العالم الحالي هو العالم الذي تخيّله:

كيسنجر: درس لأوروبا من معلم الواقعية السياسية...!

كيسنجر: درس لأوروبا من معلم الواقعية السياسية...!

-- تتنزل العلاقات الدولية على المدى الطويل، وتتطلب شجاعة يبدو أنها غالبًا ما تفلت من أيدي الأوروبيين اليوم
-- فتحت الواقعية السياسية «على طريقة كيسنجر» حقبة جديدة في العلاقات الدولية
-- لم تعد أوروبا تكتب التاريخ، وأصبح مصيرها يقرره الخصوم
-- انحرف الاتحاد الأوروبي إلى دبلوماسية ســـــاهمت فقـــط فــــي عزلــــه وتحقيـــره
-- يتطلب فن الدبلوماسية عمودا فقريا فكريا وشخصية


عمق فكري، رؤية، جرأة: بحث مثير يحدد ما يميّز وزير الخارجية الأسبق -البالغ من العمر 97 عامًا -وتفتقر إليه الدبلوماسية الأوروبية.  هناك مفارقة مأساوية في ملاحظة عدم قدرة أوروبا على تجسيد زعامة دولية بينما الدبلوماسية الأمريكية، عبر التاريخ، تتغذّى من العقول الأوروبية الأكثر ذكاءً لتوجيه سياستها الخارجية.

  وتوني بلينكين، هو أحدث تجسيد لهذه “المنتجات الأوروبية” في خدمة أمريكا. في يناير الماضي، تولى هذا الرجل الفرنكفوني المثالي، والذي قضى شبابه في باريس، منصب وزير الخارجية متشبّعا بالذاكرة التاريخية للقارة العجوز التي نقلها صموئيل بيسار، صهره ومعلمه وأحد الناجين من الهولوكوست.
   لكن بلينكين هو وريث خط ونهج... كانت مادلين أولبرايت، المولودة في براغ، تشيكوسلوفاكيا، أول امرأة تشغل نفس منصب وزيرة الخارجية، في عهد بيل كلينتون (1996-2001). وقد سبقها في قمة الدبلوماسية، الأمريكي البولندي المؤثر زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر (1977-1981). وقبله ايضا، كان هنري كيسنجر -98 عامًا في 23 مايو -وهو أكثر من طبع بعمق الجغرافيا السياسية الأوروبية والعالمية.

   ولد هنري عام 1924 في فورث، بافاريا، لعائلة يهودية، فر هنري الشاب من النازية عام 1938 مع والديه ليحقّق مصيره. درس في جامعة هارفارد بعد الحرب، وأصبح اليد اليمنى لنيلسون روكفلر، حاكم نيويورك. بعد ذلك، تولى رئاسة الدبلوماسية الأمريكية طيلة سبع سنوات، وأكد ذاته باعتباره المستشار الأكثر نفوذاً لرئيسين متعاقبين، ريتشارد نيكسون (1969-1974) وجيرالد فورد (1974-1976).
   في بحث مضيئ “هنري كيسنجر، الأوروبي”(عن دار غاليمارد)، وضع المحامي جيريمي غالون، 35 عامًا، هذا السياسي الماكر على مستوى ميترنيخ، الدبلوماسي النمساوي الذي كان دوره حاسمًا في تحديد معالم أوروبا ما بعد نابليون خلال مؤتمر فيينا عام 1815.
   ينتمي كيسنجر إلى فئة السياسيين الذين صنعوا التاريخ. في السبعينات، كان مهندس التوازنات الكبرى في العالم، وكاد يتفوق على نيكسون وفورد بذكائه المتبصر والاستشرافي. ضربته الرئيسية؟ الإعلان عن التقارب بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية في 15 يوليو 1971 خلال خطاب قصير متلفز للرئيس نيكسون (الحزب الجمهوري) ... حركة بيدق جديرة بالتبييت في لعبة الشطرنج.

