ألقى المؤتمر بعض الضوء على الأزمة:

زيلينسكي في ميونيخ: لا تهدئة ولا حرب...؟

زيلينسكي في ميونيخ: لا تهدئة ولا حرب...؟

-- يواجه الرئيس الأوكراني ضغطاً مزدوجاً: ضغط روسيا على الحدود، وضغط مواطنيه الذين لا يريدون الاستسلام
-- لقد كانت القرم في السابق بمثابة حبل للعلاقات الروسية الأوكرانية، وأصبحت موضع خلاف
-- يؤكد الموقف الروسي أن موازين قوى التســعينيات لــم تعــد موازيـن اليــوم
-- إن وضع أوكرانيا في الناتو هو القضية الأولى المهمة في هذه الأزمة
-- مـن خـــلال تفـــادي موقـف شــــيطنة الخصم، يترك زيلينسكي مجالًا للحوار


بمناسبة مؤتمر ميونيـــخ للأمـن، وهو اجتماع ســــنوي كبير لمناقشــــة قضايــا الأمن الدولي، الرئيس الأوكرانـــي، وهو تحـت ضغط شـــديد، كان منتظرا. مــــاذا يكشـــف خطابه عن الأزمة الحالية؟
    عادةً ما تكون الاجتماعات الدولية الكبرى خاصة فرصة لرؤساء الدول لأخذ قسط من الراحة والخروج من حياتهم اليومية، وبالتالي غالبًا ما يهربون من انتباه رأيهم العام. ومع ذلك، فإن جزءً من الشعب الأوكراني لم يفهم كيف تمكّن فولوديمير زيلينسكي من الذهاب إلى ميونيخ بينما تظل الحرب خيارًا حقيقيًا، وقد أعلنها الأمريكيون ليوم 16 فبراير.
 لن يتخـذ هـــذا الهجـــوم بالضــــرورة شــكل طوابير من الدبـابـات في كييف، كمــــا أكـــد الرئيس بايدن، ولكن ربمــا من خــلال اشــتباكات في دونبــاس.
    خلال خطابه في ميونيخ، أراد الرئيس زيلينسكي تجنب خطاب هيلا سيلاسي اليائس من على منبر عصبة الأمم عام 1936، والتصدي لخطاب فلاديمير بوتين عام 2007، الذي عقد في نفس الإطار. تجدر الإشارة الى أن روسيا رفضت المشاركة هذا العام.

رفض مصير الضحية
   «لا يمكننا أن نضع أنفسنا في توابيت وننتظر وصول الجنود الروس”... بهذه الصيغة القوية، اختتم فولوديمير زيلينسكي خطابه في ميونيخ: أوكرانيا لن تقبل مصير الضحية.
   وهكذا يذكّر بخطاب تاريخي مشهور آخر حول القوى العظمى و “الدول الصغيرة” وكذلك حول ظروف الأمن الجماعي: خطاب الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي الأول في جنيف في 30 يونيو 1936. كان على هذا الملك أن يواجه الغزو الإيطالي لبلاده واحتلالها من عام 1935 إلى عام 1941. ألقى خطابه من على منبر عصبة الأمم، داعيًا المجتمع الدولي إلى مساعدة بلاده في مواجهة العدوان الأجنبي، مستنكرا استخدام المعتدين للأسلحة غير التقليدية “غاز الخردل ضد الجنود والمدنيين».
   ثم ذكّر بالوعود التي قُطعت له: في غياب اتخاذ إجراء، لم تعد قيمة المعاهدات ذات مصداقية، وسيضعف الأمن الجماعي، وستعرف “البلدان الصغيرة” أنها معرضة للخطر. بشكل دراماتيكي، ورغم تصفيق العالم كله وتعاطفه، لم يكن للخطاب أي تأثير مباشر: بقي مثالًا لحركة يائسة، دون أمل في أن يُسمع. استفاد نجوس حتى من دعم الاتحاد السوفياتي، كما يتضح من خطاب ماكسيم ليتفينوف في 12 مايو 1938 في عصبة الأمم: “ الدول المعتدى عليها تصدم وتفرح العالم بشجاعة أبنائها، الذين يواصلون القتال ضد العدوان بقوة ومثابرة وحماسة».
    إن تاريخ مقاومة الدول التي تعرضت للهجوم، ولعبة القوى العظمى، وأوجه القصور في الأمن الجماعي تبدو للأسف حديثة جدًا. لكن فولوديمير زيلينسكي لم يقدم نفسه كضحية تكفير في ميونيخ: لئن جاء للدفاع عن قضيته، لم يكن كزعيم منفي مثل هيلا سيلاسي، ولكن كرئيس في منصبه تستحق برودة اعصابه الاشادة. لقد قدم الرئيس الأوكراني نفسه من خلال إقامة توازن للقوى وعرض آفاق للمفاوضات.

