رئيس الدولة: الأولوية لوقف عاجل لإطلاق النار في غزة ومواصلة تدفق المساعدات الإنسانية
اعتاد أن يحيط أعماله بالكتمان الشديد
كريستوفر نولان: "الأوديسة" يمثل تحدياً مصيرياً لي بعد "أوبنهايمر" 2023
في مثل هذا الوقت من العام المقبل 2026 سيكون عشّاق السينما على موعد مع حدث سينمائي قد يشكل لحظة استثنائية في الفن السابع، حين تُعرض رائعة كريستوفر نولان عن القصيدة الملحمية الإغريقية الأعرق في التاريخ "الأوديسة".
الترقب المصحوب بالحماسة في السينما ظل مقترناً بأفلام الحركة والآكشن والخيال العلمي، ولكن أن يكون ذلك من نصيب فيلم ينتسب إلى السينما الصعبة والطويلة وذات التأملات الفلسفية،
فهذا ما ليس مألوفاً.
كأنّ المخرج البريطاني الأميركي يدرّب جمهوره على الصبر، ويحفزهم على الرؤية النقدية للعالم والوجود والأخلاق والزمن والمصائر التراجيدية. وما يثبت جدارة انتظار العمل المقبل تصريح أدلى بها أحد مؤدّي اللقطات الخطرة في الفيلم قال فيه إنه لن يتم إنتاج فيلم كهذا مرة أخرى.
وصرحت شركة يونيفرسال بيكتشرز للإنتاج السينمائي،
أواخر العام الماضي، على منصة (X) أنّ العمل الجديد "سيتم تصويره في أنحاء العالم"، و سيؤدي دور الملك اليوناني "أوديسيوس" الممثل مات ديمون الذي ظهر في ملصق ترويجي أثار بعض اللغط حول ما قيل عن أخطاء تاريخية. ويرجح أن يشارك في الفيلم تشارليز ثيرون وتوم هولاند وآن هاثاواي وزندايا ولوبيتا نيونجو وروبرت باتينسون.
فيلسوف السينما المعاصرة
بيْد أنّ صاحب ثلاثية "فارس الظلام" اعتاد أن يحيط أعماله بالكتمان الشديد حتى إنه لا يخبر ممثليه، أحياناً، بنهايات أفلامه، خشية تسرّبها إلى الإعلام قبل العرض. لذلك لا تتوفر معلومات عن الكيفية والرؤية والمعالجة السينمائية التي سيجري تقديم "الأوديسة"، مع أنّ المساءلات الفلسفية ذات الطبيعة الوجودية هي الرفيقة المفضلة لدى المخرج الذي يوصف بأنه "فيلسوف السينما المعاصرة".
ومن المتوقع أن يتتبع الفيلم رحلة أوديسيوس، الملك اليوناني الأسطوري لإيثاكا، في عودته المحفوفة بالمخاطر إلى الوطن بعد حرب طروادة. ويُعوَّل على لقائه زوجته "بينلوبي" التي ظلت وفية لحبه، ورفضت عروض الخطبة التي قدمت إليها، فأضحت رمزاً للوفاء والتضحية في زمن المؤامرات والغدر. فكيف يتعامل كريستوفر نولان مع هذا الحدث، وفي أي إطار، ومن أية زاوية؟
المهمة في "الأوديسة" تمثل تحدياً مصيرياً لنولان بعد فيلمه "أوبنهايمر" 2023 الذي وصف بـ"التحفة الفنية"، والذي حصد جائزتيْ أوسكار عن أفضل فيلم وأفضل مخرج،
وحقق إيرادت قاربت المليار دولار، رغم الطبيعة المعقدة للفيلم الذي جاء في ثلاث ساعات، في استفتاء بالغ الدلالة على أنّ المعالجات الفنية التي تحترم العقل وتوقر الذائقة تجذب الجمهور وتنال إعجابه.
ومنذ بداياته قرر نولان الإخلاص للفكرة السينمائية كاسياً إياها روحاً قلقة وثابة تتصادم مع الصور المتعددة للحقيقة. ففي فيلم قصير أنجزه في بداياته السينمائيّة (1997)، يتحدّث كريستوفر نولان عن رجل يسحق حشرة بقدمه، ليكتشف فيما بعد أنه قد سحق نفسه. الفيلم كان من ثلاث دقائق كشفت الطريقة التي يتعاطى فيها هذا المخرج مع العالم المعقّد.
تلك الدقائق الثلاث صاحبت نولان في مسيرته السينمائية التي تجلت في فيلمه الأخير "أوبنهايمر" الذي احتاج فيه إلى ثلاث ساعات من أجل أن يقول إنّ رؤيته لذلك العالم الذي يسحق فيه رجلٌ حشرة، ما تزال قائمة وتزداد تعقيداً، إننا الآن إزاء رجل يسحق العالم، ويهدّد البشرية بالموت والفناء، فيما هو في الحقيقة يكشف عن مَنازع ذاته المتوترة، المتناقضة، المنفصمة، المدمّرة.
