في عين الإعصار:

سريلانكا: من أزمة اقتصادية إلى أزمة سياسية...!

سريلانكا: من أزمة اقتصادية إلى أزمة سياسية...!

-- بعد استقلالها، بدت الجزيرة كنموذج اقتصادي يحتذى في منطقة جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا
-- ديون الجزيرة هائلة، وتمتلك الصين الآن 10 بالمائــة من ديــون البــــلاد
-- لهذه الأزمة أصول متعددة ترتبط أولاً بوعود انتخابية شعبوية تم تجسيدها
-- حتى السبعينيات، كانت سريلانكا تعتبـر نموذجــًا للتنميــة العالميــة
-- دوامة الديون والعنف تتسبب في موجة نزوح ومحاولة العثور على ملاذ في الهند


   منذ شهرين، تواجه سريلانكا أسوأ أزمة اقتصادية لها منذ استقلالها عام 1948، وردود الدولة تشير إلى أنها غير قادرة على حماية مواطنيها، بل على العكس تمامًا.    لم يغير تنصيب رئيس الوزراء الجديد رانيل ويكرمسينغه يوم الخميس 12 مايو أي شيء. فهو يواجه من البداية صعوبة كبيرة في إقناع أعضاء أحزاب المعارضة والأغلبية بتشكيل حكومة وحدة وطنية. خصوصا، يريد سكان سريلانكا (ما يزيد قليلاً عن 20 مليون شخص) قبل كل شيء، استقالة جوتابايا راجاباكسا، رئيس البلاد منذ نوفمبر 2019.

دولة على شفا الإفلاس
   إذا كان سوء الإدارة الاقتصادية ليس جديدًا على سريلانكا -فشلت الحكومات المتعاقبة في إدارة التضخم والديون والإنفاق -فان القرارات التي اتخذتها جماعة راجاباكسا قادت الجزيرة إلى حافة الهاوية. لأول مرة منذ عام 1948، توقفت الدولة عن سداد ديونها الخارجية في 12 أبريل 2022.  لهذه الأزمة أصول متعددة. ترتبط أولاً بوعد غوتابايا راجاباكسا الانتخابي، الذي اقترح، مع اقتراب انتخابات نوفمبر 2019، تخفيضات ضريبية جذرية (من خلال الإلغاء المطلق والبسيط لسبع ضرائب) وخفض معدل ضريبة القيمة المضافة من 15 إلى 8 بالمائة. تم تبني هذه الإجراءات الشعبوية بعد فوزه، على الرغم من أن البلاد استفادت من قرض صندوق النقد الدولي على 4 سنوات.
   ظهرت مخاوف من حدوث انهيار أوسع مع الوباء، الذي أدت إجراءات احتوائه المختلفة إلى تقويض الدخل من السياحة (أحد مصادر العملات الرئيسية للبلاد، والتي تزن 13 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي) والتحويلات المالية.
   خفضت وكالات التصنيف الائتماني تصنيف سريلانكا. وللبقاء واقفة على قدميها، طبعت الحكومة النقود، وزادت العرض بنسبة 42 بالمائة بين ديسمبر 2019 وأغسطس 2021، مما غذى ما سيصبح أسرع تضخم في آسيا.

   كانت إحدى أكثر السياسات كارثية في ظل رئاسة جوتابايا راجاباكسا، هي حظر، دخل حيز التنفيذ في 26 أبريل 2021، جميع الأسمدة الكيماوية ومبيدات الآفات ومبيدات الأعشاب ومبيدات الفطريات. وقدم السياسيون الحظر المفاجئ على أنه وفاء بوعد انتخابي باحتضان الزراعة العضوية.
   في الواقع، في مواجهة أزمة ميزان المدفوعات ونقص حاد في العملة الأجنبية، رأى الكثيرون في هذه الخطوة محاولة لتوفير الدولارات من خلال الحد من الواردات. وفي اقتصاد لا يزال فيه القطاع الزراعي مهمًا (يوظف ما بين ربع وثلث القوى العاملة الوطنية وفقًا للتقديرات)، على الرغم من مساهمته المنخفضة في الناتج القومي الإجمالي (أقل من 8 بالمائة)، أدت هذه الإجراءات إلى انخفاض في غلة المحاصيل، وإغلاق المزارع (مما أدى إلى نضوب عائدات تصدير الشاي)، وفقدان الوظائف ونقص الغذاء.