لا تهدئة ولا حرب
   يواجه الرئيس الأوكراني ضغطاً مزدوجاً: ضغط روسيا، التي جمعت عدداً هائلاً من القوات على الحدود، وضغط مواطنيه الذين لا يرغبون في الاستسلام أمام روسيا.
   الضغط الروسي كان قويا منذ عدة أشهر، الى درجة أن القادة الأمريكيين كانوا يعلنون منذ ديسمبر عن هجوم وشيك، أي في اليوم الموالي تقريبًا. وتهدف هذه الاستراتيجية الخطابية الأمريكية إلى مواجهة المحاولات الروسية للتدخل من زاوية “إنسانية” لحماية الأقليات الناطقة بالروسية في دونباس. ويسمح هذا أيضًا لجو بايدن بالحصول على فائدة سياسية من هذه الحلقة: إما من خلال إظهار بُعد النظر، بعد بضعة أشهر من الفشل الذريع للرحيل من كابول، إذا شنت روسيا هجومًا مكثفًا؛ وإما اعتبار أن العمل الرادع قد نجح ضد روسيا لأنها لم تشن هجوما كبيرا.

   ولإظهار رباطة جأشه، رفض فولوديمير زيلينسكي منذ فترة طويلة السقوط في منطق خطاب الهجوم الوشيك: ليس من خلال استبعاد هذا الاحتمال، ولكن من خلال دعوة حلفائه إلى ممارسة ضبط النفس حتى لا يغذوا ديناميات زعزعة الاستقرار الروسي في أوكرانيا.
   وفي ميونيخ، شدد الرئيس زيلينسكي موقفه: إنه يدعو بشكل أوضح إلى رفض سياسة التهدئة تجاه روسيا من قبل الولايات المتحدة والأوروبيين. ومثل هيلا سيلاسي، بالإضافة إلى إدانته للسياسات العدوانية، فإنه يتذرع بفشل الأمن الجماعي: ألم يكن من المفترض أن تضمن مذكرة بودابست لعام 1994 أمن أوكرانيا؟

   للتذكير، تخلت أوكرانيا عن وضعها النووي، عندما كان لديها ثالث أكبر ترسانة أسلحة في العالم في ذلك الوقت، مقابل ضمان أمني. وإذا لم تكن هذه الضمانات كافية، فإن الطلب الأوكراني للانضمام إلى الناتو يكتسب شرعية أكبر، بالاعتماد على فعالية المادة 5 من معاهدة الأطلسي “بند الدفاع الجماعي».
   هل هذا يعني أن الرئيس زيلينسكي انضم إلى حزب الحرب؟ انه لا يزال مؤيدًا لضبط النفس أكثر من المزايدة. تميز المرشح زيلينسكي عن الرئيس المنتهية ولايته بترو بوروشنكو بوضع السلام في دونباس على رأس قائمة أولوياته. قادم من عالم الترفيه وليس من الأجهزة الأمنية، ولد في بلدة ناطقة بالروسية في جنوب شرق البلاد، فهو ليس من الراديكاليين ضد روسيا. كما تظهر إدارته للأزمة رغبته في السيطرة على خطابه.

   لقد حذر الرئيس زيلينسكي في خطاباته العامة في 20 و25 يناير من آثار الخوف، وهو هدف روسيا. ولكن انسجاما مع مطالب الغالبية العظمى من الشعب، سيدافع عن بلاده، رغم المخاطر العسكرية والمعلومات المضللة والعواقب الاقتصادية لهذه الأزمة. لكن من المؤكد أن أوكرانيا لم تعد الدولة المنقسمة التي اعتدنا وصفها خلال العقدين الأولين من استقلالها، ولم تعد روسيا تتمتع بنفس النفوذ هناك بسبب الصراع، حيث تم إضعاف حلقات مؤيديها.
   الرئيس زيلينسكي ليس من دعاة الحرب لأنه يعتبر أن المناطق الانفصالية “القرم ودونباس” ستعود إلى أوكرانيا من خلال عملية سلمية. ومع ذلك، هناك سؤال واضح يطرح نفسه: هل ترغب أوكرانيا في الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاقيات مينسك التي لا تحبذها؟ وإذا كانت أوكرانيا لا تريد اتباع اتفاقيات مينسك، فعلى أي أساس سيُصنع السلام؟

نحو بنية أمنية جديدة في أوروبا؟
   كان الرئيس الأوكراني محقًا عندما أشار إلى أن دونباس ليس مشكلة أوكرانية، بل مشكلة أوروبية. وهذا يثير ثلاثة أسئلة ذات صلة، وهي العلاقات بين أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي، والعلاقات بين أوكرانيا وروسيا، وأخيراً مسألة الهيكل الأمني في أوروبا. الاجوبة التي سيتم تقديمها سيكون لها تأثير حاسم على نتيجة الأزمة.
   إن وضع أوكرانيا في الناتو هو القضية الأولى المهمة في هذه الأزمة. يستمر مبدأ توسيع هذا التحالف العسكري في سياسة الليبرالية الدولية التي كرست في التسعينات، بينما يؤكد الموقف الروسي أن موازين قوى التسعينات لم تعد موازين اليوم. لكن الحقيقة هي أن فلاديمير بوتين يُستمع إليه بجدية أكبر، مع جيش مستعد للتدخل، أكثر من ميخائيل جورباتشوف الذي ندد بـ “الخطأ الجسيم” الذي سيشكله توسيع الناتو قبل 10 أبريل 1997 أمام مجلس الشيوخ الأمريكي.

