رئاسية 2022، صناعة انتخابات:
فرنسا: إيمانويل ماكرون الناجي المعيّن...!
• بحركته إلى الأمام... حطم النظام الحزبي وغزا الدولة، وهو ومارين لوبان ناجيان من غرق سفينة سياسية
• كان انتخابه مستحيلاً لولا انهيار النظام السياسي للجمهورية الخامسة، الذي سرّعه واستفاد منه
• اشترى أمجاد الجمهورية الخامسة منزوعة المخالب، وقام بتجنيدها تحت راية العالم الجديد
• تمت مقارنته بأوباما وبونابرت، لكن أكثر المعجبين به حماسة لا يرون له سابقة
• لم يختر الباستيل رمز اليسار، ولا الكونكورد ساحة اليمين، بل ساحة نابليون للتاريخ، وهرم اللوفر للحداثة
منذ انتخابه قبل أربع سنوات، واصل إيمانويل ماكرون تغذية التعليقات. وهذه هي ميزته الأساسية، إنه "قابل للتعليق" إذا استطعنا القول إن الآخرين قابلين للتمويل. يُراقب ظهوره وتُفحص حركاته وأفعاله، ويتم مسح خطبه بواسطة مؤلفي المعاجم، وتُنسب إليه دوافع خفية، واستراتيجيات سرية. يُنسب إليه قدرات خارقة للطبيعة، قدرات شخص موهوب قادر على إغواء محاوريه الأكثر ترددًا.
ان الشخص الذي كان يُطلق عليه قبل أربع سنوات " موزارت المالية"، كبر ووسّع مجال ومدى مهاراته، وهو الآن أفضل عالم أوبئة في فرنسا، ولكنه أيضًا منوّم مغناطيسيًا، وراويًا وسينوغرافيًا، يضع وسائل الدولة في خدمة السردية الوطنية الكبرى.
"لقد طغى شغف سرد القصص على جميع المهن الأخرى"، كتب غوغول في "مدقق الحسابات"، وأصبح هذا الشغف هو شغفهم الدافع، وهدفهم في الوجود. "أصبح كل شيء عندهم زيارة"، كتب بخصوص بوبتشينسكي ودوبتشينسكي، آلان دوهاميل وكريستوف باربييه ذلك الزمن. لا يوصف "مدقق الحسابات" بأنه متلاعب رئيسي، ولكن بالأحرى كمغناطيس يجذب التعليقات: يجب ألا ننسى أبدًا أن "مدقق الحسابات" لا يخرج من رؤوسهم أبدًا، كلهم مهووسون به. "كل ما فيه هو مفاجأة واندفاع ... موضوعات محادثاته يقدمها له أولئك الذين يسألونه؛ هم أنفسهم من وضعوا الكلمات في فمه، وخلقوا المحادثة ...".
تضخم التعليقات
يمنح إيمانويل ماكرون نفسه للقراءة ليس كموضوع سياسي يتمتع بالقدرة على الحركة، بل كسطح يمكن فك شفرته. إنها ظاهرة تشويه سمعة تلك التي تتجلى في تضخم التعليقات. تضخم يسير جنبًا إلى جنب مع تشويه سمعة جميع الخبراء الذين يُعتبرون بحق رواة غير موثوقين. يسلّم التحليل السياسي أسلحته الى نظرية علمية زائفة تستعير من علم الأحياء، واللسانيات، والتحليل النفسي، وعلم الاجتماع الثقافي. هروب الخطاب الى الأمام في فضاء سياسي مجوف بينما تتحول قوة الدولة على الحركة إلى إرادية عاجزة.
في مساء يوم انتصاره، ظهر إيمانويل ماكرون وحيدًا، يسير ببطء في الليل باتجاه هرم اللوفر، على أنغام أغنية نشيد الفرح، ترنيمة الاتحاد الأوروبي. لم يكن اختيار الموقع بريئا، فلا الباستيل حيث يتم الاحتفال بانتصارات اليسار، ولا الكونكورد المخصّصة لليمين، بل ساحة نابليون للتاريخ، وهرم اللوفر للحداثة... أجمل رؤية لباريس كأفق توقع. "الجميع كان يقول لنا أن ذلك مستحيل، لكنهم لا يعرفون فرنسا"، قال مرددًا كلمات باراك أوباما عام 2008: "قالوا إن ذلك مستحيل، وان ذلك اليوم لن يحدث أبدًا". ولتناول هذه اللحظة الحاسمة في التاريخ، اعتمدت جوقة المعلقين، بشكل عفوي، معجم الوحي: الكلمات الأسطورية، ورجل العناية الإلهية، والانتخاب التاريخي.
