التعاون الدولي الفرنسي : نحو صياغة سياسة بديلة

سياسة التعاون الفرنسية محملة بروح التبعية الاستعلائية و السياق الاستراتيجي الدولي يقتضي بوصلة جديدة

سياسة التعاون الفرنسية محملة بروح التبعية  الاستعلائية و السياق الاستراتيجي الدولي يقتضي بوصلة جديدة

-- التحديات الأمنية الدولية المشتركة وغيرها ولدت احتياجات جديدة للتعاون بين الدول
-- إعطاء الأولوية للتنمية المشتركة بدلا من فكرة المساعدة
-- التعاون ليس مجرد تقنية بل تكريس للسيادة و المسؤولية والحرية


يشهد العالم اليوم تفكك النظام الدولي ، غير المستقر ، منذ نهاية الحرب الباردة  ، و بدلا من الاستقطاب الثنائي تبرز اليوم أقطاب جديدة تزاحمه على مجالات تدخله و سيطرته السياسية و الاقتصادية و الثقافية . أمام  هذه الأقطاب الجديدة و على رأسها الصين يتراجع  الحضور الأوروبي في أفريقيا التي تجد نفسها في قلب هذه الديناميكية الجيوستراتيجية الدولية  الجديدة .
الباحث الفرنسي في العلاقات الدولية إتيان هيوغ بجامعة السوربون بباريس  يرصد هذا التراجع و بالذات للحضور الفرنسي  و يتساءل ان لم تكن سياسة التعاون الدولي الفرنسية القائمة على أسس عقائدية سببا فيه ،و يتناول إمكانية بناء هذه السياسة على أسس جديدة تكفل للدول الإفريقية الشريكة سيادتها و حريتها و مسؤوليتها أيضا في تحمل أعباء نهضتها و تنميتها كما تضمن لفرنسا أيضا تنمية مشتركة .

 أفريقيا تُناور
يقول الخبير الفرنســــي ،إن الـــــدول الإفريقيـــــة لم تعــــــد متفرجـــة ســــلبية على هــــــذا التغير في العلاقات الدولية  إذ باتت تستخدم التنافس بين القوى العظمى كأداة للمساومة لزيادة مساحة المناورة لديها ..

يتم هذا في سياق لم يكن فيه الاعتماد المتبادل بين الدول ، سواء كان مفروضا أو مختارا ، بهذا الارتفاع من قبل .
ويضيف إتيان هيوغ  في هذا المناخ الدولي المتقلب لم يعد التعاون مسألة أخلاقية إذ أصبح قبل كل شيء ضرورة عملية .و يتحتم بناءا على هذا الواقع اجراء جردة حساب دقيقة لسياسة التعاون الفرنسية خاصة بعد إعلان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ، بشكل رسمي منذ أشهر، عن نهاية عملية برخان التي خصصت لها فرنسا حوالي 5 ألاف جندي بهدف صد الهجمات الارهابية ليس فقط عن شمال مالي بل على  منطقة الساحل كلها و ذلك بالتعاون مع مجموعة الساحل التي تضم 5 بلدان إفريقية .

 نتائج متباينة
في منطقة الساحل، وعلى الرغم من الجهود البشرية والمالية الكبيرة التي تبذلها فرنسا وشركاؤها للمساعدة في تحقيق الاستقرار واستعادة التنمية في المنطقة، إلا أن الوضع لا يزال محفوفًا بالمخاطر و التحدي الأمني و الثقافي قائمان ، إذ ما فتئت هذه الجماعات تكتسب أعضاء جددا و تتوسع في المنطقة مُنشئة خلايا نائمة هنا و هنالك، و كاسبة مناصرين لها في الفكر و أسلوب المقاومة .
ومن المفارقات، أنه على الرغم من أن المساعدة الإنمائية الرسمية الفرنسية تتزايد باستمرار في منطقة الساحل لعدة سنوات ، فإن صورة فرنسا ، وقدرتها على توليد الجاذبية و الحصول على دعم شركائها، تبدو باهتة أكثر من أي وقت مضى.
وعلى الرغم أيضا من زيادة الموارد المخصصة للتعاون ، فإن المشاعر المعادية لفرنسا بدأت  تستقر تدريجياً داخل الأطراف المتنامية لمجتمعات غرب أفريقيا. وفي الوقت نفسه ، وبعيدًا عن الكليشيهات التي يتم نقلها غالبًا ، فإن  موقع التجارة الفرنسية في القارة الأفريقية شهد تآكلا ملحوظا منذ العقد الاول من القرن الحادي و العشرين ، ولا سيما في البلدان الناطقة بالفرنسية.