    في 5 فبراير 1997، كتب جورج كينان، ابو مبدأ الاحتواء الأمريكي، في صحيفة نيويورك تايمز، أن “توسّع الناتو سيكون الخطأ الأكثر كارثية في السياسة الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة بأكملها”. ولكن، على العكس من ذلك، كيف لا يمكن الاعتراف بشرعية المطالب الأمنية لأوكرانيا، التي لا تريد أن تكتفي بكونها “دولة عازلة”؟ دعا زيلينسكي أخيرًا إلى مسار واضح لعضوية الناتو، وليس سنوات وسنوات من المماطلة. لكن مثل هذا العرض بطيء في التنفيذ، نظرًا لوجود العديد من العوامل الكابحة. يمكن أن يكون تطبيق اتفاقيات مينسك أحد العوامل الرئيسية المعوقة: في الواقع، من خلال إعادة دمج جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، يمكن لأوكرانيا أن ترى روسيا تستفيد من حق النقض في مسائل السياسة الخارجية على أرض الواقع.

   على وجه التحديد، إن العلاقة الروسية الأوكرانية معطى أساسي. وكانت القطيعة بين أوكرانيا وروسيا سارية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأدت الحرب في أوكرانيا إلى تسريع هذا الاتجاه بقوة. لقد كانت القرم في السابق بمثابة حبل للعلاقات الروسية الأوكرانية، وأصبحت موضع خلاف. وضعف نفوذ روسيا عبر قنوات مختلفة إلى حد كبير، حتى وهي تحاول الحفاظ على مواقعها. ومع ذلك، أشار فولوديمير زيلينسكي خلال خطابه إلى ضرورة إجراء حوار مباشر مع موسكو على الفور، دون أن يعرف “ما يريده الرئيس الروسي».
    ومن خلال تفادي موقف شيطنة الخصم “حتى لو رفض الأخير مقابلته”، فإنه يترك مجالًا للحوار، ولكن يجب تحريك ديناميتين: تنفيذ أو عدم تنفيذ اتفاقيات مينسك، وعندما يتغيّر السياق السياسي، فان مشروعا للمصالحة من أجل المستقبل بين البلدين يجب أن يرى النور، على غرار ما حدث بين فرنسا وألمانيا بعد عام 1945.

   أخيرًا، بعيدًا عن الأسئلة المباشرة لحلف الناتو وروسيا، فإن الهيكل الأمني هو في الواقع موضع تساؤل. جعله الرئيس ماكرون موضوعًا مهمًا على الاجندة الفرنسية الروسية في أغسطس 2019، لكن مبادرته أسيء فهمها في أوروبا، حيث لم يتم التشاور بشأنها كثيرًا. فعند التعامل مع مسألة الناتو وروسيا ومينسك، فإننا نتطرق في النهاية إلى الهيكل الأمني ، مع قاعدة واضحة لزيلينسكي: أننا نتفاوض في إطار مينسك في أربع دول، 11 أو 100، الأمر ليس مهما، فقط أوكرانيا يجب أن تكون على الطاولة.

   بعد خطابه، وراء وحدة الأمريكيين والأوروبيين لدعم أوكرانيا، لا يزال الالتباس قائمًا: هل يجب أن نعتبر الهجوم على كييف وشيكًا مع جو بايدن أم نتبع الصين عندما توضح أن مخاوف روسيا مشروعة؟ ألا يجب أن نفترض قرارات روسية مع ألمانيا، أو نحاول التموقع كوسيط كما تحاول تركيا ان تفعل؟

   وخصوصا، كيف يمكن التفاوض على حل مقبول يحفظ ماء وجه كل طرف، وهو شرط لا غنى عنه للعمل الدبلوماسي من أجل إنقاذ السلام؟ إلى متى يمكن أن تستمر هذه التوترات بين التهديدات العسكرية والعمليات الانتقامية والعقوبات وعروض الحوار؟ يكمن جزء من الإجابة في تصرفات الرئيس الأوكراني، وقد ألقى مؤتمر ميونيخ بعض الضوء على الأزمة الحالية.

*الأمين العام لـ مركز البحوث في معهد العلوم السياسية، واستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية في باريس، باحث مشارك في  المركز الجغراسياسي
للمدرسة العليا للتجارة.