تمت مقارنته بأوباما وبونابرت، لكن أكثر المعجبين به حماسة لا يرون له سابقة: أطلقوا عليه اسم "جسم غامض" سياسي، "ماكرون هو لويس الرابع عشر بالإضافة إلى بليز باسكال متّحدين في نفس الرجل"، وذهب كريستوف باربييه على قناة بي اف ام تي في! إلى حد التأكيد على ان لا أحد توقّع فوزه. مرشح خفي ظهر في سماء التخمين، متوجًا بلغزه فقط. راوغ رادارات علماء المصريات في ديوان الرئاسة، فالتا من قوانين التجسد السياسي، بدا بشكل غريب وكأنه بلا جسد، ظلّ، بروفايل، رجل مرآة يستوعب المعاني، الرئيس الصفر كما يقولون للمريض الأول للوباء.
بحركته الى الامام! حطم النظام الحزبي وغزا الدولة. لقد اشترى أمجاد الجمهورية الخامسة منزوعة المخالب وقام بتجنيدها تحت راية "العالم الجديد"، أو عملية تغليف على طريقة كريستو، أو بشكل أكثر فجاجة "إعادة تسمية" علامة تجارية باهتة. الوزراء السابقون لجاك شيراك، ورؤساء اشتراكيون، ووزراء سابقون لفرانسوا هولاند، وفرانسوا بايرو وجيرار كولومب، وحتى أيقونة مايو 68، دانيال كوهن بنديت، دفعوا فاتورة هذه العملية. لقد اندفعوا إلى أقصى حد، وهم سعداء بالاستفادة من التغيير والتشبيب، بينما كانوا يسلكون الطريق المؤدي إلى مملكة السياسيين الموتى. لقد فتح ماكرون ثقبًا أسود اندفعت فيه الطبقة السياسية كرجل واحد. وعاد إلى الظهور مساء انتصاره، وحده بشكل لافت، يسير، كبطل عاد من الجحيم حيث القى بالطبقة السياسية القديمة التي فقدت مصداقيتها.
الناجي المعيّن
إذا كان لا بد من العثور على نموذج له في المسلسلات السياسية، فلن يكون الرئيس الوسيم بارتليت في "البيت الأبيض"، ولا فرانك أندروود الساخر في "بيت من ورق"، ولكن توم كيركمان في مسلسل "الناجي المعين".
مستوحى من بند في دستور الولايات المتحدة ينص على أن "الناجي المعين" يستلم السلطة إذا كان الرئيس ونائب الرئيس والطبقة السياسية بأكملها غير قادرة على التسيير، يستكشف المسلسل حالة قصوى: سلطة مقطوعة الرأس، رئيس بدون شرعية. توم كيركمان يُنصّب رئيسا للولايات المتحدة بعد هجوم دمر الكابيتول خلال خطاب حالة الاتحاد. ولأول مرة مسلسل سياسي لا يتناول الوصول الى السلطة بل انهيارها الكارثي، ولم يعد تقلبات ممارسة السلطة العليا، بل شللها وعجزها الواضحين.
تم انتخاب إيمانويل ماكرون بشكل قانوني وهو يملك خصالا ومؤهلات. غير ان انتخابه كان يمكن ان يكون مستحيلاً لولا انهيار النظام السياسي للجمهورية الخامسة، الذي سرّعه واستفاد منه... من وجهة نظر رمزية، انه يشغل منصب "الناجي المعيّن". لقد ورث السلطة ولم يفز بها. وهذا ما يقوض شرعيته... لكنه ليس الوحيد: مارين لوبان هي أيضًا ولأسباب واضحة: بسبب تاريخ عائلتها الذي يضعها في منصب وريث والدها، ولكن أيضًا بسبب عداء الجبهة الوطنية التاريخي للجمهورية الخامسة، ولم يغيّر الغاء الشيطنة شيئا. ويمكن أن يفسر هذا التناسق في التموقع وجودهما في الجولة الثانية بشكل أفضل بكثير من استطلاعات الرأي. كلّ منهما، من وجهة نظر رمزية، ناج من غرق سفينة سياسية. ولن تحسم الحملة التي ستجمعهما في صراع البرامج والمهارات فحسب، بل في التنافس المحاكي بين "ناجيين معيّنين".
----------------------
كاتب. بعد أن كان مساعدًا لميلان كونديرا، أسس عام 1993 البرلمان الدولي للكتّاب وشبكة مدن اللاجئين. وهو مؤلف للعديد من الكتب، منها " آلة صنع القصص وإعادة صياغة العقول" و"طغيان المهرجين".
