تاريخ النفوذ... الحرب الباردة:
صراع على النفوذ بين إمبراطوريتين أيديولوجيتين متعاديتين
«تبدو الحرب الباردة كسباق لكسب الحلفاء “...” والهيبة. هكذا وصف ريمون آرون الحرب الباردة عام 1951. ولسبب وجيه: هذا هو بالضبط ما كانت عليه فترة التوتر تلك، حرب النفوذ لكسب الحلفاء والحد من تحالفات الآخرين وخصوصا، في هذه المعركة حتى الموت بين كتلتين أيديولوجيتين، كان على كل معسكر أن يقدم نفسه كواجهة عرض لنموذجه الاقتصادي الخاص.
استراتيجية النفوذ الأمريكي: من القوة الناعمة إلى التدخل المسلح
استخدمت الولايات المتحدة، ولا تزال، موقعها المهيمن للتأثير على بقية العالم. لم تكن الحرب الباردة استثناءً، حيث شهدت نشر الولايات المتحدة العديد من الوسائل لتوسيع شبكاتها ومواجهة العملاق السوفياتي.
تأخذ سياسة التأثير هذه أولاً وجه القوة الناعمة. في الواقع، خلال الحرب الباردة، استخدم الأمريكيون انتاجهم السينمائي كسلاح حقيقي ضد المعسكر الشيوعي. أفلام هوليوود موجهة في اتجاهين مختلفين ولكن متكاملين. من ناحية، تستخدم الأفلام لتصوير الشيوعية السوفياتية والاتحاد السوفياتي في ضوء شرير. وفي نفس الوقت، يتم إنتاج أفلام هوليوود الأخرى من أجل تمجيد طريقة الحياة الأمريكية، طريقة الحياة الاستهلاكية والرأسمالية.
تعمل هذه السينما أيضًا كواجهة عرض للصناعة الأمريكية وتسمح بتقديم منتجاتها إلى الدول الأوروبية من خلال الأفلام. أخيرًا، وبما لا يثير الدهشة، أن النوع الأكثر تأثراً بالدعاية هو الخيال العلمي، وهو المجال المتميز للإشادة بالنجاحات التقنية والتكنولوجية التي حققها العم سام.
بالإضافة إلى سياسة التأثير هذه من خلال الثقافة، والموجهة نحو الخارج، تجدر الإشارة إلى أن الأمريكيين قاموا أيضًا، وبسرعة كبيرة، تجهيز أنفسهم بأجهزة التأثير المضاد والتدخل المضاد. وهكذا، في بداية الحرب الباردة، عام 1947، أعادت الحكومة الأمريكية تنشيط لجنة الأنشطة غير الأمريكية. هذه المنظمة، التي تم إنشاؤها في الأصل بهدف مواجهة نفوذ النازيين، أعيد وضعها بهدف مختلف تمامًا: تعقب أي تأثير شيوعي مباشر أو غير مباشر على الأراضي الأمريكية. وهذه السياسة، بقيادة السناتور مكارثي على وجه الخصوص، سرعان ما تحولت إلى مطاردة الساحرات، مع تعقب مكتب التحقيقات الفيدرالي بلا كلل النشطاء والنقابيين، وكذلك الفنانين والمثقفين، في مناخ من البارانويا التام. وانتهى هذا القمع الخاطئ الذي انتقد بشدة عام 1954.
عنصر أساسي آخر للنفوذ الأمريكي على الصعيد الدولي تمثّل في خطة مارشال. عام 1945، جثت أجزاء كبيرة من أوروبا على ركبتيها بعد حرب دامية استمرت ست سنوات. وفي هذا السياق، صوتت الحكومة الأمريكية على ميزانية ضخمة تهدف إلى مساعدة دول أوروبا الغربية على إعادة البناء. ما وراء رؤية خيرية بسيطة، فإن هذه المساعدة تخدم بالطبع أهدافًا اقتصادية، ولكن أيضًا أهدافًا سياسية دبلوماسية.
أولاً من الناحية الاقتصادية، تسمح هذه المساعدة للشركات الأمريكية بأن يكون لها منافذ بيع على الأراضي الأوروبية. على سبيل المثال، معظم المعدات الزراعية المباعة بموجب خطة مارشال من أصل أمريكي.
