبح الحرب الباردة في أوروبا
تعيش أوروبا حالة من التأهب الأمني غير المسبوق، حيث تتوالى البلاغات عن أجسام غامضة (بالونات ومسيرات) تخترق أجواء دول مثل بولندا والدنمارك وألمانيا وليتوانيا، قبل أن تُعلن الأخيرة تعليق حركة الطيران في إحدى مطاراتها مؤقتًا.
ووفقًا للمراقبين، فإن الحوادث التي تتكرر بوتيرة لافتة لم تعد تُقرأ كوقائع منفصلة، بل كخيوط متشابكة في “حرب باردة جديدة” تُدار بصمت من خلف الستار، وتعيد تشكيل معادلات القوة والنفوذ بين موسكو والغرب.
ومع إعادة ليتوانيا فتح مطار فيلنيوس بعد تعليق مؤقت بسبب بالونات في مجاله الجوي، تبقى التساؤلات الأبرز، إلى أين تقود حرب “المسيرات والبالونات” الغامضة.
ويرى الخبراء أن ما يُعرف بـ”حرب المسيرات والبالونات” في الأجواء الأوروبية لم يعد مجرد حوادث عشوائية، بل يعكس تصاعدًا في التوتر غير المعلن بين موسكو والاتحاد الأوروبي.
وقال المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، كارزان حميد، إن ما يجري في الأجواء الأوروبية من حوادث مرتبطة بالمسيرات والبالونات لم يعد أمرًا عابرًا، بل أصبح جزءًا من الصورة الأوسع للتوتر بين الاتحاد الأوروبي وروسيا.
وأكد حميد، في حديث لـ”إرم نيوز” أن المواجهة بين الجانبين لم تعد مقتصرة على جبهات القتال في أوكرانيا، بل امتدت إلى المجال الجوي لدول مثل بولندا والدنمارك وإستونيا وأخيرًا ألمانيا، وأن حادث تعليق حركة الطيران في مطار فيلنيوس بليتوانيا يندرج ضمن هذا التصعيد المتدرج.
وأضاف أن هوية تلك المسيرات لا تزال غامضة، إذ لم تظهر أدلة قاطعة تثبت أنها روسية، فيما تتباين التقارير الأوروبية بين وصفها بأنها “مدنية وفردية” أو “ذات طابع عسكري وتجسسي».
ويرى حميد أن الكرملين يمتلك القدرة على اختراق الأجواء بطائرات مسيرة لأغراض استخباراتية، لكنه استبعد أن تكون عمليات التحليق البعيدة مثلما حدث فوق الدنمارك أو ألمانيا من تخطيط موسكو مباشرة، مرجحًا وجود “جهات خفية” قد تسعى لإرباك الداخل الأوروبي أو توظيف تلك الحوادث في صراعات سياسية داخلية.
وأشار، إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية تحولت إلى نزاع أوسع بين موسكو من جهة و52 دولة من أعضاء الناتو وحلفائهم من جهة أخرى، وحتى الآن لم يتحقق الرهان الغربي على انهيار روسيا، الأمر الذي زاد من اللجوء إلى نظريات مؤامرة تتحدث عن “اختراق الأجواء” كذريعة لإجراءات عسكرية أو أمنية طارئة.
وتابع حميد: “الأزمة الجوية ترافقها تداعيات سياسية داخل أوروبا، حيث تسود حالة من الاستياء الشعبي مع اقتراب انتخابات محلية ورئاسية في عدة بلدان، ما يعيد تشكيل التحالفات داخل الاتحاد الأوروبي».
واستشهد بما حدث في التشيك والمجر وسلوفاكيا من مواقف متحفظة تجاه دعم كييف، معتبرًا أن هذه الموجة قد تمتد إلى فرنسا، حيث تواجه حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون تحديات انتخابية قد تعزز من فرص القوى اليسارية والشعبوية الرافضة للحرب.
ويرى أن بروكسل تسابق الزمن لتطبيق أجنداتها السياسية والعسكرية قبل أن تتبلور هذه التقاربات الجديدة، بينما تستمر في تصوير روسيا كـ”دب مفترس”، في حين تسعى موسكو إلى إعادة صياغة علاقتها بالجمهوريات السوفيتية السابقة وضمان عدم تمدد الناتو إلى حدودها المباشرة.
وأشار حميد إلى أن إستراتيجية الاستنزاف الأوروبية فشلت جزئيًا، وأدت إلى نتائج عكسية أجبرت الأوروبيين على البحث عن مصادر تمويل بديلة لمشروعاتهم الإستراتيجية.
ولفت إلى أن حوادث المسيرات فوق المطارات قد تُستخدم كذريعة لتمرير إجراءات تقييدية على الحريات العامة، بحجة حماية الأمن القومي، خاصة مع انتشار تجارة الطائرات المسيرة واستخدامها لأغراض متعددة.
وقال حميد، إن بروكسل أسهمت بنفسها في تضخيم الأزمة عبر سياساتها الداخلية والدبلوماسية، معتبرًا أن “ملف المسيرات” يحمل مزيجًا من الأيادي الداخلية والخارجية، وأن روسيا لا تتحمل أكثر من 25% من المسؤولية، فيما تبقى هوية “اللاعبين الآخرين” سؤالًا مفتوحًا يستحق البحث والتدقيق.
من جانبه، أكد المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية الدكتور محمود الأفندي، أن ما يُروّج له عن وجود “حرب مسيرات” بين روسيا والدول الأوروبية غير دقيق، مؤكدًا أن ما يحدث في الأجواء الأوروبية هو إطلاق مسيّرات من داخل الدول الأوروبية نفسها، وليس من روسيا.
وأشار الأفندي، في تصريحات خاصة لـ”إرم نيوز”، إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشار خلال مؤتمر “فالداي” إلى أن العديد من الشباب الأوروبيين بدأوا بالتمرد على حكوماتهم، وهو ما ينعكس في إطلاق البالونات والطائرات المسيّرة بشكل متزايد.
وأضاف أن ما يُمسى بـ”حرب المسيرات” هو فقط في مخيلة النخب الأوروبية، بهدف تعبئة الشعوب ضد روسيا وخلق مبررات لحرب قادمة معها، خاصةً وأن هناك تمردًا شعبيًا متصاعدًا داخل أوروبا، سواء في إستونيا، أو ميونخ، أو كوبنهاغن، على السياسات الحالية.
وأشار الأفندي إلى أن غالبية المسيرات التي تُطلق من داخل أوروبا تصدر عنها أضواء كاشفة، ما ينفي عنها صفة التجسس، إذ لا يُعقل أن تُستخدم مسيّرات تجسسية مجهزة بإضاءة كاشفة.
ولفت إلى أن موضوع المسيرات أصبح محور حديث واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة بين الشباب البولندي، مضيفًا أن حتى الرئيس البولندي تحدث عن هذا الموضوع، مشيرًا إلى ميول داخل الشعب البولندي نحو روسيا، وهو ما وصفه بـ”المقلق” للحكومة هناك.
وأكد الأفندي، أن ما يحدث اليوم يعكس حالة من الانقسام داخل الصف الأوروبي،
سواء على مستوى النخب السياسية أو الشعوب، مضيفًا أن الانتخابات الأخيرة في التشيك دليل واضح على بدء خروج الشعوب عن خط النخبة الأوروبية التي وصفها بـ”نخبة الحرب».