في الرابع من سبتمبر يكون الفصل:

شيلي في منعطف حاسم من تاريخها...!

شيلي في منعطف حاسم من تاريخها...!

- تتفاقم خيبة الأمل من الحكومة بسبب الوضع الاقتصادي الصعب في البلاد وارتفاع التضخم
- رفض الدستور، سيكون له عواقب عديدة أبرزها إحياء السخط الاجتماعي
- يركز نص الدستور على الحقوق الاجتماعية للفئات المهمشة
- يمتلك 1 بالمائة من السكان أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي
- مؤلف من 388 بندا، إذا تم تبنيه، سيكون أطول دستور في العالم


    تمرّ تشيلي اليوم بلحظة حاسمة في تاريخها. في الرابع من سبتمبر، سيصوّت ما يقرب من 19 مليون نسمة من سكان البلاد عن طريق الاستفتاء على مشروع دستور تقدمي اجتماعيًا جديدًا يهدف إلى طي صفحة بينوشيه بشكل نهائي. في الوقت الذي يتم فيه كتابة هذه السطور، تعلن استطلاعات الرأي عن رفض النص.
   لفهم هذه المحطة السياسية الحاسمة، من الضروري العودة إلى ثلاث وقائع رئيسية مترابطة: التعبئة الاجتماعية الجماهيرية لعام 2019؛ إطلاق عملية الإصلاح الدستوري عام 2020؛ وانتخاب رئيس من يسار الوسط عام 2021 والذي كان أحد الشخصيات الرمزية في الاحتجاجات الاجتماعية في العقد الماضي.

من نظرية زائفة إلى “الانفجار الاجتماعي” لعام 2019
   في السنوات الأخيرة، كان قطاع عريض من المجتمع التشيلي يبحث بشكل يائس عن بديل للإرث الديكتاتوري لأوغستو بينوشيه المتجسد في دستور 1980 -حتى لو تم تعديله عدة مرات –وما هو ابعد، للنموذج الحالي للمجتمع.
    عندما استولى الجنرال بينوشيه على السلطة عام 1973، كان طموحه هو إحداث تحول عميق في المجتمع من أجل إزالة كل آثار الإصلاح التقدمي، من خلال اقامة “دولة فرعية” يقتصر دورها على التدخل مؤقتًا في القطاعات الاقتصادية، حيث لا يمكن للمبادرة الخاصة القيام بذلك بسبب حدودها الخاصة أو بسبب انخفاض مستوى ربحية النشاط.

 لقد أسّس نظامًا ليبراليًا جديدًا يعطي مكانًا مركزيًا للأسواق والخصخصة والمجموعات الاقتصادية الكبرى، التي تخضع لضرائب ضعيفة.
 ويعتمد هذا النموذج على نظرية زائفة تعتبر أنه إذا تم استيفاء الشروط للسماح بازدهار الثروات والشركات الكبرى، فإن بقية المجتمع سيستفيد على المدى الطويل.

   وعلى الرغم من أن التدابير الاقتصادية الجديدة تسبب نموًا سريعًا، إلا أن التفاوتات الاجتماعية آخذة في الاتساع بسبب إعادة التوزيع غير العادل للثروة.
 حتى اليوم، يمتلك 1 بالمائة من السكان أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعل شيلي واحدة من أكثر الدول تفاوتًا اجتماعيا من بين الدول الـ 34 التي تشكل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
 بالإضافة إلى ذلك، تسمح الدولة للقطاع الخاص بإدارة أنظمة التقاعد والصحة والتعليم، مما يزيد من تفاقم عدم المساواة.
    وعلى الرغم من عودة الديمقراطية عام 1990، إلا أن حكومات التشاور (تحالف أحزاب الوسط واليسار التي هيمنت على الحياة السياسية للبلاد من 1990 إلى 2010) لم تعدل الأسس الاجتماعية والاقتصادية الموروثة من الديكتاتورية.

   ومنذ تسعينات القرن الماضي، نظمت النقابات إضرابات، وطالبت بتحسين ظروف الأجور.
 ثم، خلال سنوات الالفين و2010، كانت تعبئة الشباب للمطالبة بتعليم مجاني وعالي الجودة.
كل هذه المطالب أدت إلى حركة أكبر عرفت باسم “الانفجار الاجتماعي”. من أكتوبر 2019 إلى مارس 2020، امتدت المظاهرات إلى جميع مناطق تشيلي، مهددة بزعزعة حكومة سيباستيان بينيرا اليمينية (ليبرالي يميني، رئيس من 2010 إلى 2014 ثم من 2018 إلى 2022).