«أمريكا ليس لديها أصدقاء أو أعداء دائمون” (هنري كيسنجر)
   كتب غالون، الذي كان مستشارًا لسفير الاتحاد الأوروبي في الولايات المتحدة، أن “العالم انتابته الدهشة إثر ذلك حيث نجح الرئيس الأمريكي في مفاجأة وسائل الإعلام وخصومه الديمقراطيين، وكذلك السوفيات والفيتناميون الشماليون الذين فهموا أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد على حليفهم الصيني القوي لإضعاف القوات الأمريكية. أما بالنسبة للاتحاد السوفياتي، فقد فرضت عليه الولايات المتحدة علاقة ثلاثية مع الصين. وكان نيكسون يدرك جيدًا أن مثل هذه العلاقة الثلاثية لا يمكنها الا أن تخلق توترات بين القوتين الشيوعيتين، وبالتالي دفع السوفيات نحو سياسة الانفراج التي كان البيت الأبيض يتوق إليها«.

   اقتداءً بمثال القوى الأوروبية عام 1815، أظهرت الولايات المتحدة استعدادها لتكون جزءً من لعبة معقدة لتوازن القوى. لأنه، منذ بداية الحرب الباردة، كانت الطبقة السياسية في واشنطن تميل إلى التفكير في العلاقات الدولية من منظور أخلاقي، حيث يتعارض معسكر الخير ومعسكر الشر، الذي تجسده الأنظمة الشيوعية. “أمريكا ليس لديها أصدقاء أو أعداء دائمون، لها مصالح فقط”، هكذا يشرح البراغماتي الذي يكره الأيديولوجية، ويضع مصلحة الولايات المتحدة فوق كل اعتبار.

   فتحت الواقعية السياسية “على طريقة كيسنجر”، حقبة جديدة في العلاقات الدولية. ما تلا ذلك هو فترة من الاستقرار، المنصوص عليها في مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا -وهي عملية حوار بلغت ذروتها في صيف عام 1975 عندما تم التوقّيع على اتفاقيات هلسنكي، من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وكندا وجميع دول أوروبا، باستثناء ألبانيا.

   بعد التوترات بين الشرق والغرب في الستينات (أزمة الصواريخ الكوبية، وبناء جدار برلين، وحرب فيتنام، وغزو تشيكوسلوفاكيا)، توافق الانفراج مع تجاوز منطق الكتل، وأضعف مصداقية الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية، الأمر الذي سيؤدي بعد خمسة عشر عامًا إلى سقوط الجدار. باختصار، العالم الحالي هو العالم الذي تخيله “المستر ك.»

   بحلول سبعينات القرن الماضي، وصلت هالة مترنيخ الحديث -الذي، على غرار نيكسون، يفكر ويتنفس “دبلوماسية” -إلى أبعاد لا يمكن تصورها: رسمته مجلة نيوزويك على أنه سوبرمان واعادت تسميته بـ “سوبر ك”، بينما صدرت “لاكسبريس” الفرنسية بعنوان رئيسي عن “سلام السيد كيسنجر».
   غنيّ بالحكايات، ينيرنا كتاب “هنري كيسنجر الأوروبي”، أيضًا حول السحر والتأثير الذي يمارسه هذا الذي اكسب وظيفة وزير الخارجية بعدا شعبيا. “عام 1972، يكتب المؤلف، كشفت دراسة استقصائية لأرانب بلاي بوي، تلك الشابات في نوادي بلاي بوي التي يُطلب منهن أحيانًا أن يصبحن رفقاء في اللعب، أن كيسنجر هو الرجل الذي يفضلون أن يكون لهم موعد غرامي معه”. نجاح غير متوقع لصاحب الأربع عيون هذا الذي، حسب مدلكه، “لا يملك عضلة واحدة في جسده”. وقد اجاب سيد الدبلوماسية بهذه الصيغة الشهيرة: “السلطة هي المنشط الجنسي المطلق».

   ومع ذلك، فإن جيريمي غالون، الذي يرأس مكتب استشارة جيوسياسية في بروكسل، ويُدرّس في ساينس بو، ليس غافلًا عن الجانب المظلم لـ “هنري”، ولا سيما حملات القصف على كمبوديا ولاوس (ثم القواعد الخلفية للفيتناميين الشماليين)، والدعم الأمريكي للجنرال بينوشيه خلال انقلاب عام 1973. ودون البحث عن أعذار، يعيد الكاتب مجمل هذه الأحداث المعقدة الى سياقها التاريخي.