وبالتالي، فإن سياسة المساعدة الكبيرة هذه هي نوع من الهدية المسمومة التي ستسمح للصناعة الأمريكية بتوسيع الفارق، على حساب الشركات الأوروبية.
في المجال السياسي والدبلوماسي، كان لمخطط مارشال هدف خفي يتمثل في تبعية دول أوروبا الغربية وإدخالها دائرة النفوذ الأمريكي: كان تلقي المساعدة في الواقع مشروطًا بمتطلبات سياسية محددة (اقتصاد السوق والديمقراطية البرلمانية خاصة). لذلك، مكنت مساعدات الخطة، في بداية الحرب الباردة، من منع اتجاه دول جديدة نحو الشرق.
إلى جانب سياسة القوة الناعمة المعروفة هذه، تتبنى الولايات المتحدة أيضًا عقيدة تدخل عسكري حقيقية.
على المستوى العالمي، فإن إنشاء حلف الناتو بناءً على طلب الولايات المتحدة يترجم بوضوح نيتها في التوحيد العسكري ضد الكتلة الشرقية. أنشأت منظمة حلف شمال الأطلسي، التي تأسست في 4 أبريل 1949، منطقة سلمية بحكم الأمر الواقع داخل الحلف، موحدة تحت المظلة النووية الأمريكية. وبهذه الطريقة، وضعت واشنطن نفسها كحامية للقوى الغربية ضد السوفيات، مما يضع الأوروبيين في حالة تبعية حقيقية. كما يسمح الناتو لواشنطن بوضع نفسها كحكم للعلاقات في المنطقة الغربية، باعتبارها “الأخ الأكبر” المسؤول عن تسوية النزاعات بين أعضاء الحلف. ولا يزال هذا التأثير المزدوج ساريًا عام 2022، حتى لو كان التهديد الذي يبرر وجود الناتو قد تغير بطبيعة الحال.
إقليمياً، تستخدم الولايات المتحدة وكالة المخابرات المركزية لوضع “عملية كوندور”. هذه الخطة السياسية العسكرية للولايات المتحدة تتماشى مع مبدأ مونرو، وتهدف إلى أن يضمن الأمريكيون سيطرتهم على حدودهم الجنوبية. خلال عملية كوندور، نفذ الأمريكيون سياسة التدخل في أمريكا الجنوبية: الانقلابات، والاغتيالات المستهدفة، وتمويل العصابات أو الحركات شبه العسكرية، والعمل في شراكة مع المخابرات المحلية ... يبذل الأمريكيون قصارى جهدهم لتجنب الأسوأ، أي سقوط بلد من أمريكا اللاتينية في حضن الشرق.
من تشيلي إلى الأرجنتين، مروراً ببوليفيا والبرازيل وباراغواي وأوروغواي وكوبا، تميزت سبعينات القرن الماضي بهذا التدخل الخفي، والذي أدى أحيانًا إلى دراما حقيقية، كما حدث أثناء قوس بينوشيه الاستبدادي. وتظهر الوثائق التي نشرتها صحيفة التايمز عام 2001 مدى هذه الروابط بين كبار المسؤولين الأمريكيين ووكالة المخابرات المركزية ودول أمريكا الجنوبية، بدعم قوي من الولايات المتحدة في السبعينات. عناصر تظهر ان سياسات التأثير ليست مستثناة من العنف: لا تقتصر سياسات النفوذ على عالم اللوبيينغ أو الأفكار، يمكنها أحيانًا استخدام أساليب عدوانية أو حتى حربية، وستكون الحرب في فيتنام هي الذروة.
بشكل عام، تُظهر سياسة التأثير الأمريكية بشكل رائع رافعتين رئيسيتين تشكلان أساس الحرب الباردة بأكملها. من ناحية، الجانب الاقتصادي، تسعى كل إمبراطورية إلى إيجاد منافذ لصناعتها واقتصادها. ومن ناحية أخرى، الجانب الجغرافي، تسعى كل إمبراطورية إلى إبقاء محيطها قريبًا (أمريكا اللاتينية) وحماية وتهدئة العلاقات بين حلفائها (الناتو) من أجل تجنب سيناريو “الدومينو” الكارثي. ويفسر هذا البعد الجغرافي والاقتصادي، حقيقة العالم زمن الحرب الباردة، حتى أكثر من العامل الأيديولوجي.
