من أهم المناقشات في سنوات كلينتون

روسيا عضو في حلف الشمال الأطلسي...؟

روسيا عضو في حلف الشمال الأطلسي...؟

-- كان من أبرز جوانب الخطاب السياسي الروسي في التسعينات الإجماعحول أهمية عضوية موسكو في المنظمات الدولية الكبرى، بما في ذلك الناتو
-- في روسيا، من الممكن دائمًا أن تكون ليبراليًا وقوميًا
-- دعّم جميع القادة الروس استراتيجية توسيع الناتو، في المقابل، ساد الخوف في المعســكر الآخــر، من أن يـؤدي اندمــاج روســيا في الناتـو إلى نهايــة الناتـو
-- لا ينبغي الاستهانة بدور واشنطن في كتابة السردية الروسية من خلال عملها أو تقاعسها
-- كان في مقدوره احداث الفارق، ساعد بيل كلينتون في جعل عودة الإمبريالية الروسية نبوءة تحقق ذاتها


   في 12 ديسمبر 1993، أجرت روسيا انتخابات برلمانية، هي الأولى منذ حملة القمع العنيفة التي شنها الرئيس بوريس يلتسين على البرلمان في أكتوبر من نفس العام. كانت هذه واحدة من أكثر الانتخابات الروسية ديمقراطية -وربما كانت الانتخابات الوحيدة الحرة والنزيهة حتى الآن. ومع ذلك، عند الخروج من صناديق الاقتراع، أرعبت النتائج المراقبين الغربيين: تعرضت القوى السياسية المؤيدة للديمقراطية صراحة لضربة قوية من الشيوعيين والقوميين الصاعدين، “الحمر” و “البنيين».
   هذا التصويت، الذي اعتُبر كارثيا، نبّه إدارة كلينتون.

نقل ستروب تالبوت، مستشار الشؤون الروسية وزميل كلينتون السابق في غرفة الجامعة، مخاوفه إلى البريطانيين عندما زار جون ميجور واشنطن في أواخر فبراير 1994. وأقام تالبوت تمرينا داخل وزارة الخارجية -مع التأكد من إبقائه سراً -من أجل ضمان “مراجعة” جيدة لسياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا، كما يشير رودريك لين، السكرتير الخاص لميجور. “داخل الإدارة، جادل البعض بأنه من الخطأ الآن التفكير في أي شراكة مع روسيا...”، كتب لين.  

  أنتوني ليك، مستشار الأمن القومي لكلينتون، يشعر بمرارة إلى حد ما تجاه روسيا. “يميل “ليك” إلى اتخاذ موقف متشدد للغاية”، يكتب لين. “إنه يشعر أن البلد في حالة سيئة، ولا ينبغي لنا أن نشجع الروس على التفكير في أنهم يستطيعون التدخل في مسائل مختلفة بطريقة سلبية لأننا منحناهم وضع ‘الشريك> «.

على صواب أو خطأً، وجهة النظر المتباينة هذه عن روسيا، طبعت حتمًا أحد أهم مناقشات السياسة الخارجية في سنوات كلينتون: توسيع الناتو. الآن وقد تم رفع السرية عن الأرشيفات الأمريكية والبريطانية وحتى الروسية، بدأ المؤرخون يطرحون سؤالًا صعبًا: إلى أي مدى أدار فريق كلينتون جيدًا هذه المهمة؟، وهل “خسر” كلينتون روسيا في هذه العملية؟

   عندما يتم طرح أسئلة من هذا النوع، نجد دائمًا نفس الفكرة في الرد: الولايات المتحدة لم تخسر روسيا أبدًا. لماذا نلوم الولايات المتحدة على المشاكل الداخلية لروسيا؟ من أجل تطلعاتها غير المبررة إلى العظمة، ولقلقها المستمر، وسردياتها السياسية المسمومة؟ إنها لازمة مثيرة للاهتمام، لكنها تقلل من شأن دور واشنطن في كتابة السردية الروسية، من خلال فعلها أو تقاعسها.

   ما إن تولى بيل كلينتون منصبه حتى اكتشف أن دول وسط وشرق أوروبا تطرق باب الناتو وتطلب قبولها. أسباب قلقهم متنوعة. البعض -مثل الرئيس التشيكي فاتسلاف هافيل -شدّد على موضوع الحضارة، وقال لكلينتون إن بلاده تريد الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي لأنهم “أوروبيون يعتنقون القيم الأوروبية”. وكان آخرون -مثل الرئيس البولندي ليش فاليسا -أكثر صراحة بشأن التهديد الروسي: “لا يمكن ترك بولندا بلا دفاع، يجب أن نحظى بحماية العضلات الأمريكية «.

