ليس مجرد صفّ انتظار:
في وداع الملكة: الطابور، ظاهرة بريطانية جدا...!
-- في زمن التقنين، كان الطابور ظاهرة سياسية تُعتبر غير متكافئة
-- تشكل طابور كبير في لندن لتكريــم إليزابيث الثانيــة
-- إنه أكثر عرض للحب تنظيما وانضباطا، وللأسـف مرحـا، رأينـاه منذ وقت طويـل
-- الطابور هو حدث اجتماعي وأنثروبولوجي يســتحق أن تدرســـه أجيــال من العلمــاء
-- ليس أكثر من دقيقة لإلقاء النظرة الأخيرة على نعش الملكة بعد معدّل ثماني ساعات من الانتظار
ما الذي يمكن أن يكون بريطانيًا أكثر من طابور لا نهاية له؟
تزعم إحدى المقولات الإنجليزية، أنّ البريطانيين يحبّون الوقوف في الطوابير إلى درجة أنهم قادرون على الانضمام إلى أحده قبل معرفة الغرض منه.
إن صفّ الانتظار الأطول والأجمل الذي رأيناها منذ فترة طويلة في المملكة المتحدة هو بلا شك طابور وداع إليزابيث الثانية في لندن.
بلغ طول طابور انتظار المعزين الذين يرغبون بإلقاء النظرة الأخيرة على نعش الملكة إليزابيث حوالي 7.9 كيلومترات مع اضطرار الأشخاص إلى الوقوف في طوابير لمدة 14 ساعة على الأقل وسيسدل عليه الستار اليوم الاثنين، عندما تغلق أبواب كنيسة وستمنستر لحضور جنازة الملكة.
طابور لا مثيل له
طابور الانتظار هذا ليس عاديا، وكما قالت إحدى المغردات الإنجليزيات، هناك نوعان من الأشخاص في المملكة المتحدة في الوقت الحالي: هناك المنتظرون، وهناك المنبهرون الذين يحدقون في الطابور. إنه طابور لا يمكن للفرنسيين فهمه، حتى لو حاولنا إيجاد بعض التفسير لوجوده غير العادي.
هذا الطابور فريد ومتعدد؛ مثل قارب ثيسيوس، بقي كما هو عدّة أيام رغم كونه مختلفًا لأنه ومكوناته يتغيّران باستمرار، فالجزء الأكبر من البريطانيين الذين جاؤوا لتكريم ملكتهم، ليسوا متماثلين، الا انهم يسيرون بلا كلل في نفس الاتجاه، كرجل واحد. انه بلا شك، وربما إلى الأبد، سيظل ملك كل الطوابير.
امتد على طول نهر التايمز، الشريان الذي تتدفق من خلاله دماء العاصمة، ومرّ عبر عين لندن والمسرح الوطني وتيت مودرن والطراد إتش إم إس بلفاست. ويعبر النهر في منطقة لامبث، وينتهي عند كنيسة وستمنستر. يحتوي الطابور على قناته على يوتيوب حيث يمكن متابعة تطوره وأبعاده مباشرة، ولديه، طبعا، حساب على تويتر.
وأنشأت الحكومة صفحة من التوصيات التفصيلية حول كيفية الانضمام إلى الطابور، وما يمكن إحضاره أم لا، وهي قواعد سلوك سائدة في الطوابير.
سوار حيوي
عند الوصول إلى بداية الطابور، سيمنحك أحد المتطوعين (من بين الآلاف الذين تم تعبئتهم) سوارًا ملونًا. لا يجب نزع هذا السوار أبدًا. فهو يجعلك مشاركًا شرعيًا في هذه الظاهرة، ويشير إلى وقت انضمامك لصفّ الانتظار، ويتيح لك العودة إذا كنت بحاجة إلى التبول أو إحضار كوب من الشاي.
في الطرف الآخر من الطابور، توجد الكنيسة التي أقيمت لصاحبة الجلالة، وتابوتها المغطى بالعلم والمُحاط بحراس (أحدهم فقد وعيه عند الساعة الواحدة صباحًا: العاطفة، والتعب، والمثانة، لا أحد يعلم، ثم نهض لاستئناف الخدمة في اندفاع وطني بريطاني له أجمل تأثير، قبل أن يترنّح بشكل خطير ويتم إجلاؤه).