• كان انتخابه مستحيلاً لولا انهيار النظام السياسي للجمهورية الخامسة، الذي سرّعه واستفاد منه
• اشترى أمجاد الجمهورية الخامسة منزوعة المخالب، وقام بتجنيدها تحت راية العالم الجديد
• تمت مقارنته بأوباما وبونابرت، لكن أكثر المعجبين به حماسة لا يرون له سابقة
• لم يختر الباستيل رمز اليسار، ولا الكونكورد ساحة اليمين، بل ساحة نابليون للتاريخ، وهرم اللوفر للحداثة
منذ انتخابه قبل أربع سنوات، واصل إيمانويل ماكرون تغذية التعليقات. وهذه هي ميزته الأساسية، إنه "قابل للتعليق" إذا استطعنا القول إن الآخرين قابلين للتمويل. يُراقب ظهوره وتُفحص حركاته وأفعاله، ويتم مسح خطبه بواسطة مؤلفي المعاجم، وتُنسب إليه دوافع خفية، واستراتيجيات سرية. يُنسب إليه قدرات خارقة للطبيعة، قدرات شخص موهوب قادر على إغواء محاوريه الأكثر ترددًا.
ان الشخص الذي كان يُطلق عليه قبل أربع سنوات " موزارت المالية"، كبر ووسّع مجال ومدى مهاراته، وهو الآن أفضل عالم أوبئة في فرنسا، ولكنه أيضًا منوّم مغناطيسيًا، وراويًا وسينوغرافيًا، يضع وسائل الدولة في خدمة السردية الوطنية الكبرى.
"لقد طغى شغف سرد القصص على جميع المهن الأخرى"، كتب غوغول في "مدقق الحسابات"، وأصبح هذا الشغف هو شغفهم الدافع، وهدفهم في الوجود. "أصبح كل شيء عندهم زيارة"، كتب بخصوص بوبتشينسكي ودوبتشينسكي، آلان دوهاميل وكريستوف باربييه ذلك الزمن. لا يوصف "مدقق الحسابات" بأنه متلاعب رئيسي، ولكن بالأحرى كمغناطيس يجذب التعليقات: يجب ألا ننسى أبدًا أن "مدقق الحسابات" لا يخرج من رؤوسهم أبدًا، كلهم مهووسون به. "كل ما فيه هو مفاجأة واندفاع ... موضوعات محادثاته يقدمها له أولئك الذين يسألونه؛ هم أنفسهم من وضعوا الكلمات في فمه، وخلقوا المحادثة ...".
تضخم التعليقات
يمنح إيمانويل ماكرون نفسه للقراءة ليس كموضوع سياسي يتمتع بالقدرة على الحركة، بل كسطح يمكن فك شفرته. إنها ظاهرة تشويه سمعة تلك التي تتجلى في تضخم التعليقات. تضخم يسير جنبًا إلى جنب مع تشويه سمعة جميع الخبراء الذين يُعتبرون بحق رواة غير موثوقين. يسلّم التحليل السياسي أسلحته الى نظرية علمية زائفة تستعير من علم الأحياء، واللسانيات، والتحليل النفسي، وعلم الاجتماع الثقافي. هروب الخطاب الى الأمام في فضاء سياسي مجوف بينما تتحول قوة الدولة على الحركة إلى إرادية عاجزة.
في مساء يوم انتصاره، ظهر إيمانويل ماكرون وحيدًا، يسير ببطء في الليل باتجاه هرم اللوفر، على أنغام أغنية نشيد الفرح، ترنيمة الاتحاد الأوروبي. لم يكن اختيار الموقع بريئا، فلا الباستيل حيث يتم الاحتفال بانتصارات اليسار، ولا الكونكورد المخصّصة لليمين، بل ساحة نابليون للتاريخ، وهرم اللوفر للحداثة... أجمل رؤية لباريس كأفق توقع. "الجميع كان يقول لنا أن ذلك مستحيل، لكنهم لا يعرفون فرنسا"، قال مرددًا كلمات باراك أوباما عام 2008: "قالوا إن ذلك مستحيل، وان ذلك اليوم لن يحدث أبدًا". ولتناول هذه اللحظة الحاسمة في التاريخ، اعتمدت جوقة المعلقين، بشكل عفوي، معجم الوحي: الكلمات الأسطورية، ورجل العناية الإلهية، والانتخاب التاريخي.