استراتيجية النفوذ الروسي: القطيعة التكنولوجية والتخريب الأيديولوجي
على غرار كبار خصومهم الأمريكيين، نشر السوفيات خلال الحرب الباردة سياسة نفوذ تهدف إلى شيطنة خصمهم، وتعزيز نموذجهم الخاص، ولكن أيضًا كسب الدول لقضيتهم.
وكعلامة فارقة في هذه السياسة، حقق السوفيات عام 1957 إنجازًا بإطلاق سبوتنيك 1، أول قمر صناعي في التاريخ، إلى المدار. كان التأثير فوريّا: بدا الاتحاد السوفياتي قوة تكنولوجية كبرى، بقيادة لا يستهان بها. وسمح هذا الانجاز للسوفيات بفرض إيقاعهم على الأمريكيين: حتى لا يفقدوا ماء الوجه بعد نجاح سبوتنيك، أطلق الأمريكيون على وجه السرعة قمر فانجارد الصناعي، الذي انفجر أثناء التحليق على مرأى ومسمع، مما يؤكد التفوق التكنولوجي للكتلة الشرقية. وبسبب هذه الحادثة الكارثية المهينة، استثمرت الولايات المتحدة المليارات من اليورو للحاق بالركب، مما أدى إلى ظهور ما سيطلق عليه “سباق الفضاء”، حيث ابتلع مليارات الدولارات والروبلات.
ما وراء الاهمية العسكرية والعلمية، كانت بالطبع مسألة التأثير بالمعنى الدقيق للكلمة: الظهور في أعين الجميع كأعظم قوة تكنولوجية في العالم. ومع ذلك، فإن هذا السباق المحموم سيستنزف الاتحاد السوفياتي اقتصاديًا، حيث سخّر الامريكان وسائل كبيرة لنجاح برنامج أبولو، مدركين المصلحة الرمزية المتمثلة في زرع راية النجوم على القمر.
جانب آخر من استراتيجية التأثير السوفياتي كان يقوم على “الثقافة الجسدية”، شكل من أشكال الدبلوماسية من خلال الرياضة. على الرغم من العلاقات المتوترة مع الكتلة الغربية، سعى الاتحاد السوفياتي للمشاركة في معظم الألعاب الأولمبية والأحداث الرياضية الدولية. والهدف هو إثبات تفوق الإنسان السوفياتي على “عبيد الرأسمالية”.
ومع هذا الهدف، من الخمسينات، وضع القادة السوفيات سياسة تهدف إلى تحديد واختيار الرياضيين الواعدين داخل الكتلة الشرقية. ثم يتم تدريبهم وتلقينهم أفكارهم لجعلهم واجهة عرض للدولة، حتى لو كان ذلك يعني اللجوء إلى المنشطات بطريقة مؤسسية.
غير ان استراتيجية التأثير هذه لا تستهدف العالم الخارجي فقط. إنها أيضًا أداة للدعاية الداخلية في الاتحاد السوفياتي: تُستخدم الرياضة لنقل القيم الأساسية للاشتراكية إلى السكان: الإحساس الجماعي، والتفوق على الذات، وحب الوطن، والشعور بالجهد. فالدعاية المرئية للاتحاد السوفياتي، مثل المسيرات والاستعراضات العديدة للنظام التي يظهر فيها الرياضيون، كلها شهود تاريخيون لهذا الانسان الجديد المتخيّل، الذي تم بناؤه في مواجهة الانسان “الرأسمالي الأناني الهزيل” في الغرب.
أخيرًا، كانت استراتيجية التأثير السوفياتي أساسًا استراتيجية تخريب. كان على السوفيات أن يفاقموا التوترات الداخلية للعملاق الأمريكي لزعزعة استقرار البلاد وشل سياسته الخارجية. الفكرة، هي وضع الحكومة الأمريكية تحت الضغط من خلال إثارة ضغوط من الرأي العام. ربما تكون حرب فيتنام أفضل مثال على سياسة التخريب تلك.