   كان كلينتون حساسا لمثل هذه الحجج. وبالنظر إلى مسار موسكو الغامض، يبدو توسّع الناتو بمثابة تحوط استراتيجي جيد في حال خروج روسيا عن المسار. الا ان الحديث عن التوسيع يثير مخاوف موسكو بحق: ألا يعني ذلك أنه سيتم إنشاء خطوط فاصلة جديدة في أوروبا، وأن الجدران التي هُدمت في برلين ستتم إعادة بنائها شرقًا؟

   ومع ذلك، سيكون من الخطأ الادعاء بأن يلتسين ووزير خارجيته الليبرالي أندريه كوزيريف يعارضان من حيث المبدأ توسع الناتو –ابعد ما يكون عن ذلك! كان من أبرز جوانب الخطاب السياسي الروسي في التسعينات، الإجماع حول أهمية عضوية موسكو في المنظمات الدولية الكبرى، بما في ذلك الناتو. لقد بحث يلتسين بنفسه هذا الاحتمال مرارًا وتكرارًا. وكما قال لكلينتون في يناير 1994، “يجب أن تكون روسيا أول دولة تنضم إلى الناتو، ثم ستتمكن دول وسط وشرق أوروبا الأخرى من الدخول. يجب أن يكون هناك نوع من الكارتل بين الولايات المتحدة وروسيا والأوروبيين للمساعدة في ضمان وتحسين الأمن العالمي «.

   إن ذكر “الكارتل” هذا مفيد للغاية، لأنه يوضح بالضبط ما كان يلتسين يحاول تحقيقه، ولماذا أصبح احتمال توسع الناتو بدون روسيا إشكاليًا في العلاقات بين روسيا والغرب. “الكارتل” هو نسخة من تالف القوى العظمى في القرن التاسع عشر الذي حققه القيصر ألكسندر الأول ملك روسيا في مؤتمر فيينا، وهو يختلف قليلاً عما اعتقد جوزيف ستالين أنه قد أنجزه في يالطا في فبراير 1945. وهو لا يختلف كثيرًا عما كان يدور في ذهن ليونيد بريجنيف عندما قال لهنري كيسنجر عام 1973: “اسمع، أريد التحدث إليك على انفراد -لا أحد غيرك، لا ملاحظات... اسمع، ستكونون شركاءنا، أنتم ونحن سنقود العالم».
   يتضمن كارتل يلتسين اعتراف أمريكا بوضع روسيا كقوة لا غنى عنها يجب أن تؤخذ وجهات نظرها في الاعتبار عند حل القضايا الدولية الرئيسية في ذلك الوقت.

 المشكلة، هي أنه، على عكس روسيا في عهد الإسكندر الأول والاتحاد السوفياتي زمن ستالين وبريجنيف، فإن روسيا يلتسين قوة عظمى فقط على الورق؛ وفي الواقع، إنها حالة ميؤوس منها، على وشك الإفلاس، وما زالت بحاجة إلى مساعدة من الغرب. كيف يمكن لطموحات يلتسين أن ترقى إلى مستوى هذا الواقع غير الجذاب؟

   اعتقد وزير الخارجية كوزيريف أن لديه الجواب. لطالما أصبح كوزيريف لعنة القوميين الروس بسبب ميوله المزعومة المؤيدة للغرب. في الواقع، موقفه المؤيد للغرب هو نتيجة مباشرة لعقلية الكارتل التي ناقشها يلتسين مع كلينتون.
 قال في اجتماع داخلي بوزارة الخارجية في أوائل عام 1993، “أهم شيء هو الشراكة مع الولايات المتحدة.
 أيضًا، يجب أن نكون الشريك الرئيسي “للولايات المتحدة”، وإلا فلن يتبقى شيء من وضعنا كقوة عظمى «.