تمت مقارنته بأوباما وبونابرت، لكن أكثر المعجبين به حماسة لا يرون له سابقة: أطلقوا عليه اسم "جسم غامض" سياسي، "ماكرون هو لويس الرابع عشر بالإضافة إلى بليز باسكال متّحدين في نفس الرجل"، وذهب كريستوف باربييه على قناة بي اف ام تي في! إلى حد التأكيد على ان لا أحد توقّع فوزه. مرشح خفي ظهر في سماء التخمين، متوجًا بلغزه فقط. راوغ رادارات علماء المصريات في ديوان الرئاسة، فالتا من قوانين التجسد السياسي، بدا بشكل غريب وكأنه بلا جسد، ظلّ، بروفايل، رجل مرآة يستوعب المعاني، الرئيس الصفر كما يقولون للمريض الأول للوباء.
بحركته الى الامام! حطم النظام الحزبي وغزا الدولة. لقد اشترى أمجاد الجمهورية الخامسة منزوعة المخالب وقام بتجنيدها تحت راية "العالم الجديد"، أو عملية تغليف على طريقة كريستو، أو بشكل أكثر فجاجة "إعادة تسمية" علامة تجارية باهتة. الوزراء السابقون لجاك شيراك، ورؤساء اشتراكيون، ووزراء سابقون لفرانسوا هولاند، وفرانسوا بايرو وجيرار كولومب، وحتى أيقونة مايو 68، دانيال كوهن بنديت، دفعوا فاتورة هذه العملية. لقد اندفعوا إلى أقصى حد، وهم سعداء بالاستفادة من التغيير والتشبيب، بينما كانوا يسلكون الطريق المؤدي إلى مملكة السياسيين الموتى. لقد فتح ماكرون ثقبًا أسود اندفعت فيه الطبقة السياسية كرجل واحد. وعاد إلى الظهور مساء انتصاره، وحده بشكل لافت، يسير، كبطل عاد من الجحيم حيث القى بالطبقة السياسية القديمة التي فقدت مصداقيتها.
الناجي المعيّن
إذا كان لا بد من العثور على نموذج له في المسلسلات السياسية، فلن يكون الرئيس الوسيم بارتليت في "البيت الأبيض"، ولا فرانك أندروود الساخر في "بيت من ورق"، ولكن توم كيركمان في مسلسل "الناجي المعين".
مستوحى من بند في دستور الولايات المتحدة ينص على أن "الناجي المعين" يستلم السلطة إذا كان الرئيس ونائب الرئيس والطبقة السياسية بأكملها غير قادرة على التسيير، يستكشف المسلسل حالة قصوى: سلطة مقطوعة الرأس، رئيس بدون شرعية. توم كيركمان يُنصّب رئيسا للولايات المتحدة بعد هجوم دمر الكابيتول خلال خطاب حالة الاتحاد. ولأول مرة مسلسل سياسي لا يتناول الوصول الى السلطة بل انهيارها الكارثي، ولم يعد تقلبات ممارسة السلطة العليا، بل شللها وعجزها الواضحين.
تم انتخاب إيمانويل ماكرون بشكل قانوني وهو يملك خصالا ومؤهلات. غير ان انتخابه كان يمكن ان يكون مستحيلاً لولا انهيار النظام السياسي للجمهورية الخامسة، الذي سرّعه واستفاد منه... من وجهة نظر رمزية، انه يشغل منصب "الناجي المعيّن". لقد ورث السلطة ولم يفز بها. وهذا ما يقوض شرعيته... لكنه ليس الوحيد: مارين لوبان هي أيضًا ولأسباب واضحة: بسبب تاريخ عائلتها الذي يضعها في منصب وريث والدها، ولكن أيضًا بسبب عداء الجبهة الوطنية التاريخي للجمهورية الخامسة، ولم يغيّر الغاء الشيطنة شيئا. ويمكن أن يفسر هذا التناسق في التموقع وجودهما في الجولة الثانية بشكل أفضل بكثير من استطلاعات الرأي. كلّ منهما، من وجهة نظر رمزية، ناج من غرق سفينة سياسية. ولن تحسم الحملة التي ستجمعهما في صراع البرامج والمهارات فحسب، بل في التنافس المحاكي بين "ناجيين معيّنين".
----------------------
كاتب. بعد أن كان مساعدًا لميلان كونديرا، أسس عام 1993 البرلمان الدولي للكتّاب وشبكة مدن اللاجئين. وهو مؤلف للعديد من الكتب، منها " آلة صنع القصص وإعادة صياغة العقول" و"طغيان المهرجين".