في البداية، كان الشعب الأمريكي معاديًا جدًا لفكرة شن حرب في فيتنام. ولسبب وجيه: خرجت البلاد لتوها من الحرب الكورية، التي كانت مدمرة اقتصاديًا، وخصوصا، ان أمريكا شهدت هزيمة فرنسا الكارثية ضد الفيتكونغ في ديان بيان فو، رمز هزيمة الاستعمار. وسيلعب الاتحاد السوفياتي في هذا السياق لتصعيد المعارضة للحرب داخل الشعب الأمريكي نفسه.
وتظهر الصور ضحايا التفجيرات الأمريكية، ومثقفون مسالمون يشجعون طلابهم على التظاهر ضد التجنيد ومن أجل السلام. كل هذا بطريقة عضوية ولكن أيضًا بموافقة أو حتى تشجيع من الاتحاد السوفياتي، الذي أصبح متخصصًا في استخدام شبكته لتضخيم الانتقادات ضد “الإمبريالية الأمريكية». التأثير مباشر: في وقت مبكر من عام 1967، أشارت جالوب إلى أن غالبية الأمريكيين يعارضون الحرب. شعور بالمقاومة سيستمر في النمو حتى يصل ذروته خلال هجوم التيت.
أخيرًا، على الرغم من تحقيق تفوق عسكري دائم لا يجادل، سيجد الأمريكيون أنفسهم مجبرين على مغادرة فيتنام، بعد أن خسروا معركة الذكاء داخل بلدهم. سيناريو مشابه من جميع النواحي للمشاكل التي تواجهها فرنسا في الجزائر: مخاطر الحرب ليست عسكرية فقط، إنها، قبل كل شيء، مسألة تأثير على السكان للحصول على دعمهم في الحرب. عملية شارك فيها الاتحاد السوفياتي من خلال ممارساته التخريبية، ومن خلال حرب الصور أو استخدام النخب الجامعية والشباب في استراتيجية التثليث.
ولئن انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991، مما يؤكد تفوق النموذج الاقتصادي-الأيديولوجي الأمريكي، فمن المثير للاهتمام أيضًا ملاحظة أن حرب النفوذ لم تتوقف مع سقوط كتلة أوروبا الشرقية.
يوري بيزمينوف، ضابط الـ “كي جي بي” المسؤول عن النفوذ الشيوعي في الغرب، أثار هذه المواضيع بانتظام. ويشرح بالتفصيل المراحل الأربع لسياسة النفوذ السوفياتية: الإحباط، وزعزعة الاستقرار، والأزمات، والتطبيع. هذا النموذج يشبه إلى حد ما وجهة النظر الصينية للتطويق. بمجرد زرع بذور “الإحباط”، يصبح الهدف أسير مصيره: بعد عدة عقود، ستعيش البلاد فترة أزمة. وفي هذه الحالة، استمرت الأفكار التي زرعها الاتحاد السوفياتي في أمريكا في نموها المتسارع. وإذا لم تعد موسكو هي التي تقود اتحادات الطلاب الأمريكية، فإن هذه الاخيرة تستمر في الدفاع، بطريقة شعبية، عن نظريات قريبة من المدرسة الماركسية.
وعلى العكس من ذلك، من دون الحاجة بالضرورة إلى استراتيجية صريحة من واشنطن، تستمر القوة الناعمة الأمريكية في ري الاتحاد الروسي وتحويل المزيد من الناس إلى اقتصاد السوق، وساعدت الدعوة الى الرفاهية كثيرا.
ويكشف هذا اذن عن جانب حاسم من عالم النفوذ: فقدان السيطرة على الاستراتيجيات المستخدمة. على المدى الطويل، من الصعب للغاية تحديد وتوقع التأثيرات التي ستحدثها الاستراتيجية.
هذا ما يجعلنا في مواجهة فرانكشتاينية عالم النفوذ: فاعلون ينتهي بهم الأمر الى فقدان السيطرة على الأفكار أو المصالح التي يروجون لها، حتى بعد وضع حد لسياساتهم.
* من نادي المؤثرين مدرسة الحرب الاقتصادية