نفس الفشل نشهده أيضا في لأفغانستان إذ لم يكن الدعم الهائل من المانحين الدوليين ، و خاصة من فرنسا ، كافيا لمنع حدوث انهيار مؤسسات الدولة الأفغانية .
للاستفادة من هذا التراجع الاستراتيجي لفرنسا سعى اللاعبون الدوليون الجدد الى إيجاد موطئ قدم بالدول الأفريقية و تعزيز وجودهم بعرضً بديل عن نموذج التعاون الفرنسي.
 و يدعو الباحث الفرنسي الى دراسة ما يسميه بالسردية الجديدة التي يقدمها هؤلاء اللاعبون الجدد و على رأسهم الصين و روسيا  و تركيا ، فما تمت دراسته من هذه السردية يعتبر قليلا.
 إذن يبدو التعاون الفرنسي الآن في تراجع هذه حقيقة لا يمكن دحضها، يقول إتيان هيوغ فكيف نفسرها خاصة ان جودة الخبرة التي تقوم فرنسا  بتعبئتها  ليست موضع تساؤل. ومن ناحية أخرى، يتساءل  الباحث عن الأساس العقائدي الذي بُني عليه النموذج  الفرنسي في التعاون وهل يتكيف مع النظام  الدولي الجديد الذي يتشكل أمام أعيننا؟

 مبادئ عفا عليها الزمن
لفهم المبادئ التوجيهية التي لا تزال توجه السياسة الفرنسية للتعاون الدولي اليوم، يجب أن نعود الى خطاب  فرانسوا ميتران عام 1990 حول أسس هذا التعاون لنرى الفجوة بين ما ذلك الخطاب و واقع الحال اليوم
ففي سياق تميز بتفكك الاتحاد السوفياتي ونهاية المنافسة بين الشرق والغرب ، كانت فرنسا تعتزم حينئذ تطوير علاقاتها مع دول القارة الأفريقية طبعا للحفاظ على وجودها القديم بالقارة و في إ طار التمكن من الفضاءات التي كانت يحتلها الاتحاد السوفياتي ، سابقا ، الذي كان له وزن كبير بالعديد من الدول الافريقية هذا من ناحية و لكن ميتران دعا من ناحية أخرى أن تكون مساعدات التنمية التي تمنحها باريس مشروطة بتنفيذ الإصلاحات الهادفة إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على المجتمعات الأفريقية. والعلاقات الدبلوماسية اصبحت بدورها أكثر تقنية وأقل سياسية. و الآن ايضا  تعتبر من الماضي البعيد  وزارة التعاون الفرنسية  التي أغلقت أبوابها  عام 1999 ،  أي بعد أربعين عامًا من وجودها. ومن علامات العصر ، أن الصين  اشترت فندق مونتسكيو ، الذي كان يضم وزارة التعاون في باريس ، منذ أن أنشأت  الصين سفارتها هناك  عام 2017.

لقد مر أكثر من ثلاثين عامًا على الخطاب الذي ألقاه  فرانسوا ميتران في مدينة لابول الفرنسية أثناء الفرنسية أثناء انعقاد القمة الفرنسية الافريقية  و  تثبت المبادئ المذهبية التي تم وضعها في ذلك الوقت أنها غير مناسبة اليوم اذ كانت مُجملة بروح استعمارية جديدة إذ بدى ميتران أبا يُعطي دروسا لأطفال  قُصر ، و هذا يعني أن السياق الاستراتيجي الدولي الجديد يفترض صياغة بوصلة جديدة لسياسة تعاون الدولي  .
 فماذا يمكن أن تكون خطوط القوة ،  والنقاط الأساسية في هذه السياسة الجديدة ؟

تعاون السيادة والمسؤولية
في عالم يسوده الاعتماد المتبادل ، يعني التعاون بناء حلول مفيدة للطرفين للقضايا ذات الاهتمام المشترك.
فمنطق المساعدة ، الذي يراه شركاء فرنسا على أنها علامة على علاقة تبعية غير متوازنة يجب التخلي عنه. كما يجب استبداله بمنطق شراكة أفقي وأكثر تناسقًا.
التعاون ليس مجرد أداة تقنية: يقول إتيان هيوغ ، إنه قبل كل شيء رافعة في خدمة السياسة الخارجية للدول وفي مواجهة عودة  “دولة القوة “ ، ومن الضروري بناء تعاون السيادة والمسؤولية.

السيادة ، لأن الدول لها الحرية في اختيار نموذج التنمية الذي يناسبها ، وفقًا لمساراتها الاجتماعية والتاريخية. على هذا النحو ، فإن العرض الفرنسي   للتعاون يمكن أن يركز على القضايا ذات الصبغة السيادية كالقضايا الأمنية و ترك القضايا المجتمعية للدول المعنية.
أما عن المسؤولية ، و هي النتيجة الطبيعية للسيادة - فلأن التنمية ، مثل الأمن ، هي في المقام الأول مسؤولية الدول نفسها. اذ لا يمكن ان يكون التعاون بديلا عن مسؤولية الدولة ثم  إن الاستجابة بطريقة مستدامة لنقاط الضعف التي تمر عبرها  المجتمعات هي قبل كل شيء مسؤولية الدول المعنية. كذلك تحديد الحلول التي سيتم تقديمها وصياغتها لا يمكن إلا أن يكون داخليًا. ولكي يكون الدعم المقدم من قبل الفاعلين المتعاونين فعالاً ، يجب ان يكون متوافقا مع ما تم التعبير عنه  من الاحتياجات  الحقيقية لهذه الدول بوضوح.

