7 ملايين نسمة ضحايا الجفاف

كيف عمّقت المجاعة وحرب أوكرانيا مأساة الصومال؟

كيف عمّقت المجاعة وحرب أوكرانيا مأساة الصومال؟


عندما وصلت أوراي أدان إلى مدينة بيدوة منذ ستة أشهر، كانت حبلى ومنهكة وتعاني من نقص التغذية، لدرجة أنها لم تكن تقوى حتى على الأكل. كان الجفاف قد حلَّ فأتى على الأرض في قرية باكال يري الصومالية، حيث كانت تعمل هي وزوجها في الزراعة.
ولتنقذ ابنها البالغ من العمر عامين والجنين الذي تحمله، سارت أوراي أدان لأسبوعين حتى بلغت أقرب مركز حضري وهي في حاجة ماسة إلى الرعاية والماء والغذاء. وعندما وصلت إلى مدينة بيدوة الواقعة في جنوب وسط الصومال، وأحيلت إلى مركز طبي بسبب طفليها اللذين يعانيان من نقص التغذية.
تقول أوراي: “لقد خسرت كل شيء».
وكان طفلها كان قد بلغ مرحلة سوء التغذية الحاد.

وتقول صحيفة “لاستامبا” إن الأرقام مرعبة. فبحسب إحصاءات الأمم المتحدة، تأثّر 7 ملايين نسمة بالجفاف، وأمسوا يواجهون حالات نقص جسيمة في الغذاء، و1.5 مليون طفل عرضة لخطر سوء التغذية الحاد، و1.2 مليون شخص تركوا كل شيء وراءهم منذ بضعة أشهر بحثاً عن الطعام والماء في المراكز الحضرية.

لم يشهد الصومال أمطاراً منذ أربعة مواسم، والموسم الخامس ليس مبشراً أيضاً. والجفاف وحده ليس مبرراً كافياً لهذه الأرقام. أمست الصومال مجدداً ضحية للآثار المتضافرة للتغير المناخي وأزمة الغذاء العالمية والحرب التي استعرت في الدولة لثلاثين عاماً، إذ تُسيطر جماعة الشباب الإرهابية على مساحات شاسعة من المناطق الريفية، وتُحاصر القرى والمدن، وتُهدِّد المدنيين وعُمال الإغاثة.

وبلغت آثار غزو روسيا لأوكرانيا القرن الأفريقي. إن ما يشهده الصومال الآن بمنزلة عاصفة عاتية تسوقه إلى شفير مجاعة جديدة.
ولم تحقق تحذيرات الأمم المتحدة من الأزمة الوشيكة إلا قليلاً. ففي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لم يكن الغزو الروسي لأوكرانيا قد بدأ، وكانت منطقة القرن الأفريقي تُكابد بالفعل ويلات وتبعات موسم رابع آخر بلا أمطار. وأصدرت الأمم المتحدة تحذيرات مُتكررة من أن مستويات الجوع كانت كارثية “لأكثر من عام كامل”، داعية الدول إلى التصرف قبل أن يعلن عن حدوث مجاعة.

في السنة التالية، صرف غزو روسيا لأوكرانيا انتباه العالم أيضاً، وكذلك المساعدات المالية.
وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، شهدت مدينة بيدوة أسوأ حالة فوضى على الإطلاق. وبعدما كانت مركزاً لإنتاج الحبوب الصومالية في الماضي، اكتسبت بيدوة اسم “مدينة الموت” خلال سنوات الحرب الأهلية. وخلال المجاعة التي وقعت عام 1992، مات نحو ثلث سكان المدينة من الجوع والصعاب. وأمسى جلب المساعدات إلى هنا شاقاً على نحو متزايد، فهناك عدد قليل من الرحلات التجارية، فضلاً عن الرحلات الجوية للأمم المتحدة القادمة من مقديشو.
والمؤلم أن الذين وصلوا إلى هذه المدينة من الريف ساروا لأيام وهم يحملون أطفالهم المنهكين. وقال محمد عثمان الطبيب المسؤول عن مركز بيدوة لمراقبة المرضى الذي تديره مؤسسة “أنقذوا الأطفال” إن “الأرقام ومستوى سوء التغذية الذي نشهده عند الأطفال اليوم يطابق ما شهدناه عام 2011».
وعثمان في أوائل العقد الرابع من عمره، ويتذكر أعداد الوفيات في عامي 1992 و2011 لأنه كان موجوداً آنذاك. واليوم، إذ يعيش في مدينة محاصرة في خضم مساعدات قاصرة وأعداد مضاعفة من المرضى الذين يدخلون المستشفيات، يقول عثمان: “لم يُخيل إلي أن هذه الكارثة ستتكرر».