   لقد تعرض قطاع بأكمله والعديد من فروعه للزعزعة، مما أدى إلى انهيار سبل عيش المزارعين. ففي غضون ستة أشهر فقط، انخفض الإنتاج الوطني من الأرز بنسبة 20 بالمائة، وإنتاج الشاي بنسبة 40 بالمائة. وأدى ارتفاع معدلات التضخم في بعض الأحيان إلى صعوبة الوصول إلى مخزون الغذاء المتاح، مما أثار مخاوف بشأن احتمال حدوث مجاعات بسبب نقص الغذاء.
   هذه الآلية الجهنمية، بالطبع، تغذيها الصدمات الخارجية مثل وباء كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية: تساهم هذه الأخيرة في تضخم بعض المواد الغذائية، ووضعت حدًا لوصول السياح من هذين البلدين في حالة حرب، وجعلت من الصعب على الدولة شراء النفط من روسيا حتى لا تزعج الشركاء الغربيين. ومع ذلك، فإن الأخطاء السياسية الداخلية كثيرة ومهيمنة.

   ديون الجزيرة هائلة، حيث تمثل قرابة 51 مليار دولار. خلال رئاسة ماهيندا (2005-2015)، أبرمت الدولة قروضًا ثنائية عديدة مع الصين لتمويل مشاريع تشييد بنية تحتية باهظة التكلفة كما لم تكن مجدية: مركز مؤتمرات ومطار وميناء في جنوب الجزيرة في هامبانتوتا -أفيال بيضاء حقيقية! عام 2017، أجبر عجز سريلانكا على سداد ديونها على التنازل عن الميناء الجديد للصين مدة 99 عامًا. وعلى الرغم من هذه السابقة، حصل راجاباكسا على قروض أخرى من بكين لتمويل مشاريع التجديد الحضري في كولومبو لجعلها مدينة ذات امتداد عالمي، ولكن أيضًا لدفع الفوائد المستحقة للبنوك الصينية.   تمتلك الصين الآن 10 بالمائة من ديون البلاد.

   ونظرًا لغياب احتياطيات من العملات الأجنبية في البلاد تقريبًا (أقل من 50 مليون دولار اعتبارًا من 4 مايو 2022)، أصبح استيراد الأدوية الأساسية والمواد الغذائية وغاز الطهي والوقود أمرًا صعبًا للغاية. وبالإضافة إلى تحمّل هذا النقص، يعاني السكان من انقطاع التيار الكهربائي الذي يمكن أن يستمر مدة تصل إلى ثماني ساعات في اليوم.

    الجدير بالذكر، أن البوذيين السنهاليين، وهم الأغلبية في الجزيرة، والذين اوصلوا غوتابايا إلى رئاسة الجمهورية بتصويتهم، وقد أغرتهم وعوده بإعادة الأمن (للسكان    الذين أصيبوا بصدمة جراء هجمات عيد الفصح 2019) والازدهار، كانوا أول من استنكر التدهور العنيف للظروف المعيشية. وقد دفع هذا الوضع مئات الآلاف من المواطنين من جميع الأجيال ومن جميع الخلفيات الاجتماعية (بخلاف الانقسامات المبنية تاريخيًا بين السنهاليين والتاميل والمسلمين) إلى النزول إلى الشوارع للاحتجاج والمطالبة باستقالة الرئيس. وأصبح شعار “غوتا اذهب للبيت”، المطلب الرئيسي منذ أبريل الماضي خلال التظاهرات السلمية.  

  في مواجهة هذه الانتفاضة الشعبية انشق حزب الرئيس عن الفريق الحاكم. استقال جميع الوزراء والحكومة، تاركين الأخوة راجاباكسا وحدهم في مناصبهم لمواجهة مسؤولياتهم، وخاصة في مواجهة المتظاهرين المصممين على إجبارهم على الاستقالة من أجل وضع حد لجناح العائلة التي حكمت الجزيرة دون منازع تقريبًا منذ عام 2005. دعمت النقابات العمالية المتظاهرين من خلال تنظيم إضرابات عامة تابعها بشدة السريلانكيون.

   وأمام مناهضة سلطتهم، حاول جماعة راجاباكسا، يوم الاثنين 9 مايو، حشد بعض أنصارهم في كولومبو وتحريضهم على مهاجمة المتظاهرين وطردهم. ورداً على ذلك، تصدى المتظاهرون بعنف شديد للمهاجمين واقتحموا منزل رئيس الوزراء.
   على مستوى الجزيرة، تم حرق أو تدمير العديد من ممتلكات جماعة راجاباكسا وحلفائه. وفي مواجهة الغضب العام، فضل ماهيندا تقديم استقالته وتم تهريبه من قبل الجيش.