في هذه المرحلة، ينقسم الطابور ليصبح المرور من جانبي تابوت الملكة: ليس أكثر من دقيقة من الترحم بعد ما يبدو أنه معدل ثماني ساعات من الانتظار -أكثر بالنسبة للبعض: جريس، على سبيل المثال، الذي كان صاحب رقم 3 في الطابور، انتظر أكثر من عشرين ساعة.
الطابور ليس مجرد صفّ انتظار... إنه ليس طابورًا إلزاميًا كما هو الحال في المطار، ولا طابورًا إجباريًا كما هو الحال في أيام التقنين. ومع ذلك، فمن الواضح أنه تقليد بريطاني للغاية، يبدو أنه يجد أصوله في زمن الحرب العالمية الثانية. “الوقوف في الطابور ليس فقط اختيارا يعاش أو معاناة مفروضة، إنها تجربة ذات مغزى -خاصة بالنسبة للبريطانيين، الذين من المفترض أنهم متفوقون فيها”، كتب جو موران في “الطابور للمبتدئين: قصة الحياة اليومية من الإفطار إلى النوم».
في بحثه الصادر عام 1944 بعنوان “الشعب الإنجليزي”، يتخيل جورج أورويل مراقبًا وهميًا يصاب بالذهول من “السلوك المنضبط للجماهير الإنجليزية، وغياب الصراخ والشجار، والحرص على الوقوف في الطابور».
وكتب الكاتب والصحفي البريطاني من أصل مجري جورج مايكس، ومؤلف العديد من الكتب الهزلية، في كتابه كيف تكون أجنبيًا: “الرجل الإنجليزي، حتى لو كان بمفرده، يشكل طابورا أنيقًا بشخص واحد”... ففي نظره، ان يقف في الصفّ هو “شغف قومي لعرق في أكثر الاحيان غير مبال على الإطلاق».
الطابور السياسي
وحسب جو موران، فإن الطابور في زمن التقنين كان ظاهرة سياسية، تُعتبر غير متكافئة للغاية. حيث ننضم إلى طابور الاغذية دون معرفة ما قد نجده في النهاية. وكانت الأولوية للنساء الحوامل هناك، والطوابير طويلة جدًا الى درجة أن هناك مزحة سائدة أثناء الحرب: “مادموزيل، تسأل مديرة المتجر، هل أنت حامل؟”، ردت الفتاة: “لم أكن قبل ان أقف في الصفّ».
استغل تشرشل الطابور لانتقاد حكومة حزب العمال، وقال عام 1949: “طوابير ربات البيوت خارج المحلات التجارية هي جوهر الاشتراكية ونظام المنع والقيود الذي يأمل هو وطفيلياته العيش فيه”. بيم. طوابير ربات البيوت، مع ذلك، لا تعود للحرب بشهادة فيلم من عام 1935 حيث تتظاهر ربات البيوت، ووقّعن عرائض “ضد الطوابير».
حتى أن تشرشل صاغ كلمة “طابورتوبيا” لوصف الاشتراكية على النمط البريطاني. وهو ما يذكرنا، على الجانب الآخر من أوروبا، بالنكتة القديمة التي انتشرت في الاتحاد السوفياتي:
- مرحبا ، مرحبا ، هل يمكنك أن تعطيني والدك؟
- لا أستطيع ، لقد ذهب إلى الفضاء ، سيعود الليلة.
«آه ، إذن أعطني أمك.
- مستحيل ، لقد ذهبت للتسوق ولن تعود قبل ثلاثة أيام.
دون أن تختفي تمامًا من الحياة اليومية، فقد الطابور الإنجليزي دوره السياسي مع انتهاء التقنين وبدء المتاجر الكبرى، حيث يتبضّع كلّ بمفرده.
من ناحية أخرى، استمر في الوجود في بعض المواقف: في محطة الحافلات، على سبيل المثال، على عكس فرنسا -حيث تسود الداروينية الأكثر وحشية –تقر القاعدة “الأول في الطابور، الاول على متن الحافلة”. ولئن، حسب بعض البريطانيين، ضاع فن الصفوف، وازداد نفاد الصبر في بعض الأحيان، فإن آداب الطابور تبقى حيّة.
يحترم هذا الطابور جميع النواميس، وتكشف عديد الشهادات على الشبكات الاجتماعية، إنها تجربة فريدة وتواصل كامل، وفي نفس الوقت، هدف ووسيلة لترسيخ الذات بشكل أعمق في ما يوحد البريطانيين: حبهم لمؤسسة ولشخص يمثلها جيدًا. في عيونهم سبعين عامًا، أي في معظم الأحيان، حياتهم كلها. إنها طريقتهم في توديع جدة البلد، وأيضًا بالنسبة للكثيرين، تذكيرًا بوداع لعلّنا قمنا به جميعًا في وقت ما لشخصية الأم المحبوبة.