و يضيف الباحث الفرنسي إذا لم نطور دولة أو مجتمعًا من خلال التعاون ، فإنه يمكننا ، من ناحية أخرى ، أن نتطور معًا.  ومن هنا يجب إعطاء الأولوية لفكرة التنمية المشتركة التي تعكس هذا الواقع أكثر مما نعطيها لفكرة المساعدة  .  إن الاحتياجات المتزايدة  للتنمية في الدول التي نتعاون معها ، ولا سيما في البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية ، هي العديد من الفرص المشتركة التي ينبغي أن تجعل من الممكن ، في إطار الشراكة ، تعزيز مهاراتنا ودرايتنا. ،  سواء في القطاع العام و في القطاع الخاص ,و في هذا الصدد ستستفيد الشركات الفرنسية من ارتباطها بشكل أفضـــــل بسياسة التنمية المشتركة هذه ،  خاصة الشركات ذات الحجم المتوســـــط والتي غالبًا ما تكافح  ليكون لها موقع دولي .

ومن الناحية الأمنية ، فإن الترابط المتزايد للمجتمعات في مواجهة المخاطر والتهديدات التي تؤثر عليها يولد احتياجات متزايدة للتعاون بين الدول. سواء تعلق الأمر بالاتجار بالبشر  أو الإرهاب أو بالجريمة المنظمة عموما،  إذ اكتسبت القضايا الأمنية بعدًا دوليًا متزايدًا.
في سياق الترابط هذا ، فإن دعم الدول في جهودها لتعزيز أمنها الداخلي هو أيضًا وسيلة للمساهمة ،  تبعا لذلك ، في الأمن الفرنسي والأوروبي عموما .
وسيتطلب تفعيل هذه القاعدة العقائدية الجديدة إعادة اكتشاف البعد العميق المشترك بين الوزارات الذي ميز تاريخياً نظام التعاون الفرنسي  الدولي. وبالتالي ، إذا كان يجب أن يكون لوزارة أوروبا والشؤون الخارجية دور محوري في هذه المسألة ، فيجب السعي إلى مزيد من التآزر بين عمل جميع الوزارات الفرنسية   التي لها علاقة بهذا التعاون .

 و من جانب آخر يرى إتيان هيوغ  أن  المعرفة التفصيلية للديناميكيات المحلية تعتبر ضرورية لضمان نجاح أي عمل تعاوني ، و هذا الجانب لا يزال مهملا لأن التعاون هو قبل كل شيء سياسة ميدانية على المستوى البشري تتطلب المرونة والقدرة على الابتكار على المستوى المحلي. يتعلق الأمر  هنا بالقدرة على “الإصغاء والبناء معًا».

 قطاع الثروة
 الحيوانية في النيجر
كيف يمكن أن يبدو التعاون الدولي القائم على هذه القاعدة العقائدية الجديدة عمليًا؟
 يقدم لنــــــا الباحث الفرنسي حالة قطـــــاع الثروة الحيوانية في النيجر مثــــــالاً مثمراً على ذلك .
بينما  لدى النيجر  ثروة حيوانية لا تتوفر في بلدان غرب أفريقيا الاخرى فان منتجات الألبان التي تصنعها وتسوقها الشركات النيجيرية اليوم بشكل كبيرهي من مسحوق الحليب المستورد ، وأحيانًا يعاد تسمينها بالزيت  بحيث تفقد جودتها الغذائية
تشكل حالة التبعية هذه تحديًا كبيرًا لاستقلال النيجر وأمنها الغذائي ، في سياق وطني وإقليمي هش بشكل خاص في هذا المجال . و من خلال تطوير شراكة مع دولة النيجر لتعزيز قطاع الثروة الحيوانية لديها ودعم شركات الألبان الوطنية بهدف الارتقاء بسلاسل القيمة ، يمكن لفرنسا وشركائها المساهمة في تعزيز السيادة الغذائية والاقتصادية للنيجر ، مع نزع فتيل أسباب الصراع المحلي.

هذه “الشراكة واسعة النطاق” ، التي تشمل مختلف الوزارات والمشغلين المعنيين ، ولكن أيضًا اللاعبين الاقتصاديين الفرنسيين والأوروبيين والنيجيريين ذوي الخبرة المتخصصة ، يجب أن يخدمها التواصل الاستراتيجي بين الوزارات على أساس التعزيز المتبادل للسيادة الغذائية واقتصاد الشريك.  
 على الصعيد الدولي كما يخلص اتيان هيوغ الى القول ، عندما تكون التحديات الجماعية التي يتعين مواجهتها، أكبر من أي وقت مضى ، فإن الأمر يتطلب بذل جهدا لإعادة صياغة سياسة التعاون الخاصة بفرنسا.