   ولهذا السبب، طالب كوزيريف، مثل يلتسين، بقبول روسيا في الناتو. وأصر كوزيريف في محادثة مع نظيره الألماني كلاوس كينكل في مايو 1994: “لماذا لا يريد الناتو روسيا؟ هل هناك عتاب خفي؟ شكوك؟ وحتى ربما عداء؟ «
   اذن، نحن نعلم اليوم أن القادة الروس دعموا جميعًا استراتيجية توسيع الناتو. في المقابل، ساد الخوف، في المعسكر الاخر، من أن يؤدي اندماج روسيا في الناتو إلى نهاية الناتو. ان دخول روسيا سيشل التحالف، كما قال لي مالكولم ريفكيند، وزير الدفاع البريطاني في ذلك الوقت مؤخرًا: “في أعماقي، لم يكن لدي أدنى شك في أن روسيا لا يمكن أن تصبح أبدًا عضوًا كاملاً في الناتو دون تدمير هدف الناتو ذاته».

   شعر كوزيريف بالذهول من مثل هذه العراقيل، قائلاً، إن الفشل في معالجة مخاوف موسكو لن يؤدي إلا إلى تعزيز قوة الشيوعيين والقوميين، على حساب يلتسين وفريقه. “سيعني ذلك نهاية “لي” تنبأ وزير الخارجية في أبريل 1995. قال “كوزيريف” إنه سيكتب مذكراته في الغولاغ حينها، وأن الحجارة تتساقط على رأسه فعلا».

   في الأثناء -وهذا جانب مثير للاهتمام ومُهمَل حتى الآن في الخطاب السياسي الروسي بشأن الناتو -لم يكن يلتسين وكوزيريف الوحيدين اللذين ضغطًا للحصول على العضوية. رحبت النخب السياسية الروسية بالفكرة على نطاق واسع. رئيس مجلس الدوما، مالك الأراضي الكبير إيفان ريبكين (الذي حاول إيجاد أرضية مشتركة بين يلتسين ومنتقديه الشيوعيين) لم يدعم فقط عضوية روسيا في الناتو، بل كانت لديه فكرة عن كيفية القيام بذلك.
 قال في ديسمبر 1994 خلال اجتماع مع الفرنسيين: “عندما نتحدث عن توسيع الناتو، فإننا نقترح أن نبدأ هذا التوسيع من جبال الأورال، أو يمكن الحديث عن مشاركتنا في هذه المنظمة على النموذج الفرنسي».

   كانت فرنسا قد تركت القيادة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي عام 1966، تحت قيادة الجنرال شارل ديغول (قبل إعادة دمجها عام 2009، في رئاسة نيكولا ساركوزي). وفي التسعينات، كانت فكرة أن تكون عضوًا في حلف الناتو وأن تُستبعد منه -شكل من أشكال الديغولية الروسية -شائعة في دوائر السياسة الخارجية الروسية. وغني عن القول، إن الفكرة لا تتوافق مع الغرب، وبالتأكيد لا تثير إعجاب الطامحين لعضوية الناتو في أوروبا الوسطى والشرقية الذين يوضحون لواشنطن أنهم “يريدون أن يكونوا في الناتو مع استبعاد الروس».  

   هذا النوع من المواقف أثار غضب العديد من صنّاع السياسة الروس بشكل متزايد -وليس فقط يلتسين. يقول فياتشيسلاف نيكونوف، نائب مجلس الدوما وحفيد وزير خارجية ستالين، فياتشيسلاف مولوتوف: “كانت روسيا تأمل في أن تُدرج بين الدول المتحضرة في الغرب”، ولكن لم يُسمح لها بالانضمام الا إلى تلك المنظمات التي أظهرت عدم الفعالية «.

   في التسعينات، كان نيكونوف سياسيًا من يمين الوسط، وكان أقرب للوسط منه الى اليمين. وفي وقت لاحق، اعتنق البوتينية والقومية الشرسة، وهو مسار مشترك في السياق السياسي الروسي. إن رؤية روسيا -كما كان ينظر إليها أحيانًا في الغرب -على أنها صراع بين القوى الديمقراطية والرجعية، يغفل تمامًا هذه النقطة، لأنه كان (ولا يزال) من الممكن أن تكون ليبراليًا وقوميًا.

   عاشت السرديتان -عن شراكة روسيا مع الغرب ومواجهة روسيا مع الغرب –جنبًا إلى جنب، وبطرق عديدة، ولا تزال تعيش جنبًا إلى جنب حتى في روسيا اليوم، رغم أن سرديّة المواجهة تتجاوز الآن سرديّة الشراكة. ولفهم ما حدث هنا، يجب فهم الغرض من هذه السرديات: إنها بمثابة طرق لإضفاء شرعية، ذاتيا، للنخب السياسية الروسية.

