لماذا يمدّ بوتين اليد للأوروبيين في هذا الوقت؟

لماذا يمدّ بوتين اليد للأوروبيين في هذا الوقت؟


رأى الكاتب ليونيد بيرشديسكي في موقع “بلومبرغ” الأمريكي، أنه من النادر أن يوجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مناشدة مباشرة إلى المواطنين في الغرب من أجل القبول والتعاون الودي مع روسيا. ومنذ خطابه الشهير في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، كانت لهجته أكثر تحدياً مما هي تصالحية. ومع ذلك، فإنه في 22 يونيو (حزيران)، في الذكرى الـ80 للهجوم النازي على الإتحاد السوفياتي، نشرت صحيفة “دي تسايت” الألمانية ذات الميول اليسارية مقالاً في صفحة الرأي بقلم بوتين، دعا فيه الأوروبيين إلى التخلي عن الولايات المتحدة كشريك استراتيجي والسير مع روسيا عوض ذلك.

ويملك بوتين ما يكفي من التجربة كي يفهم أن هذا السيناريو غير واقعي. وتراوحت ردود فعل وسائل الإعلام الألمانية على المقال بين الإزدراء والغضب. لكن يبقى تحليل سيناريو الحلم المفترض لبوتين تمريناً ذهنياً مفيداً. وهناك على الأقل ثلاثة أسئلة مهمة تتعين الإجابة عليها: لماذا تحديداً تتسم الدعوة بعدم الواقعية، وهل يمكن ان تنجح من دون بوتين، ولماذا اختار بوتين توجيه الدعوة في 2021- وقت يعاني مع بلاده تدنياً متزايداً في الشعبية في الغرب؟.

قبل أربعة أشهر فقط، كتب الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل عقب زيارة كارثية لموسكو أن “أوروبا وروسيا آخذتان في الإنفصال عن بعضهما. ويبدو أن روسيا تفك ارتباطها بأوروبا وتتطلع إلى القيم الديموقراطية على أنها تهديد وجودي”. لكن في المقال المنشور في صحيفة “دي تسايت”، فإن بوتين وعلى نحوٍ مفاجئ ذكّر بفكرة شارل ديغول عن أوروبا واحدة تمتد من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال أو بحسب وصف بوريس يلتسين سلف بوتين “من لشبونة إلى فلاديفستوك”. وكتب بوتين أنه “ضمن هذا المنطق-منطق بناء أوروبا الكبرى الموحدة بالقيم والمصالح المشتركة-سعت روسيا إلى تطوير علاقاتها مع الأوروبيين».
واستمر هذا السعي، حتى تدخلت الولايات المتحدة “الشريرة” من طريق دفعها حلف شمال الأطلسي للتوسع شرقاً على عكس نصيحة بعض السياسيين الأوروبيين.

(ويذكر بوتين تحديداً إيغون بار، الديمقراطي الإشتراكي البارز الذي كان مسؤولاً عن سياسة التسامح مع الإتحاد السوفياتي للمستشار فيلي برانت، وهذا مرجع يجب ألا يضيع على قراء دي تسايت القريبين تقليدياً من الحزب الديموقراطي الإشتراكي). ومن ثم، وفقاً لبوتين، فإن الولايات المتحدة نظمت الإنقلاب في أوكرانيا عام 2014، ودعمتها أوروبا “بلا هوادة”، مما “تسبب بانفصال القرم». وبدلاً من الإتباع الأعمى للولايات المتحدة، يتعين على أوروبا التعاون مع روسيا حول مروحة واسعة من القضايا، من مكافحة وباء كوفيد-19، إلى إيجاد فضاء اقتصادي وأمني مشترك “لأن روسيا هي واحدة من أكبر الدول الأوروبية، ولأننا نشعر بثقافة لا يمكن كسرها وبرابط تاريخي مع أوروبا».

وكانت ردود فعل وسائل الإعلام الألمانية الأساسية متوقعة. وكتبت مجلة “دير شبيغل” الأسبوعية في عنوانها العريض: “بوتين يعترف بأخطاء –اقترفها الغرب”، كما أنها أشارت إلى أن مد بوتين يده لأوروبا من الصعب أن يتوافق مع أفعال حكومته: والشهر الماضي فقط، أعلنت روسيا واحدة من أقدم منظمات الصداقة الألمانية-الروسية (دي. آر. أي) التي تأسست عام 1992 “منظمة غير مرغوب فيها”.

 وكانت صحيفة بيلت الشعبية أقل ديبلوماسية عندما كتبت إن “بوتين يكذب ويثير الرأي العام في دي تسايت”، ومضت لتقول إن نشر المقال كان “فضيحة”. وقال المعلق الإذاعي توماس فرانك إن مقال بوتين يسعى إلى إثارة الإنقسام، في رد غريب على مقال يدعو ظاهرياً إلى التعاون.

وما أخفق المعلقون الألمان في ملاحظته حول مقال بوتين، هو أن عرض الصداقة يأتي من شخص يملك تاريخاً غير ودي خاص به. وبوتين هو تلميذ السوفياتية المفرطة لروسيا، ولا يعترف بالتجارب المؤلمة لأوروبا الشرقية في ظل الأنظمة التي كانت دمية بأيدي السوفيات، مما جعلها تهرول إلى عضوية حلف شمال الأطلسي فور إنهيار الإتحاد السوفياتي. وبحسب سرديته، فإن ما حصل للقرم كان “إنفصالاً” وليس ضماً، وأن روسيا لم تتنمر أبداً على الدول المجاورة الأضعف. وكانت ألمانيا عالجت الشخصية البارزة في المعارضة الروسية أليكسي نافالني، بعدما أقدم عملاء بوتين على تسميمه حتى كاد يشارف على الموت- وبعد أقل من ستة أشهر أودع السجن فور عودته إلى روسيا. إن هذا المثال من التفاعل الروسي-الألماني لم يكن جديراً بالذكر، طبعاً.