الشعور بالانتماء
يتعرف المشاركون في الطابور على بعضهم البعض، ويستمعون إلى ما يقوله جيرانهم، ويخبرون بعضهم البعض بكل أنواع القصص والذكريات -من يدري أي حبّ سيولد بفضل الطابور؟ إنهم يتقاسمون الماء والطعام، ويبنون للحظة تلك المدينة الفاضلة لشعب موحد تحت نفس الملكة -ميتة، حسنًا، لكن مع ذلك.
إنها أيضًا طريقتهم لصنع ذكريات سيتم روايتها والسخرية منها لأجيال: “وقف جدي المجنون في طابور طوال اليوم لرؤية الملكة في نعش!”، يمزح صحفي في بي بي سي. الذي أبلغ عن تجربته على تويتر. ويقول إنه وقف في الطابور لمدة ثماني ساعات دون أن يقصد ذلك حقًا في البداية، وشعر أنه “جزء من شيء ما».
يُعد الطابور أكثر عرض للحب تنظيماً وانضباطًا وللأسف سعادة رأيناه منذ فترة طويلة. إنه أيضًا طريقة لجميع الناس ليقولوا وداعًا، ليس فقط للملكة، وانما لعصر كامل، لإغلاق أحد الأبواب الأخيرة في القرن العشرين قبل التخلص من المفتاح.
ان الطابور، هو حدث اجتماعي وأنثروبولوجي يستحق أن تدرسه أجيال من العلماء.
وقد يكون “الطابور” عنوان مسلسل على نتفليكس. بالنسبة للبريطانيين، سيبقى الطابور لحظة تواصل وحزن جماعي لا تُنسى. وبالنسبة للفرنسيين، هناك فرصة للقيام بالكثير من التلاعب الابله بالكلمات حول هذا الطابور لفترة طويلة الى درجة أنه لن يفاجئني إلا نصفها عندما أراها من الفضاء.
لكل تقاليده الخاصة.
------------------------------
*مترجمة، ومؤلفة كتاب لغة ترامب.
-- تشكل طابور كبير في لندن لتكريــم إليزابيث الثانيــة
-- إنه أكثر عرض للحب تنظيما وانضباطا، وللأسـف مرحـا، رأينـاه منذ وقت طويـل
-- الطابور هو حدث اجتماعي وأنثروبولوجي يســتحق أن تدرســـه أجيــال من العلمــاء
-- ليس أكثر من دقيقة لإلقاء النظرة الأخيرة على نعش الملكة بعد معدّل ثماني ساعات من الانتظار
ما الذي يمكن أن يكون بريطانيًا أكثر من طابور لا نهاية له؟
تزعم إحدى المقولات الإنجليزية، أنّ البريطانيين يحبّون الوقوف في الطوابير إلى درجة أنهم قادرون على الانضمام إلى أحده قبل معرفة الغرض منه.
إن صفّ الانتظار الأطول والأجمل الذي رأيناها منذ فترة طويلة في المملكة المتحدة هو بلا شك طابور وداع إليزابيث الثانية في لندن.
بلغ طول طابور انتظار المعزين الذين يرغبون بإلقاء النظرة الأخيرة على نعش الملكة إليزابيث حوالي 7.9 كيلومترات مع اضطرار الأشخاص إلى الوقوف في طوابير لمدة 14 ساعة على الأقل وسيسدل عليه الستار اليوم الاثنين، عندما تغلق أبواب كنيسة وستمنستر لحضور جنازة الملكة.
طابور لا مثيل له
طابور الانتظار هذا ليس عاديا، وكما قالت إحدى المغردات الإنجليزيات، هناك نوعان من الأشخاص في المملكة المتحدة في الوقت الحالي: هناك المنتظرون، وهناك المنبهرون الذين يحدقون في الطابور. إنه طابور لا يمكن للفرنسيين فهمه، حتى لو حاولنا إيجاد بعض التفسير لوجوده غير العادي.