وأشدّ ما يلفت الانتباه في الفيلم الذي أداه، بل عاشه وغرق فيه الممثل كيليان مورفي الذي عمل مع مولان في جزئين من أفلام "ثلاثية الظلام"، أنّ البناء النفسيّ للعمل لم يكن ليتحقق لولا تلك الإضافات التي صهرت رؤى المخرج مع جهد الممثل، حتى ليكاد أن نقول إنّ مورفي مشارك أساسي في إخراج الفيلم، وليس في تمثيله وحسب.
بروميثيوس الأميركي
وفي منأى عن نولان ومورفي، ونص الفيلم المأخوذ عن كتاب السيرة الذاتية "بروميثيوس الأميركي: انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر"، فإنّ الشخصيات والأحداث تبدو ثانوية،
بمعنى أنّ الفيلم ليس عن القنابل التدميريّة الساعية إلى إفناء العالم، ولا عن سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ولا عن الظروف التي أرغمت اليابانيين على الاستسلام عقب هزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية.
الفيلم يتكىء على تلك الأحداث، لا ليستعيدها، ففي ذلك حُمْق لا يجرؤ عليه نولان، بل إنّ الفيلم يتجسّد كمرافعة أخلاقيّة بخصوص المعاني القصوى للوجود والعدم. ومن يلاحظ ترسّبات فلسفة الوجود في روح الفيلم وخلفيته، فهو محقّ، لكنّ تلك الأسئلة الفلسفية الحارقة لا تسعى إلى إجابات، ولا تتوخّى إنتاج معنى محدّد ونهائي.
إنّها تقذف في وجه العالم نفايات تبجّحه وركاكة ضميره وامتلاءه بالأكاذيب،
وهذا ما يُغوي مخرجاً مثل نولان يتحدّى صبر المشاهد في ثلاث ساعات، ويحشد خلالها كّ ما من شأنه أن يؤثث للحظة المنتظرة: خواء الإنسان، بؤس الحضارة الغربية، تهافت الضمير، علوّ كعب التبرير حتى لو كانت الأجساد المسلوخة بفعل الصهر النووي لها تحدّق في العدم.. إنها تظل تحدّق فيما عظامها تذوب.
وفي لحظة من أشدّ لحظات الفيلم مأساوية (وما أكثر تلك اللحظات في هذا العمل) بعد الانفجار العظيم الذي يستبطن مؤشرات دمار العالم، يسود صمت فادح لا تقطعه إلا أنفاس أوبنهايمر، الذي يعقبه صوت "الآن صرتُ الموت، مدمرَ العوالم" من الكتاب المقدّس الهندوسي البهاغافاد غيتا.
الفيلم، وهنا تتجلّى براعته، يحاكم حقبة من أخطر حقب التاريخ الإنساني، من خلال شخصية عالم فيزياء يعد "أبا القنبلة النووية"، وأشدّ الأشخاص الملعونين في التاريخ.
وما يجعل أوبنهايمر شخصاً "استثنائياً" أنه لم يشعر بالندم، بل لم ينطق بأية عبارة تشير إلى أنه وافق على الضغط على الزر الأحمر المدمّر بدافع آخر غير دافع الإفناء، واستئصال الحياة، محمولاً بطاقة التبرير التي تخلع على فعله أوصافاً أخلاقيّة، مثل الردع النوويّ، حماية أمريكا والعالم من الروبوتات (المقاتلين) اليابانيين، زرع بذرة السلام في العالم، وكلها ذرائع يسوّقها الخطاب الرسميّ في العالم "المتقدّم"، ويصبغها بالمشاعر.
الاختلال الأخلاقي
عن هذا الاختلال الأخلاقي يتحدّث الفيلم، وبهذه الشجاعة الفلسفية الناقمة على مجتمع "أوبنهايمر"، ومشروع مانهاتن، يكشف هراء المباركة الرئاسيّة الأميركيّة لإذابة اليابانيين وصهر آهاتهم، من دون أن يرفّ لهؤلاء جفن. أين المحرقة الفلسطينيّة المستمرّة من ذلك كله؟
وفيما تهتز الأقدام كقرع طبول في صالة الاحتفال بإنجاز أوبنهايمر المدمّر، يورد الفيلم مشهداً آسر لغوص قدم العالم الفيزيائي في رماد جثة محترقة، فيما ارتسم الهلع على ملامح الرجل المكرَّم.
وهو هلع أقلّ مما أحدثته لحظة تسميم التفاحة التي كادت أن تودي بأستاذه لولا التنبيه الأخير، وفي ذلك التنبيه تكمن أسرار التناقض في شخصية هذا الرجل الممتلىء بالعتمة والنور،
بالخير والشر، بالرغبة والألم، وبالتوق الشديد لإحضار زهور إلى حبيبته التي تمقتها وتلقيها، كلّ مرة، في سلة المهملات.من أشلاء هذه التمزّقات المتناثرة على قارّة لا متناهية من الوعي المتشظّي، ينسج نولان أسطورته السينمائيّة، بعين شاعر، وروح فيلسوف،
وتطلّع ثائر، محدّقاً في "أوبنهايمر"، ليس بوصفه بروميثيوس الذي سرق النار والمعرفة والعطايا ليهديها إلى البشر،
بل باعتباره الشر ذاته مجسّداً، ليس في شخصيّة عالم فيزياء، بل بحقبة انسلخت فيها الأخلاق وذابت، حتى غدت رماد جثة محترقة يغوص فيها العالَمُ، وما زال، حتى ركبتيه!