   السرديتان تتطلبان اعتراف الغرب بروسيا (في الحقيقة، من قبل الولايات المتحدة): احداهما كشريكة ندّ، والاخرى كعدو. الأولى تسمح لروسيا بالتمتع بمكانة عظمى تأتي من كونها جزءً من الكارتل. كما تسمح الثانية للنخب السياسية الروسية بالوقوف شامخة وفخورة، كمدافعين عن “المصالح الوطنية” لروسيا ضد التعديات الغربية.

   بطبيعة الحال، فإن ما يسمى بـ “المصالح الوطنية” بعيدة كل البعد عن الثبات: لروسيا، كشريك للغرب، مصالح وطنية مختلفة عن روسيا كعدو للغرب.
   السرديتان صحيحتان ايضا، لكن يتطلب كل منها اعترافًا من الولايات المتحدة. نعم، هذه الأخيرة لم تهزم روسيا أبدًا. ومع ذلك، لديها دائمًا ميزة القدرة على الاعتراف، ووفقا لما تعترف به، يمكن أن تتغير مصالحها الوطنية، وقد تغيرت بحكم الواقع.

   هل كانت هناك فرصة للاندماج الروسي في الغرب أم لا، وإذا كانت هناك فرصة، فهل ضاعت؟ يعتبر التعامل مع الفرضيات المغايرة للواقع عملاً صعبًا. ومع ذلك، عندما يعيد المرء تقييم أوائل التسعينات، يُطرح سؤال واحد بحدة خاصة: إرث تفكير الحرب الباردة، الذي يتجلى في افتراض أن روسيا لن تنضم أبدًا -أو لم تكن قادرة على الانضمام -إلى الناتو لأنها كبيرة جدا، وثقيلة جدا وإمبريالية جدا.

   الواقعية تتطلب الحذر -ربما كان ذلك صحيحًا. لكن من المثير للاهتمام أن نرى شيئين: أولاً، كيف كان يلتسين يسعى يائسًا للحصول على عضوية الناتو؟ ثانيًا، استعداد موسكو للنظر في سيناريوهات بديلة، بما في ذلك، على سبيل المثال، الخيار الفرنسي. ان التعامل مع روسيا بهذه الطريقة ينطوي على مخاطر بالنسبة لحلف شمال الأطلسي لأنه يتضمّن ضمنيًا إمكانية إضعاف نظام الأمن الغربي لمصلحة روسيا، وربما حتى إعطاء روسيا وسائل للحركة، لا تستحقها بعد “أو أبدا”. هل كانت اللعبة تستحق كل هذا العناء؟

   في مقال شهير نُشر في ربيع عام 1992 -عندما كانت روسيا المستقلة تتخذ خطواتها الأولى على المسرح العالمي -يتحدث ألكسندر وندت عن “ممارسات معينة تخلق وتؤسس بنية واحدة من الهويات والمصالح بدلاً من أخرى”. كانت هوية روسيا ومصالحها الوطنية مرنة للغاية، وتم تقديمها على أنها سرديتان متعارضتان للشرعية يمكن للنخب الصاعدة الاستناد اليها.

   لم يتم التخلي تمامًا عن سرديّة اندماج روسيا في الغرب: فهي لا تزال موجودة في ظل سرديّة أخرى ترى روسيا السلطوية في تعارض مع الغرب. وكما اشتبه أنتوني ليك، قبل معظم الناس، تسببت روسيا حقًا في أضرار. لقد ساهم الطرفان في هذا الانفصال: الروس، من خلال السعي الى شرعية عبر علاقة تعارض مع الولايات المتحدة، والأمريكيون، من خلال عدم توفير هامش مناورة كاف لإضفاء الشرعية من خلال شراكة حقيقية وشاملة.
   من الصعب إلقاء اللوم على كلينتون: لقد كان واقعيًا... لكن من خلال كونه واقعيًا للغاية، وغير مثالي بما يكفي، في وقت كان باستطاعته احداث الفارق، فقد ساعد في جعل عودة الإمبريالية الروسية نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها.

المرجع
سيرجي رادشينكو “2020” “لا شيء سوى الإذلال لروسيا”: موسكو وتوسعة حلف شمال الأطلسي شرقًا، 1993-1995”، مجلة الدراسات الاستراتيجية، معرف الكائن الرقمي: 10.1080 - 01402390.2020.1820331.
*مؤرخ الحرب الباردة وما بعدها، أستاذ مميّز في ويلسون إي شميدت في مركز هنري أ. كيسنجر للشؤون العالمية، وكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، وأستاذ زائر في جامعة كارديف.