لماذا لم ينجح أردوغان في التوفيق بين مصالحه والاستقرار في ليبيا؟

لماذا لم ينجح أردوغان في التوفيق بين مصالحه والاستقرار في ليبيا؟


استصعب الأكاديمي البارز في المجلس الأطلسي عماد الدين بادي نجاح تركيا في زرع الاستقرار داخل ليبيا على الرغم من أن هذا الأمر يخدم مصالحها بشكل مباشر.
في موقع “وور أون ذا روكس” الأمريكي، عرض بادي المراحل الأساسية التي مر بها التدخل التركي في ليبيا وهي تفسر سبب التعثر المحتمل لأنقرة في بناء الأمن الليبي.
أساساً، تدخلت تركيا لتأمين مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية الخاصة في ليبيا، لا لجلب الاستقرار لصالح الدولة الليبية. لكن مع دخول البلاد مساراً سياسياً جديداً، سيكون على أنقرة الانخراط في إصلاح فعال للقطاع الأمني معتمد على إعطاء الأولوية للمؤسسات الحكومية عوضاً عن القوات الخاصة والعلاقات الشخصية، وهذا سيفيد تركيا والمواطنين الليبيين معاً.

هدف المرحلة الأولى
لقد تدخلت تركيا في ليبيا عبر طرق مختلفة منذ حقبة القذافي. لكن جذور مساعدتها الأمنية الحالية لليبيا تعود إلى سنة 2019 حين شن المشير خليفة حفتر هجوماً عسكرياً على حكومة الوفاق الوطني. لم تلق الأخيرة دعماً دولياً فوقعت على مذكرتي تفاهم مع أنقرة. شملت الأولى ترسيم الحدود البحرية مع تركيا مما سمح للأخيرة الادعاء بملكيتها لمنطقة اقتصادية خاصة موسعة في شرق المتوسط. بالمقابل، سمحت المذكرة الثانية بتأسيس الإطار القانوني لتدخل تركيا في ليبيا.
نتيجة لذلك، هدفت المرحلة الأولى من المساعدة العسكرية التركية إلى تحقيق غاية عسكرية محددة وهي إيقاف هجوم حفتر. لم يكن هنالك غاية مؤسسية استراتيجية لتركيا غير ضمان نجاة حكومة الوفاق الوطني وبالتالي حماية الاتفاق البحري ومروحة من المصالح الاقتصادية لأنقرة. ونشرت الأخيرة مستشارين عسكريين في قواعد ومنشآت خاصة كما أرسلت مسيّرات تركية وضباطاً لتدريب أفراد ليبيين، وخصوصاً مهندسي طيران شباناً وبعض المهندسين الأكبر سناً من حقبة القذافي.

بين الاقتصاد
والرؤية الإسلاموية
بحسب بادي، طغى على السياسة التركية اعتماد مبالغ به على شبكة من العلاقات الشخصية في صناعة القرار. كانت حكومة الوفاق الوسيلة لتوقيع الاتفاقات والحفاظ على قشرة من الشرعية للتدخل التركي. لكن الجهد العسكري تركز على قادة الميليشيات المحلية وبعض النخب السياسية وأحياناً الاقتصادية. كانت أنقرة انتقائية في تسليح تلك المجموعات. بنت تركيا تعاملها مع البعض على روابط تجارية في القطاع الخاص، بينما اعتمدت على التقارب الآيديولوجي مع مجموعات أخرى. مدت تركيا جسوراً مع أعضاء من تنظيم الإخوان المسلمين وإسلامويين آخرين خلال فترة التعاون التركي-القطري بين 2011 و2014. أمنت الدوحة الدعم المالي والعسكري والديبلوماسي للمجموعات الثورية والإسلاموية ومن بين وجوهها رجل الدين علي الصلابي والأمير السابق للجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة عبد الحكيم بلحاج. مع تقلص بصمة قطر في السياسة الخارجية بعد سنة 2014، تحول مركز ثقل الشبكة الإسلاموية تدريجياً باتجاه تركيا. ومع تصعيد أنقرة تورطها، طورت علاقات رسمية أكثر مع حكومة الوفاق. باختصار، بنت أنقرة مساعدتها العسكرية لتناسب التجزؤ واللارسمية في العلاقات والتهجين في القطاع الأمني الليبي.

فشل في المرحلة الثانية
بعد إيقاف هجوم حفتر، بدأت المرحلة الثانية من مساعدات أنقرة الأمنية. في ما يشبه أكثر الدعم الأمني التقليدي، سعت أنقرة إلى تأمين بصمتها العسكرية في ليبيا والترويج لنفسها على أنها قوة وسيطة. زادت تركيا بشكل كبير تحويلها للتجهيزات العسكرية إلى غرب البلاد وأسست قاعدة لها في الوطية بالقرب من الحدود مع تونس. وأمنت أيضاً حضوراً عبر عدد من القواعد العسكرية في ضواحي طرابلس، كما دربت عدداً من المقاتلين الذين حاربوا تحت لواء حكومة الوفاق، على قاعدة دمجهم في وزارة الدفاع. أجريت تدريبات في ليبيا وأخرى في تركيا. نتجت هذه الخطة عن القرب الشخصي بين وزير دفاع حكومة الوفاق صلاح الدين النمروش ومؤسسة الدفاع في أنقرة. وأشار بادي إلى أن هذا الأمر أوضح مجدداً كيف اعتمد الدعم الأمني على العلاقات المشخصنة.
بالرغم من أن أنقرة سوقت لسياستها على أنها شكل من أشكال إصلاح القطاع الأمني، فشلت المرحلة الثانية من الدعم في تغيير المشهد الأمني جذرياً في غرب ليبيا. بني هذا الدعم على برنامج التدريب والتجهيز الذي لم يشمل تركيزاً كبيراً على تحسين إدارة أو مراقبة الظروف الأمنية. قد يعكس ذلك الاختلافات في هيكليات ليبيا العسكرية، لكنه نتج أيضاً عن علاقات تركيا مع النخب والميليشيات المحلية. قيدت الصراعات الداخلية بين هذه المجموعات قدرة تركيا على الانتقال للعمل مع قوات ومؤسسات رسمية مثل وزارتي الداخلية والدفاع. أوضح بادي أن إصلاح القطاع الأمني هو تدريب طويل المدى على بناء الدول ويتطلب استبدال العلاقات الهجينة بأخرى مع مؤسسات رسمية. لكن جذور وطبيعة تدخل أنقرة ستجعل تحقيق هذا الإصلاح أصعب، بحسب الباحث.