هذا الطابور فريد ومتعدد؛ مثل قارب ثيسيوس، بقي كما هو عدّة أيام رغم كونه مختلفًا لأنه ومكوناته يتغيّران باستمرار، فالجزء الأكبر من البريطانيين الذين جاؤوا لتكريم ملكتهم، ليسوا متماثلين، الا انهم يسيرون بلا كلل في نفس الاتجاه، كرجل واحد. انه بلا شك، وربما إلى الأبد، سيظل ملك كل الطوابير.
امتد على طول نهر التايمز، الشريان الذي تتدفق من خلاله دماء العاصمة، ومرّ عبر عين لندن والمسرح الوطني وتيت مودرن والطراد إتش إم إس بلفاست. ويعبر النهر في منطقة لامبث، وينتهي عند كنيسة وستمنستر. يحتوي الطابور على قناته على يوتيوب حيث يمكن متابعة تطوره وأبعاده مباشرة، ولديه، طبعا، حساب على تويتر.
وأنشأت الحكومة صفحة من التوصيات التفصيلية حول كيفية الانضمام إلى الطابور، وما يمكن إحضاره أم لا، وهي قواعد سلوك سائدة في الطوابير.
سوار حيوي
عند الوصول إلى بداية الطابور، سيمنحك أحد المتطوعين (من بين الآلاف الذين تم تعبئتهم) سوارًا ملونًا. لا يجب نزع هذا السوار أبدًا. فهو يجعلك مشاركًا شرعيًا في هذه الظاهرة، ويشير إلى وقت انضمامك لصفّ الانتظار، ويتيح لك العودة إذا كنت بحاجة إلى التبول أو إحضار كوب من الشاي.
في الطرف الآخر من الطابور، توجد الكنيسة التي أقيمت لصاحبة الجلالة، وتابوتها المغطى بالعلم والمُحاط بحراس (أحدهم فقد وعيه عند الساعة الواحدة صباحًا: العاطفة، والتعب، والمثانة، لا أحد يعلم، ثم نهض لاستئناف الخدمة في اندفاع وطني بريطاني له أجمل تأثير، قبل أن يترنّح بشكل خطير ويتم إجلاؤه).
في هذه المرحلة، ينقسم الطابور ليصبح المرور من جانبي تابوت الملكة: ليس أكثر من دقيقة من الترحم بعد ما يبدو أنه معدل ثماني ساعات من الانتظار -أكثر بالنسبة للبعض: جريس، على سبيل المثال، الذي كان صاحب رقم 3 في الطابور، انتظر أكثر من عشرين ساعة.
الطابور ليس مجرد صفّ انتظار... إنه ليس طابورًا إلزاميًا كما هو الحال في المطار، ولا طابورًا إجباريًا كما هو الحال في أيام التقنين. ومع ذلك، فمن الواضح أنه تقليد بريطاني للغاية، يبدو أنه يجد أصوله في زمن الحرب العالمية الثانية. “الوقوف في الطابور ليس فقط اختيارا يعاش أو معاناة مفروضة، إنها تجربة ذات مغزى -خاصة بالنسبة للبريطانيين، الذين من المفترض أنهم متفوقون فيها”، كتب جو موران في “الطابور للمبتدئين: قصة الحياة اليومية من الإفطار إلى النوم».
في بحثه الصادر عام 1944 بعنوان “الشعب الإنجليزي”، يتخيل جورج أورويل مراقبًا وهميًا يصاب بالذهول من “السلوك المنضبط للجماهير الإنجليزية، وغياب الصراخ والشجار، والحرص على الوقوف في الطابور».
وكتب الكاتب والصحفي البريطاني من أصل مجري جورج مايكس، ومؤلف العديد من الكتب الهزلية، في كتابه كيف تكون أجنبيًا: “الرجل الإنجليزي، حتى لو كان بمفرده، يشكل طابورا أنيقًا بشخص واحد”... ففي نظره، ان يقف في الصفّ هو “شغف قومي لعرق في أكثر الاحيان غير مبال على الإطلاق».
الطابور السياسي
وحسب جو موران، فإن الطابور في زمن التقنين كان ظاهرة سياسية، تُعتبر غير متكافئة للغاية. حيث ننضم إلى طابور الاغذية دون معرفة ما قد نجده في النهاية. وكانت الأولوية للنساء الحوامل هناك، والطوابير طويلة جدًا الى درجة أن هناك مزحة سائدة أثناء الحرب: “مادموزيل، تسأل مديرة المتجر، هل أنت حامل؟”، ردت الفتاة: “لم أكن قبل ان أقف في الصفّ».