«كيسنجر يتحمل مسؤولية الإجراءات والقرارات غير الشعبية»
   في فيتنام، بالنسبة لكيسنجر، يتعلق الأمر بمحاربة تقدم الشيوعية على نطاق عالمي، وفي نفس الوقت، التفاوض على اتفاقيات باريس لإنهاء الصراع (الذي بدأه أسلاف نيكسون). وفي تشيلي، لا يستطيع وزير خارجية الولايات المتحدة ورئيسها ببساطة، بعد الهزيمة في جنوب شرق آسيا، تحمّل خسارة أمريكا الجنوبية، التي كانت “مكهربة” و “منوّمة مغناطيسيا” من قبل “ساحر الثعابين” المسمى فيدل كاسترو.
    لقد “اتخذ كيسنجر بعض القرارات والإجراءات التي لا تحظى بشعبية عندما كان مقتنعًا بأنها تخدم مصالح أمريكا، مدركًا أنها ستكسبه كراهية وانتقاد نخبة حبيسة رفاهها الفكري الذاتي”، يقول غالون، والذي يضيف: في الواقع، إنّ البحث عن الاستقرار العالمي هو الذي أدى، على المدى الطويل، إلى سقوط الاتحاد السوفياتي وسمح للولايات المتحدة بربح الحرب الباردة. وكان هذا الانتصار نتيجة الاستراتيجية التي صاغها كيسنجر وطبقها «.

   ولكن، ما هي الدروس التي يمكن أن نتعلمها من مؤلف كتاب “الدبلوماسية”، وهو كتاب جامع، وشهادة جيوسياسية نُشرت عام 1994؟ أولاً، أن العلاقات الدولية تتنزل في المدى الطويل وتتطلب شجاعة يبدو أنها غالبًا ما تفلت من أيدينا اليوم. “منذ فترة طويلة جدًا، يلاحظ الكاتب غالون ببرود، أن الاتحاد الأوروبي قد انحرف إلى دبلوماسية تريد أن تتخللها الأخلاق والمثالية، ولكنها ساهمت فقط في عزلنا وتحقيرنا. نحن الأوروبيين، لم نعد نكتب التاريخ. وفي الأزمات التي تتكشف على أعتابنا وتؤثر بشكل مباشر على استقرارنا، لسنا مدعوين حتى إلى طاولة المفاوضات، سواء في سوريا أو أوكرانيا، كما ان خصومنا ومنافسينا يقررون، من خلال قراراتهم، مستقبل أوروبا. في وقت ليس ببعيد، في يوغوسلافيا السابقة، في قلب قارتنا، لم يتمكن قادتنا من تفادي الرعب «.

  علاوة على ذلك، إن فن الدبلوماسية يتطلب عمودا فقريا فكريا، وشخصية. فقد قام هنري كيسنجر بتأليف حوالي عشرين كتابًا بارزًا، وقد غذى قناعاته العميقة بتجربته المعاشة. لا شك أنه لم يكن واضحًا جدًا بشأن طبيعة الأشياء، ولم يكن ليدرك غريزيًا “الفاشية اليسارية” التي تمثلها “الكاستروية” أو “البريجنيفية” إذا لم يكن مضطرًا، وقد كان طفلاً، إلى تغيير الأرصفة كلما مرّ بجانب الجنود الألمان في شوارع فورث.
   لكن هذا لا يفسر لماذا تبدو الدبلوماسية الأوروبية صغيرة جدا مقارنة برجل الدولة هذا الذي كانت اسماء أصدقائه هيلموت شميدت (المستشار الألماني) ولي كوان يو (رئيس الوزراء السنغافوري) وجورج شولتز (وزير الخارجية الأمريكي). لقد جاءت الزيارة المؤسفة التي قام بها رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، الشهر الماضي، إلى رجب طيب أردوغان، عندما رفض التنازل عن كرسيه لرئيس المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لتذكّر بأن الدبلوماسية العظيمة تتطلب جبلّة وكاريزما.

  وقبل ذلك، في فبراير، جسدت هذا العجز ايضا تلك الإهانة التي تلقاها رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل من فلاديمير بوتين عندما طرد هذا الأخير ثلاثة دبلوماسيين أوروبيين متهمين بدعم أليكسي نافالني.
   أما فيما يتعلق بتأثير فيديريكا موغيريني وكاثرين أشتون -أسلاف بوريل -على العالم، فقد كان في الواقع متناسبًا عكسياً مع طول لقبهما الذي يقطع النفس وصعب تذكره: “الممثل السامي للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية»...«هنري كيسنجر، الأوروبي” (غاليمارد)، بقلم جيريمي غالون، 243 صفحة، يصدر قريبا مايو 2021