تركيا تفقد أدواتها
تداخلت المرحلة الثانية من الدعم الأمني مع إطلاق منتدى الحوار السياسي الليبي المبني على وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أكتوبر (تشرين الأول) 2020. حوّل هذا التطور حسابات أنقرة فبدأت تبحث عن تحويل وزنها العسكري إلى رأسمال سياسي. لكن علاقات أنقرة المشخصنة تركتها ضعيفة أمام إعادة خلط أوراق سياسية حين أصبح شركاؤها قابلين للاستبدال. في ليبيا، ومن أجل رفع مكاسبها إلى الحد الأقصى، بدأت نخب تبعد نفسها عن تركيا علناً بعدما تسابقت في البداية لكسب دعمها. لكن أنقرة لا تزال ملتزمة بالعملية السياسية الجديدة. هي تدرك أن التصعيد العسكري قد يعرض مساحة المناورة لديها للخطر ويقوض تقاربها مع القاهرة. وهنالك أيضاً العنصر المالي. إن نجاح منتدى الحوار السياسي الليبي سيسمح لحكومة الوحدة الوطنية المقبلة بالوصول إلى عائدات نفطية مجمدة. يحفز هذا الأمر تركيا والنخب المحلية التركية على دعم الحوار.
كتب بادي أنه في هذا الإطار، بدأت أنقرة إعطاء الأولوية للغايات السياسية والجيو-اقتصادية. لا تفسر الآيديولوجيا الإسلاموية كل أسباب التدخل في ليبيا. لقد سعت أنقرة إلى استخدام ترسيم الحدود البحرية لانتزاع تنازلات من قبرص واليونان. ورأت أيضاً منافع اقتصادية في إعادة إحياء عقود وقعتها خلال حكم القذافي واكتساب عقود أخرى مثل إعادة تأهيل شبكة الطاقة الكهربائية الليبية. وبشكل أوسع، يعد التدخل التركي في ليبيا جزءاً من استراتيجية أوسع لاستخدام شمال أفريقيا كنقطة دخول اقتصادي لأنقرة نحو الساحل ودول جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى.

خطأ تركي
إن العلاقات والمساعدات الأمنية التركية يمكن رؤيتها بالشكل الأفضل من خلال الاقتصاد السياسي. في نهاية المطاف، تمت صياغة المرحلتين الأولى والثانية من المساعدة الأمنية وفي ذهن أنقرة الاقتصاد الدفاعي. سعت أنقرة عبر الدفاع عن طرابلس إلى تحقيق توازن بين الكلفة والفاعلية وأرسلت مرتزقة سوريين عوضاً عن الجيش التركي. لم تركز علناً على الأمن الليبي الطويل المدى بل على كيفية استخدام بصمتها العسكرية لتعزيز مصالحها الاقتصادية. يفسر ذلك جزئياً إصرار أنقرة الحالي على صلاحية اتفاقات الترسيم البحرية التي وقعتها مع حكومة الوفاق. وسط هذه الجهود يبدو أن مصلحة أنقرة في بناء إمكانات اللاعبين الأمنيين المحليين بدأت تتراجع. لكن ذلك سيكون خطأ بالنسبة إلى مصلحة تركيا.

ماذا لو واصلت
 مسارها الحالي؟
إن حمل مشاريع وعقود كبيرة في ليبيا يتطلب درجة من الاستقرار. علاوة على ذلك، إن وجوداً عسكرياً أجنبياً مطولاً في المنطقة لا يجلب أي مكاسب أمنية بل يستعدي السكان المحليين. بعبارة أخرى، حتى من أجل تعزيز مصالحها، على أنقرة تبني استراتيجية أمنية كلية. إن رغبة تركيا بالمحافظة على وجودها العسكري وقوتها الصلبة في ليبيا من دون تعزيز أمن الشعب الليبي سينزع الشرعية عن الدور التركي بكل بساطة.
يرى بادي أن المرحلة الانتقالية المقبلة في ليبيا ستكون مضطربة بالنسبة إلى تركيا وبشكل متزايد. سيتعين عليها مقاومة المنافع القريبة المدى والكامنة في تعزيز الميليشيات والعمل مع النخب الفردية. دعا الباحث أنقرة إلى تخطي جذور تدخلها في ليبيا من أجل التركيز على دعم المؤسسات الليبية. وهذا يعني التصدي للبيئة الأمنية المجزأة من خلال تحفيز إمكانات الدولة الليبية. لو واصلت تركيا مسارها الحالي، فستعاندها التحديات الأمنية في ليبيا كما سيضعف نفوذها مهما حاولت جاهدة ترسيخ نفسها في تلك البلاد.