   وُضع في قاعدة عسكرية في شمال شرق البلاد، مثل 16 من أقاربه، ومُنع من مغادرة البلاد. وأمر غوتابايا، الذي بقي وحيدًا في السلطة، بإطلاق النار على “المخالفين للقانون”. وعلى الرغم من هذه التوجيهات، يواصل العديد من المتظاهرين الاجتماع علنًا، ويطالبون بتصميم أكثر من أي وقت مضى باستقالة غوتابايا. علاوة على ذلك، فإن دوامة الديون والعنف هذه تتسبب مرة أخرى في موجة نزوح الذين يمكنهم مغادرة العاصمة، بينما يحاول آخرون العثور على ملاذ في الهند.

إهمال سلالة سياسية
   قبل بضعة أشهر فقط، كان مثل هذا التشكيك في النظام غير وارد. على مدى اثني عشر عامًا من العشرين عامًا الماضية، سيطر أفراد عائلة راجاباكسا على أعلى مستويات الحكومة في سريلانكا.
   قاد غوتابايا، 72 عامًا، وزير الدفاع السابق، حملة نهائية مميتة لإنهاء الحرب ضد الانفصاليين التاميل، والتي أودت بحياة ما يصل إلى 100 ألف شخص، قبل الانتصار العسكري الأخير للجيش السريلانكي عام 2009. شقيقه، ماهيندا، 76 عامًا، السياسي عقل الأسرة، كان مرتين رئيسًا ومرتين رئيس وزراء. شقيقان آخران، شامال (79 عامًا) وباسل (71 عامًا)، اقتطعا مكانًا لهما في إدارة الموانئ والزراعة والمال. وشغل العشرات من أفراد الأسرة مناصب عليا حتى مارس 2022.

   بعد انتخابه رئيسًا عام 2019، تحرك غوتابايا راجاباكسا سريعًا لاستعادة السلطوية الشعبوية للأسرة، مزيّنة بدعوات قومية للبوذيين السنهاليين. وأدت التغييرات الدستورية الأخيرة (بعد الانتخابات البرلمانية لعام 2020) إلى زيادة سلطة الرئيس (من خلال اعتماد التعديل العشرين، الذي يرفضه اليوم المتظاهرون والمعارضة) وتعزيز التمييز ضد التاميل والأقليات المسلمة.
   ومع ذلك، مع هذه الأزمة الاقتصادية، يبدو أن غالبية السكان، السنهاليين البوذيين، الذين صوتوا لغوتابايا، قد فهموا أيضًا أن هذا النظام قد نهب البلاد حقًا. لذلك تحولت الأزمة الاقتصادية إلى أزمة سياسية خطيرة للغاية حيث تم نزع الشرعية تمامًا عن كل من جماعة راجاباكسا والنظام. ويطالب المتظاهرون راجاباكسا بالرد أمام المحكمة على تهم الفساد واختلاس المال العام والاغتيالات السياسية (صحفيون ونشطاء حقوقيون ونشطاء حقوق الأقليات) وجرائم الحرب التي ارتكبت خلال المرحلة الأخيرة من الحرب ضد الانفصاليين التاميل.

   وفي ظل هذه الظروف، من غير المرجح استقالة الرئيس، الذي يتمتع بسلطات هائلة، فقط لأن بقاءه في منصبه يسمح له بالاستمرار في الاستفادة من الحصانة التي يمنحها له الدستور. ان استراتيجيته، هي محاولة إطالة أمد الموقف لأطول فترة ممكنة.
   بعد الاستقالة القسرية لأخيه، لعب جوتابايا ورقته الأخيرة بتعيين رانيل ويكرمسينغه رئيسًا للوزراء. إنه سياسي ذو خبرة كبيرة وسبق ان شغل منصب رئيس الوزراء خمس مرات. وبصفته معارضًا سياسيًا لجماعة راجاباكسا، عمل مع غوتابايا عن كثب على مدار الشهرين الماضيين لإصلاح وزارة المالية والبنك المركزي من أجل إصلاحات مالية ونقدية شاملة.
   وعلى الرغم من صورته الجيدة على المستوى الدولي، إلا أن السكان والطبقة السياسية لا يؤيدون هذا الخيار.
  ينظر المتظاهرون إلى ويكرمسينغه على أنه ممثل نموذجي للطبقة السياسية السريلانكية، طبقة يعتبرها السكان عاجزة على الحكم، ولم يعودوا يريدونها.