فالناس يطرقون الباب، ويخبرونه بأنهم لم يطعموا أطفالهم منذ ثلاثة أو أربعة أو خمسة أيام.
وفي كل مرة، يفعل ما يمليه عليه ضميره وما في استطاعته؛ فيجلب لهم الأوكسجين، والمضادات الحيوية، والطعام. ويعود إلى بيته متسائلاً مَن الذي ستسوء حالته في اليوم التالي، وما إذا كانت ستتوفر لديه أدوية كافية للجميع، ومَن الأم التالية التي ستقرع باب المركز، وما إذا كان بمقدوره أن ينقذ أطفالها.

«المجاعة” رسمياً
وللإعلان عن “مجاعة” رسميّاً، يجب أن يكون ثُلث أطفال المنطقة على الأقل يعانون من سوء التغذية الحاد، وخُمس السكان عاجزين عن الوصول إلى الطعام، كما يفترض أن يكون شخصان من بين 10 آلاف يموتان يومياً من الجوع المفرط.
يقول د. عثمان إن المجاعة قائمة بالفعل، وإن وقتاً ثميناً يُهدر دون داع، بالضبط كما حدث عام 2011 عندما مات نصف الضحايا الذين بلغ عددهم 250 ألف نسمة قبل الإعلان رسمياً عن المجاعة. ويضيف أن الذين يصلون إلى هنا ما زالوا ضمن الأوفر حظاً رغم أنهم يتضورون جوعاً.
هناك نقص في البيانات المُتعلقة بأولئكَ الذين لا يستطيعون مغادرة المناطق التي سيطرت عليها جماعة الشباب، حيث لا تصل المساعدات الإنسانية ولا يُعلَن حتى عن الأعداد الحقيقية للموتى. فهناك حالات وفاة لا تُسجَّل لأن الجوع هنا أيضاً، كما في أوكرانيا وسوريا، سلاح من أسلحة الحرب. إن الذين يلقون حتفهم اليوم خفيون عن الأنظار، وعندما تتجاوز الأحداث معايير إعلان حالة المجاعة غداً، سيضحون أرقاماً إحصائية لا وجه لها.

هل لون البشرة يُحدد
حجم التعاطف مع البشر؟
أجل، ولذلك يقول د. عثمان إن المجاعة معروفة لدى أولئك الذين يعانون ويلاتها، لا الذين يراقبونها عن بُعد. إنه يدخل الغرف، ويزور الأطفال، ويزنهم، ويتحسس نبضهم وأنفاسهم. وهو يعلم أن الناس يموتون هنا في الصومال تأثراً بالحصبة، لأن اللقاحات لا تصل إلى المناطق النائية، وبحلول الوقت الذي يصل فيه الأطفال وأعينهم حمر وبشرتهم مشوهة، يكون الأوان قد فات. وفي غضون أيام، يموتون بسبب مرض معدٍ استؤصل من أوروبا.
وفي الوقت الراهن، ينتظر العالم أرقام الوفيات وفاء بالمعايير والحدود التقنية لتعريف المجاعة.
وعندئذ، ستكون حتى أرواح هؤلاء الأطفال قد تحولت إلى أشباح.