استغل تشرشل الطابور لانتقاد حكومة حزب العمال، وقال عام 1949: “طوابير ربات البيوت خارج المحلات التجارية هي جوهر الاشتراكية ونظام المنع والقيود الذي يأمل هو وطفيلياته العيش فيه”. بيم. طوابير ربات البيوت، مع ذلك، لا تعود للحرب بشهادة فيلم من عام 1935 حيث تتظاهر ربات البيوت، ووقّعن عرائض “ضد الطوابير».
حتى أن تشرشل صاغ كلمة “طابورتوبيا” لوصف الاشتراكية على النمط البريطاني. وهو ما يذكرنا، على الجانب الآخر من أوروبا، بالنكتة القديمة التي انتشرت في الاتحاد السوفياتي:
- مرحبا ، مرحبا ، هل يمكنك أن تعطيني والدك؟
- لا أستطيع ، لقد ذهب إلى الفضاء ، سيعود الليلة.
«آه ، إذن أعطني أمك.
- مستحيل ، لقد ذهبت للتسوق ولن تعود قبل ثلاثة أيام.
دون أن تختفي تمامًا من الحياة اليومية، فقد الطابور الإنجليزي دوره السياسي مع انتهاء التقنين وبدء المتاجر الكبرى، حيث يتبضّع كلّ بمفرده.
من ناحية أخرى، استمر في الوجود في بعض المواقف: في محطة الحافلات، على سبيل المثال، على عكس فرنسا -حيث تسود الداروينية الأكثر وحشية –تقر القاعدة “الأول في الطابور، الاول على متن الحافلة”. ولئن، حسب بعض البريطانيين، ضاع فن الصفوف، وازداد نفاد الصبر في بعض الأحيان، فإن آداب الطابور تبقى حيّة.
يحترم هذا الطابور جميع النواميس، وتكشف عديد الشهادات على الشبكات الاجتماعية، إنها تجربة فريدة وتواصل كامل، وفي نفس الوقت، هدف ووسيلة لترسيخ الذات بشكل أعمق في ما يوحد البريطانيين: حبهم لمؤسسة ولشخص يمثلها جيدًا. في عيونهم سبعين عامًا، أي في معظم الأحيان، حياتهم كلها. إنها طريقتهم في توديع جدة البلد، وأيضًا بالنسبة للكثيرين، تذكيرًا بوداع لعلّنا قمنا به جميعًا في وقت ما لشخصية الأم المحبوبة.
الشعور بالانتماء
يتعرف المشاركون في الطابور على بعضهم البعض، ويستمعون إلى ما يقوله جيرانهم، ويخبرون بعضهم البعض بكل أنواع القصص والذكريات -من يدري أي حبّ سيولد بفضل الطابور؟ إنهم يتقاسمون الماء والطعام، ويبنون للحظة تلك المدينة الفاضلة لشعب موحد تحت نفس الملكة -ميتة، حسنًا، لكن مع ذلك.
إنها أيضًا طريقتهم لصنع ذكريات سيتم روايتها والسخرية منها لأجيال: “وقف جدي المجنون في طابور طوال اليوم لرؤية الملكة في نعش!”، يمزح صحفي في بي بي سي. الذي أبلغ عن تجربته على تويتر. ويقول إنه وقف في الطابور لمدة ثماني ساعات دون أن يقصد ذلك حقًا في البداية، وشعر أنه “جزء من شيء ما».
يُعد الطابور أكثر عرض للحب تنظيماً وانضباطًا وللأسف سعادة رأيناه منذ فترة طويلة. إنه أيضًا طريقة لجميع الناس ليقولوا وداعًا، ليس فقط للملكة، وانما لعصر كامل، لإغلاق أحد الأبواب الأخيرة في القرن العشرين قبل التخلص من المفتاح.
ان الطابور، هو حدث اجتماعي وأنثروبولوجي يستحق أن تدرسه أجيال من العلماء.
وقد يكون “الطابور” عنوان مسلسل على نتفليكس. بالنسبة للبريطانيين، سيبقى الطابور لحظة تواصل وحزن جماعي لا تُنسى. وبالنسبة للفرنسيين، هناك فرصة للقيام بالكثير من التلاعب الابله بالكلمات حول هذا الطابور لفترة طويلة الى درجة أنه لن يفاجئني إلا نصفها عندما أراها من الفضاء.
لكل تقاليده الخاصة.
------------------------------
*مترجمة، ومؤلفة كتاب لغة ترامب.