تنفيذ العملية الدستورية
   ولتفادي السقوط، قبل بينيرا أحد المطالب الرئيسية للحركة: إطلاق عملية تهدف إلى استبدال دستور 1980.
    في 26 أكتوبر 2020، تم تنظيم استفتاء. أكد سكان تشيلي بنسبة 78 بالمائة تطلعهم إلى ميثاق اجتماعي جديد،
وبعد بضعة أشهر انتخبوا جمعية تأسيسية من 155 عضوًا. هذه الجمعية التأسيسية، التي تضم عددًا متساويًا من النساء (77) والرجال (77) ورئيسًا، يهيمن عليها اليسار وأعضاء الحركات الاجتماعية المختلفة، وتحتفظ بـ 17 مقعدًا لممثلي “الشعب الأصلي” في تشيلي، أي للشعوب والثقافات التي استقرت في أراضي تشيلي الحالية قبل وصول المستعمرين الأوروبيين في القرن السادس عشر. وانطلقت الاعمال في يوليو 2021.

    بعد عشرة أشهر، تم تقديم مقترح نص دستوري.
   يركز النص على الحقوق الاجتماعية للفئات المهمشة (النساء والسكان الأصليين والمعوقين) ويطمح إلى ضمان الحقوق الكونية المتعلقة بحرية التعبير وحماية البيئة والحصول على المياه والرعاية الصحية.
    فيما يتعلق بحقوق المرأة، يكفل النص الحق في الإجهاض غير المقيد، ويؤسس للتناصف بين الجنسين في جميع فروع الحكومة والإدارات العامة.
    من حيث الحقوق البيئية، هذا يعني ضمان حماية والوصول إلى موارد الأراضي والمياه والهواء في البلاد. الحق في الوصول العادل إلى المياه مكفول للجميع، في حين أن بينوشيه خصخص هذا المورد بالكامل.
   في القضايا الاجتماعية، يقترح الميثاق إنشاء نظام رعاية صحية عام ونظام تعليم وطني. كما يخطط لإنشاء دولة متعددة القوميات تمنح المجتمعات الأصلية ضمانات إقليمية بالإضافة إلى الاعتراف الثقافي واللغوي.
   ويُقترح إلغاء مركزية الدولة لمنح المزيد من الحكم الذاتي للمناطق، واستبدال مجلس الشيوخ بغرفة أقاليم. يتم توفير التعددية القانونية أيضًا من أجل السماح لمجتمعات الهنود الحمر بأن يكون لها نظامها القضائي الخاص بها. باختصار، إنه نص تقدمي وطموح وذهب للأقصى، مؤلف من 388 بندا، مما يجعله، إذا تم تبنيه، أطول دستور في العالم.

ليّ ذراع بين تشيلي القديمة والجديدة
   في مفاوضات كاملة بشأن النص الجديد، واجهت شيلي رهانا أساسيا اخر: الفوز بالسلطة الرئاسية.
 الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، في نهاية عام 2021، ضمّت مرشحين من أحزاب غير تقليدية بمشاريع مجتمعية متعارضة تمامًا ضد بعضها البعض.
   أنطونيو كاست، محام ورجل أعمال، مؤسس الحزب الجمهوري (اليمين المتطرف)،
 يشعر بالحنين إلى بينوشيه ويعارض اعتماد دستور جديد، وحملات حول موضوع الأمن والنظام وقمع الجريمة ومكافحة الهجرة.
 ويعتقد أنه يجب حظر الإجهاض في جميع الظروف، ويدعم تخفيض ضريبة الشركات ويدافع عن التقاعد الممول الموكول للقطاع الخاص.
   في مواجهته، غابرييل بوريك، زعيم طلابي سابق لحركة 2011، معاد لبينوشيه، مناهض للنيوليبرالية، شارك في انتفاضة 2019، ومدافع قوي عن كتابة ميثاق جديد. وجد نفسه على رأس تحالف “الموافقة على الكرامة” المكون من أحزاب سياسية يسارية وأقصى اليسار،
ومدعوم من عدة منظمات وحركات اجتماعية تقدمية (نسوية، دعاة حماية البيئة).

 ويقترح هذا إنشاء دولة الرفاهية التي ستنشئ نظامًا عامًا للمعاشات التقاعدية، ونظامًا صحيًا وطنيًا طموحًا، ونظام تعليم عام جيد.
كما أعلن برنامجه عن إصلاح ضريبي يهدف إلى زيادة الضرائب على الشركات الثرية والكبرى. أخيرًا، يطرح بوريك نفسه كمدافع عن حقوق العمال والشعوب الأصلية والنساء ومجتمع المثليين بالإضافة إلى البيئة.
   سياق المطالب الاجتماعية عام 2019، وفقدان شرعية الأحزاب التقليدية وتعبئة الشباب والحركات النسوية، منح الافضلية لبوريك الذي فاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة 56 بالمائة من الأصوات، وهي نتيجة لم تتحقق من قبل.
ومن خلال تعيينه، يعتقد غالبية التشيليين أنهم صوتوا لتغيير جذري في نموذج المجتمع، وبالتالي، للتخلي النهائي عن إرث البينوشيه.