بالنسبة للمتظاهرين، وقف التعبئة غير مطروح ما دام راجاباكسا الأخير في السلطة. ويرفض ساجيث بريماداسا، زعيم حزب المعارضة الرئيسي، المشاركة في الحكومة حتى يستقيل الرئيس أولاً.
  معزولا، يواجه ويكرمسينغه، النائب الوحيد لحزبه في البرلمان، صعوبة كبيرة في العثور على متطوعين لتشكيل حكومته، وقد شوهت صورته الآن بشكل لا يمحى بين المتظاهرين بسبب تعاونه مع غوتابايا.

نهاية جزيرة نموذجية؟
   عند الاستقلال، بدت الجزيرة كنموذج اقتصادي يحتذى في منطقة جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا. وحتى السبعينات، كانت سريلانكا تعتبر نموذجًا للتنمية العالمية. وعلى الرغم من أن دخل الفرد كان منخفضًا للغاية، إلا أن مؤشرات التنمية البشرية كانت عالية جدًا، ويرجع ذلك أساسًا إلى التعليم التقدمي والسياسات الصحية.
    يبدو أن ما يحدث حاليًا في سريلانكا يعكس الركود الاقتصادي الطويل في السبعينات الذي أدى إلى إصلاحات التحرير الاقتصادي التي نفذتها حكومة جي آر جايواردين، من خلال تنفيذ سياسات الاصلاح الهيكلي بدعم من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
  وعلى مدى أربعة عقود، كثفت الجزيرة من وضع السياسات النيوليبرالية، والتي أدت إلى زيادة التبعية، وسقوط السلطة في أيدي نخبة صغيرة، وأمولة ما هو اقتصادي وعقاري، وخصوصا، تزايد التفاوت الاجتماعي.

   أجبرت الإدارة الاقتصادية السيئة للبلاد من قبل راجاباكسا جوتابايا على الموافقة على الاستنجاد بالبنك الدولي، وخاصة، الدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للاستفادة من قرض طارئ. الا ان الانتفاضة الشعبية والتشكيك في السلطة التنفيذية نزعا الشرعية عن الوفد السريلانكي وقدرته على فرض إعــــادة هيكلة جذرية لاقتصاد الجزيرة مقابل أي قرض طارئ.
   من جهة اخرى، بينما يرى بعض السريلانكيين أن صندوق النقد الدولي هو المؤسسة الوحيدة القادرة على إنقاذ بلادهم من الإفلاس وتحسين وضعها المالي، يشعر آخرون بالقلق الشديد بشأن هذا الاحتمال. في الواقع، ستأتي مساعدات صندوق النقد الدولي بالتأكيد بشروط من المحتمل أن تُفرض على الجزيرة، مثل سياسات التقشف، والتخفيضات الجديدة في الحماية الاجتماعية، وخصخصة بعض الشركات العامة.

ما الحلول؟
   ما هي البدائل التي يمكن أن تظهر؟ يبدو أن الجزيرة مطالبة بالتركيز بشكل مطلق على زراعتها لتجنب النقص والمجاعة. سيتعلق الأمر بإعادة بناء نظام غذائي ومحاولة الحد من التفاوت. بالإضافة إلى ذلك، فإن الزيادة في الضرائب، وهو أمر ضروري لخزينة الدولة، يجب أن يتحمّلها خاصة، من باب التضامن، أكثر الشرائح ثراءً في البلاد من أجل التخفيف من الفقر وتخفيف الفجوات. وتُظهر التعبئة النشطة للغاية للمتظاهرين والنقابات العمالية، أن السريلانكيين لن يسمحوا للسياسيين بالتضحية بمكاسبهم الاجتماعية (التعليم والصحة والكهرباء التي يمكن الحصول عليها بتكلفة منخفضة جدًا) لتعزيز خطة التعافي الاقتصادي لصالح النخبة والطبقة السياسية فقط.
   أخيرًا، تمثل الأزمة السريلانكية رمزًا لما يحدث في أماكن أخرى. تعاني العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم من نفس الدوامة الجهنمية التي تجمع بين التضخم وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة والديون وخطر التخلف عن السداد، مع عواقب وخيمة على السكان. وعلى غرار سريلانكا، يبقى السؤال معرفة ما إذا كان الحل الوحيد لإنقاذ اقتصاد هذه البلدان الضعيفة يمكن أن يمر فقط من خلال تدخل صندوق النقد الدولي، وهو مرادف لإعادة هيكلة قاسية للغاية للسكان.

*جغرافي، أستاذ-باحث، المعهد الفرنسي بونديشيري، جامعة بوردو
**باحث في الجغرافيا، جامعة كيبيك في مونتريال