من النشوة إلى خيبة الأمل
   شهر العسل قصير العمر: بعد أسابيع قليلة من تنصيبه، يرى بوريك أن معدل شعبيته ينخفض.
وإذا كان انتخابه قد أثار انتظارات كبيرة بين السكان، فإن عدة عوامل ستتسبّب في تسريع خيبات أمل كبيرة.
   أولاً، اعتدال خطابه حول وتيرة الإصلاحات الاجتماعية التي سيتم تبنيها:
 بينما يتوقع جزء من الناخبين تقدمًا سريعًا فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، اختار بوريك إجراء إصلاحات تدريجية.
   ثانيًا، إن التعهدات التي قدمها الرئيس الجديد للأسواق المالية تخيّب آمال جزء من ناخبيه: يتم تفسير تعيين ماريو مارسيل كرئيس لوزارة المالية على أنه إشارة مواتية للحفاظ على الانضباط في الميزانية -والتي، بالنسبة للبعض، تنطوي على مخاطر إعاقة الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية المعلنة.

   ثالثًا، خلال حملته، عارض بوريك بشدة نشر الجيش في الجنوب -وهو انتشار أمر به سيباستيان بينيرا الذي أرسل الجيش للتدخل بين مجتمع مابوتشي وشركات قطع الأخشاب، والتي يلقي المابوتشي باللوم عليها منذ سنوات، وأحيانًا بعنف جرّاء الاستيلاء على أراضي أجدادهم.
بعد انتخابه، سحب بوريك الجنود من جزء من جنوب البلاد. لكنه أعلن مؤخرًا عودتهم إلى هذه المنطقة، مما دفع بعض أتباعه إلى اتهامه بخيانة وعوده.

    في الواقع، يواجه بوريك اكراهات ممارسة السلطة: بما أنه لا يتمتع بأغلبية في أي من المجلسين “لن تجري الانتخابات البرلمانية القادمة حتى عام 2025”،
فهو ملزم بالسعي الى تحالفات، ممّا يؤدّي إلى الشعور بأن سياسته لن تكون إصلاحية كما أعلن.
وتتفاقم خيبة الأمل من الحكومة بسبب الوضع الاقتصادي الصعب في البلاد، وارتفاع التضخم الناجم عن الوباء، والحرب في أوكرانيا.

فهم فتور الحماس لدستور جديد
   عانت شعبية بوريك أيضًا من فقدان الدعم لمشروع الدستور.
 خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت استطلاعات الرأي تتنبأ بفوز التصويت بالرفض في الاستفتاء.
 وعدة عوامل تفسر هذا التحول في الرأي العام.
   في البداية، كان لحملة الرفض التي قادتها قطاعات المجتمع المحافظة فور انطلاق العملية الدستورية أثرها. علاوة على ذلك، أعطت الخلافات والتوترات الشديدة التي صاحبت المناقشات صورة جمعية تأسيسية اتسمت بالفوضى والاستقطاب.
   يضاف إلى ذلك، الافتقار إلى التواصل بين النواب المؤسسين.
 خلال العمل، تمت مناقشة العديد من المقترحات. وسرعان ما تم رفض بعضها لأنها اعتبرت متطرفة للغاية، على سبيل المثال، إسناد السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية للدولة إلى جمعية متعددة القوميات للعمال والشعوب، أو تأميم صناديق التقاعد، أو جميع شركات التعدين.
لكن السكان لم يتمكنوا دائمًا من “فصل القمح عن القشر”، ويميلون إلى اعتبار أن النص يشمل جميع المقترحات التي تمت مناقشتها، بما في ذلك تلك التي لم يتم الاحتفاظ بها.
   بالإضافة إلى ذلك، فإن الأحكام المنصوص عليها في النص مثل ظهور “التعددية القضائية” “أي إمكانية وصول الشعوب الأصلية إلى العدالة التي تأخذ في الاعتبار عادات وتقاليد وبروتوكولات وأنظمة تنظيم المجتمعات الأصلية” ولامركزية الدولة، تثير مخاوف حقيقية.
   وهذا يعود خاصة الى تأثير حملة التضليل التي نفذها اليمين المتطرف على شبكات التواصل الاجتماعي، والتي تدعي بشكل خاص أن اعتماد النص سيؤدي إلى تغيير العلم الوطني والنشيد الوطني وحتى اسم الدولة.

عواقب الرفض
   سنعرف اذن في الرابع من سبتمبر ما إذا سيتم اعتماد الدستور الجديد ام لا. وفي هذه المرحلة، يبدو أنه من المرجح جدًا أن يتم رفض النص، مما سيكون له عواقب عديدة.
   أولاً، الحفاظ على الدستور الحالي ونموذجه النيوليبرالي.
   ثم، خيبة أمل عميقة للحركات الاجتماعية، والتي ستؤدي إلى إحياء السخط الاجتماعي في البلاد.
   أخيرًا، سيكون أيضًا فشلًا للرئيس بوريك، الذي يعتمد رأسماله السياسي بشكل كبير على تبني المشروع، والذي بدونه لن يتمكن على الأرجح من تنفيذ الإصلاحات الاجتماعية الطموحة التي انتخب من أجلها.

*أستاذ علوم سياسية - علاقات دولية، بجامعة لييج، وعضو مشارك في مركز دراسات التكامل والعولمة بجامعة كيبيك في مونتريال “كندا».